الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

“بركات عرجة”.. الفنان التشكيلي لا يرسم إلا لوحة واحدة

بقلم: الكاتب محمد القصير

BARAKAT

الأربعاء 26 آب 2009

 

هو رأي أراد به القول أن لكل منا هاجس لا بد وأن يسير حسب مقتضاه، والفنان أكثر الناس تعبئة للوقوف عند تحقيق هذه الهواجس إلى واقع ملموس، وإن سألته من أنت؟ قال لك وهو يبتسم ابتسامة مشوبة بصوت رجولي: «أنا أشعر أنني إنسان أمتد إلى التاريخ الموغل للبشرية».

تكبير الصورة

موقع eSyria التقى الفنان التشكيلي “بركات عرجة” يوم الثلاثاء 25 آب 2009 في مدينة “حماة” وكان معه هذا الحوار.

* ما رأيك بالحركة الفنية التشكيلة في سورية؟

** أعتقد أن غياب مسطرة القياس النقدي الجمالي عند المسؤولين عن المعارض؟ وغياب التراتبية بالنسبة لعمر تجربة المشتغلين بالمجال الفني، والمستوى الثقافي والفكري للعارضين؟ هو السبب في ترشيد العمل الفني باتجاه التزيين والتنميق وغياب المضمون الإنساني والإغراق في الشكلانية المكررة والمقلدة لتجارب محلية وعالمية. والبعيدة كل البعد عن الخصوصية الذاتية والمحلية. بدون هوية ولا طعم إلا أنها تشبه أعمال فلان أو علان؟؟.

* هل تعتقد أن الفن التشكيلي يلعب الدور المناط به، أم أنه فن ارتبط بالمجتمعات المخملية لا أكثر؟

** في الواقع إن الفنان التشكيلي واقع بين حجري رحى الانعزال والتهميش والموت البطيء من جهة، ورحى المشاركة المذلة وسط غابة من الأعمال البدائية، السطحية، المنمقة، والمزوقة حسب الطلب و(الموضة)، وهذا ما يجعل العمل الفني بحق غريباً، ناشزاً، وبعيداً عن المكانة التي من المفترض أن يلعبها، وفكرة أنه مرتبط بالمجتمعات المخملية، فأرى في ذلك شيئاً من الصواب، فهل تعتقد فقيراً يقتني لوحة ثمنها يفوق دخله السنوي؟ لا أعتقد ذلك.

* هل لديك مشكلة مع لوحة ما، أنت رسمتها؟

** كل فنان يرسم لوحة واحدة في حياته، وفي كل ما رسمه ويرسمه، وما يفكر في رسمه، ما هو إلاّ بحث عن لوحة تسكن في خياله، وكثر هم الفنانون الذين خرجوا من هذا العالم قبل أن يعثروا على تلك اللوحة، بالنسبة لي لم أجدها حتى اللحظة، لهذا لا مشكلة لي مع أي لوحة البتة، لذلك إن في حال المخاض علني أقع على تلك اللوحة التي تسكن في مخيلتي.

* يبدو من كلامك أنك رجل غامض، كذلك أنت في كل لوحاتك، ما هو سر هذا الغموض، وكيف تتعامل معه؟

** في الوقت الذي تقف فيه أمام مشروع لوحة ما، هذا يعني أنك تعرف، أو لا تعرف ماذا ترسم، عندما يكون عندي همّ بناء عمل شعري، موسيقي، درامي، لوني، فيه هارموني، و(كونتراست) أكون عندها أسير باتجاه الوضوح والغموض معاً، فعندما أرسم شجرة فإني أعرف لماذا أرسمها، وماذا يمكن أن تشكل، في الواقع أن أبني بناءً تشكيلياً لا علاقة له الإيماءات ولا الإيحاءات. الهدف الرئيسي أن يحدد الفنان ماهية ما يجب أن يقوم به، فاللوحة المغرقة بالواقعية

“بركات عرجة”.. فنان تشرّب من ماء العاصي

بقلم: الكاتب حسان الأخرس

 

8888888888888888888888888888888

 

الاثنين 04 آب 2008

في مرسم مشترك مع الفنان “موريس سنكري”، يعرض الفنان التشكيلي “بركات عرجة” لوحاته، التي تفاجئك بعبق البيئة المحلية، ومن دون أن يكون مباشراً..
تكبير الصورة

بل على العكس فقد يصل التعقيد اللوني في اللوحة إلى درجة يضيع فيها المشاهد في التفاصيل والملامسات والرؤيا، فتصل بك الحيرة إلى أن تزيد التركيز، حينها يهمس لك “بركات عرجة” في أذنك: «عندما تصل إلى حدود التساؤل، تكوني لوحتي قد حققت غرضها».

“بركات عرجة” إطلالة تشكيلية زخمة

بقلم: الكاتب حسّان الأخرس

107685_2009_12_10_09_25_27

 

الخميس 10 كانون الأول 2009

 

في بيئة أضلاعها حواف مستطيل عتيق، ولد الفنان “بركات عرجة” ليضع بصمته التشكيلية، لينتمي من حيث شاء له اللون والقماش إلى المدرسة الواقعية التعبيرية، فأحياناً تسيح المسافة التعبيرية على مسافة اللوحة، وأحياناً أخرى يمد الواقع رأسه بجرأة، فيختفي شكل الإنسان ليتحول إلى بقعة لونية.

من هو بركات عرجة ؟

بقلم: اللجنة الثقافية

 

 images

فنان تشكيلي من مواليد “حماه” 1945

خريج دار المعلمين في “حلب” قسم الشعبة الفنية عام 1967

عمل مدرساً للرسم في عدة مدارس ابتدائية واعدادية ومعاهد اعداد المدرسين

بالإضافة لفن الرسم له اهتمامات في النحت

له 7 معارض فردية بالإضافة إلى مشاركته في عدة معارض جماعية

أول معرض فردي له كان عام 1968م وآخر معرض عام 2006م

شارك في كل نشاطات فرع اتحاد الفنانين التشكيليين في “حماه”

عندما كان طالباً في مركز الفنون التشكيلية حصل عام 1968-1967م على الجائزة الثالثة على مستوى القطر

والجائزة الأولى لنقابة المعلمين سنة 2000م

بالإضافة إلى شهادات تقدير من اتحاد الفنانين في “حماه”

أعماله مقتناة في العديد من البلديات والوزارات والدول الأجنبية.

 

 

بركات عرجة في قلوبنا

بقلم: اللجنة الثقافية

 

CIMG1133 [640x480]نسخ

CIMG1136 [640x480]نسخ

 

بركات عرجة هو فنان من مدينة حماه السورية وضع بصمة في مجال الفن التشكيلي عبر أكثر من ثلاثة عقود من الزمن وله كتابات عميقة في مجال الرؤية الاجتماعية وكان ينشرها في الصفحات الثقافية في جريدة الفداء الحموية وشاءت المصادفة أن نلتقي به في معرض الفنان أكرم اسحاق وله معنا عدة صور تشاهدونها في هذا الملف ….

فمرحبا” بالفنان بركات عرجة في صفحات موقع مجلة كفربو الثقافية ونأمل أن يمد الموقع بلوحاته الابداعية وما اختيارنا لهذا الفنان كشخصية لهذا العدد  الا انطلاقا” من تقديرنا لأعماله الإبداعية فأهلا” وسهلا” ضيفا” غاليا” على قلوبنا …
دمتم بخير

 

لماذ اخترنا الروائي حنا مينة شخصية للعدد؟

بقلم: اللجنة الثقافية

575577552

الروائي حنا مينة أثبت في أعماله الروائية التي انتشرت عربياً  وعالميا” وترجمت إلى أكثر من لغة وتركت أثراً عند الناس  , ومما يميز أدبه هو الاهتمام في بيئة البحر فقد كانت معظم رواياته في البيئة البحرية وبين الطبقات المسحوقة… أهلا” وسهلا” بأديبنا الغالي حنا مينة على صفحات موقع مجلة كفربو الثقافية وألف باقة ورد واعتزاز وأطال الله بعمره

حنا مينه في سطور

بقلم: اللجنة الثقافية

3w181007

حنا مينه روائي سوري ولد في مدينة اللاذقية في 9 اذار 1924. ساهم في تأسيس رابطة الكتاب السوريين واتحاد الكتاب العرب. يعد حنا مينه أحد كبار كتاب الرواية العربية. وتتميز رواياته بالواقعية
 
حياته
 
عاش حنا طفولته في إحدى قرى لواء الاسكندرون علي الساحل السوري. وفي عام 1939 عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية وهي عشقه وملهمته بجبالها وبحرها. كافح كثيراً في بداية حياته وعمل حلاقاً وحمالاً في ميناء اللاذقية، ثم كبحار على السفن والمراكب. اشتغل في مهن كثيرة أخرى منها مصلّح دراجات، ومربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية إلى صحفي أحيانا، ثم إلى كاتب مسلسلات إذاعية للاذاعة السورية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، إلى روائي.
 
بداياته مع الكتابة
 
البداية الادبية كانت متواضعة، تدرج في كتابة العرائض للحكومة ثم في كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف في سوريا ولبنان ثم تطور إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة.
 
أرسل قصصه الأولى إلى الصحف السورية في دمشق بعد استقلال سوريا اخذ يبحث عن عمل وفي عام 1947 استقر به الحال بالعاصمة دمشق وعمل في جريدة الانشاء الدمشقية حتى أصبح رئيس تحريرها .
 
بدأت حياته الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية وللآسف ضاعت من مكتبته فتهيب من الكتابة للمسرح، كتب الروايات والقصص الكثيرة بعد ذلك والتي زادت على 30 رواية أدبية طويلة غير القصص القصيرة منها عدة روايات خصصها للبحر التي عشقة وأحبه، كتب القصص القصيرة في البداية في الاربعينات من القرن العشرين ونشرها في صحف دمشقية كان يراسلها، أولى رواياته الطويلة التي كتبتها كانت ( المصابيح الزرق ) في عام 1954 وتوالت إبداعاته وكتاباته بعد ذلك، ويذكر ان الكثير من روايات حنا مينه تحولت إلى أفلام سينمائية سورية ومسلسلات تلفزيونية.
 
رواياته ومؤلفاته
 
معظم رواياته تدور حول البحر وأهله، دلالة على تأثره بحياة البحارة أثتاء حياته في اللاذقية.
 
المصابيح الزرق
الشراع والعاصفة
الياطر
الأبنوسة البيضاء
حكاية بحار
نهاية رجل شجاع
الثلج يأتي من النافذه
الشمس في يوم غائم
بقايا صور
المستنقع
القطاف
الربيع والخريف
حمامة زرقاء في السحب
الولاعة
فوق الجبل وتحت الثلج
حدث في بيتاخو
النجوم تحاكي القمر
القمر في المحاق
عروس الموجة السوداء
الرجل الذى يكره نفسه
الفم الكرزى
الذئب الاسود
الاقرش والغجرية
حين مات النهد
صراع امرأتين
حارة الشحادين
البحر والسفينة وهي
طفولة مغتصبة
المرصد
الدقل
المرفأ البعيد
مأساة ديمترو
الرحيل عند

جائزة محمد زفزاف للرواية العربية للروائي العربي السوري حنا مينة

بقلم: اللجنة الثقافية

271100

روائي البحر وكاتب الكفاح والفرح
باحت جائزة محمد زفزاف للرواية العربية في دورتها الرابعة لسنة 2010, بسرها للروائي العربي السوري حنا مينة، تقديرا لمجمل إبداعاته التي طبعت عقودا من زمن الرواية على الخصوص والمشهد الأدبي العربي بشكل عام.

الروائي حنا مينة من يتم إلى يتم

بقلم: محاسن الحمصي

حنا 1

حين يرخي الحزن وشاحه على القلب، ويصب نهراً في الشرايين، وحين ينطفئ فتيل سراج أيامك، وتذوب شمعة أضاءت دربك، ورافقت ظلمة لياليك، وتجد نفسك، فجأة ، وحيداً تلوح لرفيق غاب.. يعتصر نبضك الغضب ، ولا تملك إلا أحد أمرين ؛ إما أن تنزوي في زاوية وتنطوي على نفسك ، وإما أن تترجم هذا الغضب إلى عطاء وإبداع.

فراق، بُعد، وداع، لا يقاس بالمسافات، الأميال، الكيلومترات، بل هو الرحيل
الأخير والمقام النهائي، والسكن الأبدي في سماء الله.. وحين تكون الشمعة رفيقة الدرب، وشريكة الحياة لشيخ الروائيين العرب والهرم التاريخي المبدع “حنّا مينه” لا تملك إلا أن تبكي بلا دموع. هذا حالي عندما طرقت الباب لأقدم واجب العزاء، وهو الذي حرص على كتمان الأمر عني ، وأنا في إجازتي الطويلة في فرنسا. قبل أن أفرغ حقائبي ، اتصلت به أخبره بحضوري غداً لزيارته. وقبل أن أسأله ، قال بصوت خافت : «أم سعد رحلت..».

في اليوم التالي سافرت إلى دمشق. رهبة الهدوء والصمت أفزعتني و”أماني” تقودني إلى غرفة المكتب ، وهو نائم على الأريكة. هب لرؤيتي ، استقبلني بابتسامته الودودة، كلماته الرقيقة ، لباقته ، وهمس : “كانت تحبكِ”.
تجاهلت الكلمات الأخيرة ، وبي غصة ، ولأداري حزني ، أخذت أبحث معه في الغرفة عن “الروب” والمشط . لاح نشيطا ً، متورد الوجنتين ، تخلى عن العكاز، بدا وكأنه في الستين، لكن في عينيه الزرقاوين بحرا من الأحزان.

جلست أنتظره في الصالون لنشرب القهوة ، وأجول ببصري في أنحاء تلك الغرفة ،
التي جمعتني مع أم سعد آخر مرة .. (أم سعد ) أصبحت بعيدة جداً، فقد دفنت في اللاذقية، لتعانق التراب الذي أحبته..
قال وهو يأخذ مقعده المعتاد ، سنذهب- أنا وأنت- بعد نصف ساعة لتقديم واجب عزاء لأحد الأصدقاء ، وسيكون هناك كتاب وأدباء تلتقين بهم ، وأضاف بنبرة ألم : “أراها في كل مكان، لا تغيب صورتها من أمامي ، عشرة أربعين عاماً.. تركتني، عشت طفولتي يتيماً ، وها أنا أعود إلى اليتم بعد رحيلها. طلبت أمس من بناتي خلع ملابس السواد ، لأن الحزن في القلب والألوان لن تعيد من رحل، وهذه عادة فرضتها التقاليد والعادات التي تأبى التطور”.

لا أملك إلا الكلمات للتخفيف عنه :

الحزن يولد العطاء ، وأنت الكاتب المبدع، عليك أن تكتب أحزانك ومعاناتك على الورق.
من قال لك أني لا أكتب..؟ لقد بدأت في كتابة رواية جديدة ، وأكتب مقالات وأدون وأشغل وقتي في ترتيب ملفاتي وأوراقي ، يساعدني صديقي الناقد السوري المعروف “عاطف بطرس”. فقد اكتشفت أن لدي عشرات الكراتين من الملفات والعشرات من الأوراق المبعثرة ، أهملتها وركنتها فترة طويلة .
- هل ستذهبين معي؟
- اعفني من هذا المشوار، فأنا غير مستعدة، وعلي أن أذهب مبكرة، فعرس ابن خالي الليلة، ويجب أن أكون موجودة.
- دائما تأتين مسرعة والتزاماتك عديدة، وأنا أدعوك إلى الذهاب معي الآن ، وبعدها نذهب (للجرجانية) لتناول العشاء ولا أريد اعتذاراً.
- أود من كل قلبي أن أرافقك لكني لا أستطيع.
- أذهب نصف ساعة للعزاء، وتنتظرين عودتي لنتحدث، يكفي أن أماني أعدت لك الغذاء، ولم تحضري ، فتناولته بارداً وحدي. سيحضر “الفيلسوف” بعد قليل ليرافقني. علي أن أرتدي ملابسي.

يعاملني وكأنني فرد من الأسرة، وابنة له لذا يتصرف معي بحرية وتلقائية، يحدثني بكل ما يجول في ذهنه ولا يحاول التصنع أو التكلف أمامي، وهذا ما يجعلني أشعر
باطمئنان وأني موضع ثقة. يرتدي بذلة مع بلوزة صوفية سوداء، فيبدو بكامل أناقته، ولأن الطقس بارد يضع الـبريه على رأسه، ويلف اللفحة حول عنقه. يلتفت إلي، وهو خارج : “إياك أن تذهبي. انتظريني”.

حنا مينة والقرآن الكريم 

أتبادل الحديث مع أماني وأقدم لها بعض الهدايا ثم أتصل بابنته سوسن لأعزيها، ويمضي الوقت و(أماني ) تحدثني عن بيتها في إثيوبيا بلكنة شامية محببة ، وعن أم سعد و البيت الخاوي ، وعن الأستاذ حين يصلي ليلا من أجلها. لم أحاول استمالتها أو استدراجها لمعرفة المزيد عن الأحداث اليومية، فهي أمينة وصادقة ، وتحترم الأستاذ وتحافظ على أسرار بيته.

لم أكن أفكر في كتابة هذا اللقاء، وما دار من أحاديث مطولة مع الأستاذ فقد سبق وقررت الخروج من جلباب الكتابة عنه ، لكن رأيت أن القارئ، الذي يعتبره “حنا مينه” الجائزة الكبرى التي حصل عليها في حياته، يحق له المزيد من الاطلاع على جوانب إنسانية، ثقافية، وحياتية لهذا الهرم التاريخي والقاموس اللغوي الذي اكتشفت أنه يحفظ القرآن الكريم كله، والأحاديث الشريفة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكنه أن يعطيك الآية والرقم ومن أي سورة، وإن كانت مكية أو مدنية، فضلا عن الكم الهائل من الأبيات والقصائد والذكريات التي لا تنضب، ومتابعة الأحداث المستجدة على الساحة الأدبية والسياسية في عالمنا العربي والغربي.

- ترى لماذا أراد بيع مقتنياته وتحفه الأثرية؟

ليس في حاجة إلى الأموال، وهو يعيش في بساطة، ولا ينظر إلى الحياة من منظور مادي، فقد عاش العمر الطويل يسافر ويقيم في أفخم الفنادق، ولم تبق أية دولة في العالم إلا وكان بها موضع تكريم وترحاب، رغم الشائعات التي طالته بأنه يطلب مبالغ خيالية لإجراء مقابلة أو تنفيذ مسلسل لإحدى روايته، وأعلم أن هناك بيوتاً مستورة عديدة تعتاش على مساعدته ورعايته وفي داخله يسكن
إحساس الانتماء لتلك الطبقة المعدومة والمغيبة ، والتعاطف معها ومساعدتها بطرق عدة ..

فقرة من روايته (حمامة زرقاء في السحب ) والتي كتبها في رحيل ابنته الاثيرة لديه تجول في ذهني وتحملني للغوص في شخصية هذا الرجل ، وأنا انظر الى تمثاله البرونزي وعليه اهداء من الدولة .. فالوصف فيها مازال ينطبق على هذا الرجل الصلب رغم كل ما عانى ويعاني يكتب :
” كان متمرسا بمثل هذا الهبوط النفسي ، فقد عرفه كثيرا في حياته ، وارتفع عليه كثيرا ايضا.
كان يقول إنني أيأس في المساء ، لأعود الى التفاؤل في الصباح ، خائر القوى ، حينا ، ثم أنتفض
فإذا أنا قوي العزيمة حينا آخر ، لقد عالجت نفسي بنفسي بأكثر مما عالجني الأطباء ، والأدوية ،
لحظة القوة في ذاتي ، أقوى من لحظة الضعف ، وهذا الذي انتابني مساء أمس ، كان ضعفا طارئا اغتالني ، أو حاول إغتيالي ، فلم يفلح كعادته ، وها انا من جديد أغتاله ، أنفيه ، أبدده ، كما يتبدد الظلام ، أمام نور ينبلج عن صباح يحمل بين جناحيه الهدوء والسكينة ” .

سر إعلان بيع التحف 

دخل مسرعاً بعد ساعة، طلب قهوة ووصف لي أزمة السير الخانقة وقلة مواقف السيارات في شوارع دمشق القديمة. بادرته :
- لماذا أعلنت عن بيع التحف ، فقد أثار الإعلان موجة من الشائعات والأقاويل؟
- هي مقتنياتي، تحفي ، ممتلكاتي ، ومن حقي التصرف بها كيفما شئت ، لماذا أبقيها موقوفة؟ لكن البعض فسر البيع على أن “حنا مينه” يريد الهجرة من سوريا والسكن في الخارج، وأنا لم أفكر يوماً بترك بلدي ، جذوري. بها ، قدمي تنغرس في ترابها.. عمري كله قضيته فيها ولها، في أفراحي وأحزاني ، فقري وغناي ، تعبي وشقائي، بداياتي، كتاباتي، شهرتي.. فهل أتخلى عن هواء أتنفس به ومنه ؟
سوريا كرمتني ، منحتني الجوائز والألقاب ، وأفخر بذلك ، ورغم وجود الكثير من مجريات الأمور التي لا أستسيغها ولا أتقبلها إلا أنني وفيّ لهذا البلد. ومن يقول إني أعرض تحفي للبيع من أجل المال.. له ذلك ولن أعلق أكثر.

القاريء جائزة الكاتب

يتشعب الحديث بيننا، فنتطرق إلى جائزة البوكر الأخيرة، وفوز الكاتب السعودي عبده خال بروايته “ترمي بشرر” :
- الجائزة في لحظتها تكون جميلة، تفرح الكاتب وتمنحه شهادة دخول إلى عالم الأدب من بابه الأوسع، لكن كما قلت لكِ في أحاديث سابقة إن جائزة الكاتب الوحيدة هي القارئ، وهي التي تخلد اسمه وتبقيه في دنيا الأدب، وتدفعه إلى العطاء الدائم، ومبيعات الرواية دليل على وجود ذلك القارئ المهتم والمتابع. انظري إلى رواياتي، هي حتى الآن الأكثر مبيعاً، وأحياناً تعاد طباعتها، نظراً للإقبال المتزايد عليها، ليس غروراً، ولكن لوجود قارئ متذوق.
- ما رأيك في تكريم الفنانة الكبيرة منى واصف من قبل الرئيس بشار الأسد وإقامة معرض فني يضم لوحات شارك بها رسامون من كافة أنحاء سوريا، وكل لوحة من مشهد مسلسل أو فيلم أو مسرحية لها عربون تقدير؟
- منى واصف حبيبتي وروحي، أعزها من أعماق قلبي. فنانة عظيمة تستحق التقدير والتكريم، مثلت العديد من أعمالي التي حولت للسينما والتلفزيون. أعظم من مثلت على خشبة المسرح السوري ، وهي فنانة عالمية، اتصلت بها هاتفياً في العاشرة مساء أقول مبروك ..مبروك حبييتي. أهنئها، وأفرح دوماً لنجاحها وتألقها.
لا أدري كيف عاد بنا الحديث إلى أجواء الحزن والموت ..!

الماغوط يسرق الدموع 

- اتصلت بالكاتبة العظيمة كوليت خوري أعزيها بوفاة ابنتها، وأعتذر لتأخري في التعزية. كنت مريضاً، ولم أستطع الحضور للتعزية. قالت : تعزيتك ملأت قلبي سكينة..

- حين تذكر الكاتب والمبدع الراحل محمد الماغوط طفرت الدموع من عينيه، وهو يروي قصة رحيله بطريقة أبكتني معه:

- حبيبي وصديقي وأخي الكبير والصغير محمد الماغوط، سميه ماشئت، بالنسبة لي .
محمد الماغوط… لم يبق أحد وعلى مدى أسابيع بعد رحيله
إلا وعدد مناقبه ،هو كاتب عظيم لا يعوض ، فقد تـُرجم له عشرون عملا إلى لغات عدة. حاربوه حين قرر أخذ جائزة العويس، والآن بدأ البعض يوجه الاتهام له بأنه وضع زوجته “سنية الصالح” في الظل.
الشاعرة سنية صالح (توفيت بمرض السرطان عام 1985) صاحبة ديوان ” ذكر الورد”، الذي صدر بعد وفاتها بثلاث سنوات، وكان ديوانها الاول “الزمن الضيق” قد صدر عام 1964 وعمرها 29 سنة، وهي شاعرة متميزة لم تأخذ حقها في الشهرة لا في حياتها ولا بعد مماتها! هن سبع بنات أختها الكاتبة والمترجمة والناقدة خالدة سعيد، والممثلة مها الصالح، وبذا يكون محمد الماغوط عديل الشاعر علي أحمد سعيد “أدونيس”، والممثل السوري القدير أسعد فضة.
لم يتزوج بعد وفاتها، واعتنى بابنتيه منها حتى مماته.

يقول الأستاذ : كان محمد يحب النكتة، وقد زرته في مشفى العباسيين قبل وفاته، أحمل له كتاباً، أراد أن يقبلني دون طقم الأسنان، فقلت له خذ الكتاب ولا أريد القبلة. كان يرتدي تي شيرت بيضاء قابلني وهو يتحدث بصعوبة لأنه بلا طقم ، أراد أن يروي لي نكتة، قلت له أجل النكته والسجائر والشرب، وسنلتقي في البيت. بعد يومين وفي الساعة الرابعة بعد الظهر، كنت نائماً، اتصلت بي صحفية من جريدة الحياة . نعم؟… محمد الماغوط مات.. أجهشت بالبكاء.. قالت: أستاذ حنا، دع البكاء جانباً، وحدثنا عن الماغوط فأنت أقرب الناس اليه..
رأيت في كلامها منطقاً، وتحدثت عنه مطولا.
كان يقول : أيها الأدباء “حنا مينه” فوق، أصبح فوق، ولن تصلوا إليه بحسدكم وكلامكم. لن تصلوا إليه إلا إذا أصبحتم كتاباً مثله.
رقم هاتفه على كل رواياتي وأوراقي ، وحين أراه أبكي، وأترحم على هذا الكاتب الرائع الذي أفتقده.
أشعر من خلال بعض الحديث أنك مغرور و معجب بنفسك.
يا ابنتي، الغرور له جوانب سلبية وإيجابية، كما الصدق والكذب والتواضع، لست مغروراً، ولكني أحترم “حنا مينه” العصامي والكاتب والانسان. هأنذا لم أتبدل أو تغيرني الشهرة ولا أدعي ما ليس بي.

فجأة يقول : يا ابنتي، من يشهر في وجهك السيف لا تقابليه بالتسامح، بل بارزيه بسيف. هذا الزمن لا يعرف الأخلاقيات والتسامح والمهادنة، هو زمن لم تعد تنفع فيه مقولة : “وإنما الأمم الأخلاق.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ” النفوس تغيرت، والمعاملة الإنسانية تحولت إلى مصالح وأهداف، وعلى الفرد أن يتطور مع هذا التحول، ويكون صلباً وقوياً كي لا تضيع حقوقه.

آخر اللحظات 

فنجان القهوة رقم … والوقت يمر. أنظر إلى الساعة، وبي رغبة لسماع المزيد من الحكايا والقصص وأبيات الشعر وعن الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح والكاتبة الكويتية ليلى العثمان وأسماء أدبية أخرى قد أعود لذكرها في مواضيع لاحقة، ووصف “سارة” الحفيدة المحببة إلى قلبه.
أستاذ حنا ..؟!
لا تكوني لطيفة جداً في سؤالك. ماذا تطلبين؟
هل لي بأخذ مقتطفات من الحديث الذي جرى في زيارتي ونشره ؟
لك مطلق الحرية في كتابة ما تشائين، ونشر ما تريدين عني، فأنا أحب أسلوبك في الكتابة.. سلسة، بسيطة، وأثق بك وبطريقتك في العرض، وأنا معجب بك، لأنك امرأة جسورة، جريئة ، متمردة، لا تستسلمين أمام الصعاب، لكن يبقى عيبك الطيبة والكرم الزائد.
دائماً، شهادتك تزيدني تصميماً على السعي لأحقق ما بدأت، وكلماتك تعطيني دفعة أمل . هل تأذن لي بالذهاب الآن، وسأعود للزيارة مرة أخرى، وسأتصل بك؟
البيت بيتك، وأنت ابنتي ..هيا سأوصلك إلى حيث تريدين، أنا والفيلسوف.

والفيلسوف مرافق للأستاذ مثقف، ملم في السياسة، الأدب، الفن، ويحفظ عن ظهر قلب أسماء أبطال روايات الأستاذ، وكل ما يتعلق بها.

الحمد لله، أراك هذه المرة، وأنت في صحة جيدة وشباب دائم .
لا تجامليني، أصبحت في الثامنة والثمانين، عمري ليس كما هو ابن الأربعين أو الخمسين.

نهبط الدرج معا، نركب السيارة، يضحك وهو يقول : حنا مينه يوصل محاسن إلى عقر دارها، لأني أخاف عليك كبناتي وأعتز بك .
هذا شرف لي لن أنساه أبداً.
نستمر في الحديث، أتناول من حقيبتي لوح شوكولاتة :
- هذا من فرنسا، اقتسمه أنت والفيلسوف. لا أملك غيره الآن.

نصل إلى الجسر الأبيض، حيث أقيم. ينزل معي، يسلم علي.. أشكره على الزيارة وعلى تعامله اللطيف معي. ينتظر حتى أدخل باب العمارة، ألوح له مودعة، أنتظر السيارة وهي تبتعد بهذا الرجل الشامخ، المتواضع، الحزين الذي يرسم البسمة على الوجوه، وفي قلبه ألف غصة وألف ندبة من جراح الأيام، وهو ما زال قادراً على أن يعطي، يقدم، يخدم ويصر على البقاء شجاعاً حتى آخر العمر …

حـنا مينــة روائي البحـــر العـــربي..

بقلم: ميمون حرش

3w181007

يقول حنا مينة: «اكتشفت أن البحــر وعالمه مجهولان بالنسبة للقارئ العربـــي»

إن حنا لم يقل هذا الكلام ليبهر القارئ العربي، ولم يقله كذلك دون أن يعي أو يعني ما يقول، ذلك أن هذه الأرض البكر/ البحر على حد تعبيره، بالنسبة للأدب العربي، لم يطرقها إلا القليلون،والحق أن معالجة البحر فنيا قلما تُنبه لها رغم «أن البلاد العربية بمجملها واقعة على أطراف البحار» كما يقول سعيد حورانية في تقديمه لرائعة حنا «الشراع والعاصفة»، فلم يكن الكاتب ليسقط قلمه عن الإحاطة بعالم البحر بعد أن جزم بأن هذا العالم بعيد عن القارئ العربي رغم قرب هذا منه، فكان من إحساسه هذا كتابات كثيرة عن البحر وعالمه حتى باتت من الأهمية بمكان دراسة آثار الروائي المبدع حنا مينة بقصد تبين الوحدة بينها، وتتبع تطور اهتماماته التي غالبا ما تنصب حول عالم عائم بالحركة والتناقض، إلى الحد الذي نقف فيه عند جزئيات كثيرة تخص عالم البحر وعندما يتعلق الأمر بالكتابة عنه فإن لذلك أثره على نفسيتنا كقراء، لأننا لا نقرأ البحر حينئذ كما نعرفه نحن، وإنما نتعرفه من خلال وجهة نظر كاتب كبير وهب نفسه لهذا الأزرق الواسع، وآثر الماء مدادا لقلمه، وبمهارة سبر أغواره، و توغل في الأعماق ليميط اللثام عن أدق التفاصيل.

ولن أجانب الصواب إذا ادعيت أو غيري فعل أننا نستطيع أن نحيط بنظرة حنا مينة للبحر لأن نظرتنا إلى أعماله تكون، عندئذ، أشبه ما تكون بعلاقته بالبحر الذي أولى له كل العناية، ومع ذلك يقر بأن هذا العالم العائم أكبر من أن يُحاط به.

إن دعوة حنا مينة الصريحة لغزو عالم البحر إبداعا، لتقريبه من القارئ العربي في رواياته التي تربو عن أكثر من أربعة وثلاثين عملا، تجعلنا نعترف بموهبة غير عادية لدى الرجل، ومن يقرأ رواية “الشيخ والبحر” لإرنست همنجواي من حقه أن يتغنى بهذا العمل الفذ كما تقول الكاتبة السورية نجاح العطار، ومن يستمتع برائعة هرمان ملفل ” موبي ديك” يرفع يده ويقدم تعظيم سلام للإبداع الراقي، لكن سؤالا بدهيا يفرض نفسه:

هل عندنا روائي عربي أولى للبحر أهمية مثل همنجواي، وهرمان ملفل؟

عندما اكتشف النقاد،الدكتور سهيل ادريس خاصة، أن حنا مينة هو “روائي البحر العربي” دون منازع كفونا عناء البحث، وفي الآن نفسه لفتوا نظرنا إلى أعمال حنا مينة الروائية الجديرة بالقراءة.. ومن يقرأ “الشراع والعاصفة” أو ثلاثية حكاية بحار سيفخر بحنا مينة:مجنون البحر كما أحب أن أسميه؛ والنقاد، في كثير من دراساتهم التي خصوا بها حنا، لم يكن أحد منهم يأخذ مجرى آخر غير عالم البحر وكيفية تناوله.

إن هذا الأزرق الواسع استطاع أن يمتلك حنا مينة امتلاكا بعد معاشرة طويلة، وصداقة حميمة لم تكن من النوع الذي يتعذر على الإنسان، البحار خاصة، نسيانها بسهولة.

صداقة حنا للبحر كفتني، كعاشق للبحر، الاستمرار في البحث عمن كتب عن البحر.. إنه روائي البحـر العربي بدون منازع، وإذا كان يؤكد هو نفسه، ويعتبر نفسه نصف مجنون، ونصف عاقل في روايته “عاهرة ونصف مجنون”، فمن حقي أن أؤكد،إعجابا بالرجل،بأنه مجنون، ومجنون، ومجنون لا نصفا، لكن كليا، وبودرة جنونه مستمدة من ملح البحر الذي أحبَّه وبجنون.

معالجة البحر في الأدب عموما وفي الرواية خاصة

لا أحد يماري في أن الأدب العربي قد عرف تطورا ملحوظا ينسحب على جميع مجالاته، ويعم أشكاله وأنواعه التعبيرية، وبصفة عامة فإن الأدب العربي لم يقصر اهتماماته وتوجهاته على موضوع دون غيره، ولكنه رام في هذه التوجهات، كل الموضوعات الممكنة، بل وتطلع إلى عوالم يخلقها من نسيج الحياة، أو يبتدعها من معطيات الواقع في أدق جوانبه الخفية كما هو الشأن في موضوع المقامات، والرحلات الخيالية عبر ما هو عجائبي( رسالة الغفران- التوابع والزوابع) وهو في ذلك كله ليس بدعا في الآداب العالمية، بيد أن التفاتته إلى عالم البحر كموضوع متميز قائم بذاته أمر لم يتيسر بشكل أكثر اكتمالا ن وأبرز خصوصية إلا مع المبدع حنا مينة في أكثر من رواية… وبالطبع فإن هذا لا يعني إطلاقا أن غيره من الأدباء لم يقتحموا عالم البحر، أو لم يتمرسوا بمخاطره، ينضاف إلى ذلك اختلافهم في طبيعة الرؤية إلى هذا العالم المليء بالتناقضات بحيث إن تعاملهم معه ليس في مستوى واحد، وإنما يتبدى،عندهم، في تجليات كثيرة، ومستويات تختلف باختلاف مشاربهم الاجتماعية، ومرجعياتهم الإيديولوجية، والفنية..

هناك عدة قرائن تؤكد هذه الأهمية القصوى التي تُولى للبحر ولعالم البحارة، من بينها سعته، فهو يحتل مساحة واسعة في مجال/ مكان الوجود، في حين يحتل البر مكانا صغيرا بالقياس إليها، فللبحر نسبة %73 ونصيب البر منها هو 17 فقط%، وهو بذلك يفوز بحصة الأسد فلكأن ذلك نوعا من التحدي من البحر الذي يفرض على الأدباء إعارته كل اهتمامهم.

قد لا يكون من المتيسر دائما استغراق عالم البحر و الإلمام به بشمولية، ذلك لأنه عالم عائم بالحركة، والحيوية، والخطورة، والمفارقات.. لا يستقر على حال أبدا ؛ أشياؤه/ مكوناته: موجه، ريحه، مده، وجزره، عواصفه،… في حركة مستمرة، ولذلك يمكن القول بأن للبحر هيبة تستعصي على الإحاطة بها، وإعطائه ما يستحق من الاعتبار والأهمية فكأن لسان حاله يقول: ” تعالوا اقر أوني”..

ثمة أدباء لبوا دعوة البحر فقرأوه بهدف سبر أغواره، واستجلاء مكامن سره، والقبض على مفتاح سحره، وقد تُفسر هذه القراءة بضروب كثيرة من الوشائج القائمة بينهم، وبين البحر، حتى لكأن تعاملهم يتموضع في مستوى تفكيك وحل ألغازه من أجل إضاءة أغواره لإيجاد صيغة للتعايش بينهم جميعا.. من هذا المنطق جاءت أعمال بعضهم تحمل في ثناياها كثيرا من بذور التعايش سواء على مستوى الالتحام الإيجابي إلى حد الانصهار، أو التباعد السلبي قد يقترب من التنافر والمواجهة العنيفة.
البحر في الفن عامة

قبل التطرق إلى استعراض هذه الفكرة أشير إلى أنني سأركز على معالجة الفن بصفة عامة للبحر، باعتبار أن البحر هو موضوع لا يقل أهمية أو يزيد عنها إلا بحسب تعامل الفن معه، فبمقدار توظيفه في توصيل مضمون ما، بمقدار ما يكتسب الأهمية، وذلك سواء في النثر، أو الشعر،أو السينما، أو الرسم، أو المسرح، إلا أنني لن أتعرض لكل هذه الفنون، وإنما سوف أمثل فقط لبعض الأجناس التعبيرية للبرهنة على أن البحر عولج فيها بطريقة أو بأخرى، قد تتفرد طريقة ما في معالجته، وقد يأتي الحديث عنها عابرا بغرض إيضاح جانب من جوانبه..
البحر في الشعــر

لم يكن البحر لدى بعض الشعراء مستعملا للإحاطة بعالمه، وأشيائه بقدر ما كان مستعملا لخدمة بعض أوجه البلاغة، أو الاستعارة،أو الكناية علما من هؤلاء الشعراء بأن البحر عظيم و فريد، عظمة وفرادة تغدوان تيمتين من تيمات أشعارهم من غير التوغل في عالم البحر لإبراز مكامن عظمته، والشاعر إذا أراد أن يبرهن على عظمة اللغة العربية مثلا يلتفت إلى البحر ليحظى بالصورة المبتغاة، يقول حافظ إبراهيم(شاعــر النيل):

أنا البحر في أحشائه الدر كامن فها سألوا الغواص عن صدفاتي؟

ويقول مادحا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:

فأنت بهم كالشمس بالبحر إنها ترد الأجاج الملح عذبا فيرشف

إن تعامل حافظ إبراهيم مع البحر تعامل لا يضفي أي جديد يمكن ملاحظته في هذا الأزرق العائم بالحركة، وبالتناقضات الكثيرة، فالبحر عند هذا النوع من الشعراء عظيم فقط، عظيم لماذا؟ عظيم بماذا؟ كلها أمور يخلو منها شعرهم، وأكثر من ذلك فإن البحر عند بعضهم مجرد تكئة تصلح لأن يسافر عليها المرء، يقول البحتري:

ولقد ركبت البحر في أمواجـــه
وركبت هول الليل في يباس
وقطعت أطوال البلاد وعرضها
مابين سندان وبين سجنــاس

هذه الرؤية ستختلف عند بعض الشعراء اختلافا كبيرا في تعاملهم مع البحر الذي يحظى عندهم بالبطولة، والدور الرئيس في مجمل أشعارهم، هي عِشرة تغدو والبحر نوعا من المغامرة، ونوعا من الخطورة، تصبح معها كتاباتهم عنه التزاما يتحول معها إلى قضية وشيء غير قابل للهزيمة على حد تعبير المرحوم محمد درويش الذي يضيف إلى هذا ويقول:

” أتأمل البحر، وآمل في أنه ما زال كبيرا، وأزرق، وحيدا ومغلوبا على أمره، جئت من الصحراء وبت أشعر بالجفاء لكل ما كان قريبا مني ذات مرة، لذلك فأنا ذاهب لأتأمل البحر، الزبد الأبيض الطري يشير إلى أطراف الموج ينبئ بأكثر من كل تصريحات القادة، العلم، الوطن، الجريدة، الإذاعة، والتلفزيون،أنا ذاهب لأتأمل البحر… مطر يسقط على الماء، ولا حاجة بي إلى البكاء… البحر دموعي.”

الذهاب إلى البحر إذاً إحياء وانطلاقة بعد أن بات الشاعر يستشعر الجفاء في كل مكان قريب منه،في وقت غدا فيه البحر أكبر نعمة، فلم يكن ليخفف من وحشة الشاعر، في استشعاره بالجفاء وتصور الشقاء الذي ينبع من وضع غير طبيعي لمجتمع تسحقه الهزيمة سوى الذهاب إلى البحر ليصرخ بضرورة صد الظالم؛ والبحر في النهاية رمز للانطلاقة، والانفتاح على واقع جديد أناسه يمتلكون قلوبا تمتلئ بالإيمان، وتخلو من كل حقد وضغينة، لكن سؤالا يفرض نفسه:

هل البحر حقا رمز للانفتاح والانطلاق،
وفي الجواب يقول محمود درويش:
بيروت..لا
ظهري أمام البحر أسوار و… لا
قد أخسر الدنيا.. نعم
قد أخسر الكلمات..
لكني أقول الآن لا..
هي آخر الطلقات.. لا
هي ما تبقى من نشيج الروح.. لا
بيروت..لا.

فلا نملك غير أن نحتار بين وجوه هذا البحر المتعددة، فبعد أن كان رمزا للانفتاح يصبح رمزا للسجن، والمنفى، والبعد..

ما ذنب الإنسان أن يعيش تناقضات البحر؟

وللشاعر خليل الخوري قصيدة جميلة بعنوان ” إلى البحر” وقف فيها عند تعددية البحر في كونه يملك وجوها شتى، كل وجه بألف مسحوق، ومخطئ من يدعي أنه يعرف البحر..

هذا البحر الذي كلما اعتقدنا أننا نعرفه نصطدم بحقيقة جهله، يقول خليل الخوري يصف وجوه البحر:

“عظيم هو البحر، أعظم من كل السلاطين، كل المماليك أعرفه أنــــــــــــا
شاهدته هادئا،أنا شاهدته جيشانا وطوفان موج، إذا راح يعلو، وأفلت من طوقه
ثم أزبد،طارت شرارته، جاوز البحر أعماقه، والتقى سطحه
والهدوء الذي فيه، بالقاع، والغليان الذي فيه، آنئذ تبدأ اللعبة الخطـــرة…”

وكلما واصلنا قراءة القصيدة عثرنا على الوجه الآخر للبحر بعد أن نكون قد استأنسنا بالوجه الأول:

“وخطير هو البحر، أخطر من كل شيء، خطير هو البحر في لحظة الغضب
المتعاظم، أخطر من كل أسواره، من سواحله، حين يرتطم السطح بالعمق، والموج بالصخر،
والصخر بالصخــــر
حين تروح سلالم موج تطول السماء، وحين تروح السماء نزولا إلى البحر في لحظة من عناق
النهايات، في لحظة من عناق البدايات ينشق عنها الزمان الذي يلتقي بالمكان، وتبتدئ اللعبة الخطرة..”

فأي عالم هذا الذي لا نملك إزاءه غير الانبهار والدهشة؟

إنه البحر بكل عجائبه، وتناقضاته، إنه مرآة تعكس واقع الفئات التي تعيش بين مده، وجزره،، فهو ثورة،ورهبة،وفرحة،غير أن فرحته غالبا ما تمحي لتترك المجال واسعا لسلطة غضبه، فلا نملك غير أن نقول ما قاله الشاعر علي الصقلي يصف هذا الواسع:

سماء أنت في الأرض استقرت
تعانق أختها من ألف دهـر
تحاكيها سكــــونا، واضطرابـــا
وفي خير تضاهيها وشـــر

البحر في الشعر العالمي

في الشعر العالمي لن نعدم العثور على أسماء لشعراء كبار اهتموا بالبحر اهتماما بالغا، منهم على سبيل المثال لا الحصر: بابلونيرودا، ناظم حكمت، والت وايتمان، سان جون برس، رفائيل ألبرتي…وغيرهم كثير، من بينهم من فرض نفسه فاشتهر به،ولاسيما ناظم حكمت، والت وايتمان وبابلونيرودا؛ ولِوا يتمان الشاعر الأمريكي الكبير مجموعة من القصائد البحرية مثل ” الإبحار في الميسيسيبي”، وله ديوان مشهور هو “أوراق العشب” الذي يعتبره النقاد أعظم الأعمال الشعرية في أدب البحر، واللجوء إلى الطبيعة في العالم، يقول وايتمان:

إن أردت أن تفهمني، فاذهب إلى الأعالي
أو إلى شاطئ البحر
حيث أقرب بعوضة شرح
وحيث القطرة، وخاصة الموج… مفتاح
وحيث القدوم، والمنشار اليدوي
عون كلماتــــــــــــي
في السفن المبحرة، تبحر كلماتي..
إنني أمضي مع الصيادين، والبحارة…
وأحبهـــــم.

ولقد اهتم وايتمان أكثر بالمعارك البحرية بحيث يسجل في قصائده البحرية رؤيته للمعركة البحرية، كما يعبر عن النهاية المأساوية لهذه المعارك التي تسفر عن جرحى، وضحايا، وموتى، يقول:

متمددا، وساكنا، يرقد منتصف الليل
شبحان عظيمان لسفينتين، بلا حراك، فوق مدد الماء
سفننا المنخورة بالقذائف تغرق شيئا فشيئا
نحن نستعد للانتقال إلى السفينة التي استولينا عليها..
أكداس لا شكل لها من الأجساد
وأجسام منفردة
ومزق من اللحم على الصواري، والأعمدة
حبال مقطعة، وحواجز متدلية..

إلى أن يقول في نفس القصيدة:

اندفاق الدم المنهمر، والصرخة الوحشية القصيرة
ثم الأنين الطويل الكابي
هاهو ذا.. ما لا يُستعاد..

إن مثل هذه المعارك البحرية تحمل من الانطباعات والأحاسيس ما يجعلنا نصغي أكثر إلى همس كلمات “وولت” وسط البحر؛ وفي قصيدته ” معجزات” يقول:

أرى البحر معجزة
الأسماك- الصخور- حركة الأمواج
والسفن ذات الرجال
ترى.. كم من المعجزات هناك؟.

وعن هذا المقطع يعقب الناقد أحمد محمد عطية في مؤلفه “الشعر والبحر”:” فالبحر معجزة مستمرة تحتوي الأمواج، والسفن،والصخور، والأسماك، إنه انطلاق بلا حدود، إلى عالم وايتمان، عالم الخلاص والحرية، والعدالة، والمساواة، والديمقراطية”.

إن قصائد والت وايتمان عن البحر تعكس بوضوح عالم البحر بكل زخمه، وبكل ما فيه من معجزات، والبحر عنده حاضر أبدا بالقدر الذي لا يمكن أن نقرأ قصائده دون أن نلفي أنفسنا أمام عالمه، وسط سفينة عائمة، وغالبا ما تكون في صراع مع البحر، وهي فوق البحر، أو مع سفينة أخرى، والبحر مكترث، لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة في مملكته، يراقب كل حركة وهو مهيب الجانب و يصدر أوامره، إنه يحكم بأمواجه، وعواصفه، ورياحه، ومده، وجزره، وحتى بالبحارة، فهم فوقه في أعماق اللجة، أولاده يناغيهم ويهدهدهم.

أما الشاعر التركي الرائع ناظم حكمت، فله من القصائد الشعرية حول البحر ما نحس معه بالتخمة البحرية إن صح تعبيري، حقيقة له قصائد جميلة ماتعة في أدب البحر، ولعل من أهم قصائده:

“العودة إلى البحر”،و “بحر الخزر”؛ ومن النقاد،أحمد محمد عطية منهم، من يرى أن القصيدتين قد أثرتا تأثيرا حاسما في روائي البحر العربي حنا مينة.

والبحر عند ناظم حكمت حياة وقوة، ونضال، وتحقيق لذات الإنسان، ومجال لإثبات قدرته على مواجهة قوى الطبيعة، ذلك هو نموذج رجل البحر، ولا يغيب عن عارف بالبحر كناظم أن يحذر البحارة من غدر البحر، وألاعيب الأمواج، وعنف الريح..

ففي البحر يجد ناظم حكمت فرصة عمره للإبحار، وسط سفن صنعها الإنسان بموهبته وعلمه، وحمايته في معارك الصراع مع البحر..إنه لا يهاب البحر لأنه يطاوله، ويعرف مفاتيح أسراره، ولا يهاب الموت في البحر لأن الموت قدر أكيد لا مفر منه.

ونلحظ عند رافاييل ألبــرتي بأن البحر حياة وبعث للأصوات الميتة على الأرض، فأنْ يمت صوت الشاعر على الأرض لا يعني البتة أنه لن يرتفع صوته بالمطالبة بكل شيء فيه نقد بناء للمجتمع خاصة إذا كان البحر كما يراه رافاييل فرصة سانحة لإعادة هذه الأصوات التي تستمد قوتها من عالم البحر،وكذا من أريحية الربان المتجلية في قوة الشخصية، وعلى إنسان الأرض أن يبدو كما الفارس المغوار، فوق ظهر البحر، وسط اللجة.
يقول الشاعر:

أن يمت صوتي على الأرض
فخذوه إلى مستوى البحر
واتركوه على الشاطئ
خذوه إلى مستوى البحر
واجعلوه ربانا..
لسفينة حربية بيضاء
آه صوتي نزيه
شارات الملاح
على القلب مرساة
وعلى المرساة نجمة
وعلى النجمة ريح
وعلى الريح شراع..

وهذا سان جون برس الشاعر الفرنسي الذي عاشر البحر منذ حداثته يعبر في قصيدة له عن التوتر والقلق، والرتابة التي تواجه الإنسان في مختلف المهن دون أن ينسى معاناة البحارة الذين ينفذ صبرهم إزاء ضيق الدنيا ورتابتها:

نفاذ الصبر، ما يزال يحيط من كل
الجهات: والرجل الغريب، في كل
ناحية يرفع رأسه لكل ذلك الرجل
الفارس في بلاد عارية
…في انفجار على أشرعته.

أما “مغني آلام أمريكا” بابلو نير ودا فقد شغفه البحر، وسكن منه القلب والأهداب، فلم يكن ليعزف عن الكتابة عن عالم البحر، له من القصائد ما يعكس هذه العناية، فهو يعايش الأشياء من الداخل، ويخصها لشعره، ولا شيء يبقى خارجا عن مجال الشعر،لا السماء،ولا الأرض، ولا الحجر، ولا الإنسان ولا الحب…

هكذا يصبح البحر في أعمال هؤلاء الشعراء ملحمة، وعنصرا بارزا له من الخصوصيات ما ينفرد به كل واحد، أمور تحتم على هؤلاء الشعراء/ البحارة، الوقوف على البحر كما وقف الشاعر الجاهلي على الأطلال، لا للبكاء، أو التحسر،وإنما لتبين أسرار هذا العالم وترويضه قصد إحداث حالة من التآلف، والانسجام..

و الباحث عن شعر” البحر” في الأدب العالمي لن يعدم وسيلة، حسبه أن يستقري دواوينهم ليقف على درر بحرية تمنحنا تأشيرة الإبحار في عالم جميل، يغري بتأبط الحقائب من أجل السفر لمعرفة هذا الأزرق الواسع.
البحـر في الرســـــــــم

إن الفن عموما يهدف إلى البحث في غمرة الواقع المليء بالتناقضات عن حياة جديدة فيها كل طموحات الفرد و أماليه.. هذه الحياة الجديدة أبرزها الفنُ عموما في نماذج مختلفة وكانت،في الغالب،المعين على وضع اليد على أهمية البحر كجزء من الطبيعة طالما حاول المرء، منذ فجر التاريخ، السيطرة عليها قصد ترويضها واستخدامها لصالح البشرية.

في فن الرسم مثلا نعثر على لوحات حية تحمل في طياتها صورا مختلفة لعالم البحر لما فيه من حركة وحيوية، والرسم أصلا يحتاج هذه الحركة لأن البحر يسعف الفنان، فضلا عن لمسته الموحية المنتقاة منه، و البحر، عند الرسامين على اختلافهم، قد أملى عليهم نوعا من الدقة في معالجته كتيمة مطروحة في اللوحات، فهو يفترض قدرا كبيرا من الصحو، ودقة الملاحظة، باعتبارهما عنصرين أساسيين يمكنان من محاكاة الواقع وإيضاحه فيما يسهل الفهم والتأثر والمشاركة الوجدانية.

الرسام المصري سيف وانلي أنجز ما يقرب من ثلاثة ألاف لوحة زيتية، لوحات منها خصها لعالم البحر الذي ظل قريبا إلى قلبه حتى الصداقة الغامرة، لقد كانت المراكب، والسفن الذاهبة إلى بعيد هي إلهامه الحزين، وهو إلهام ينطبق على لوحته الخالدة التي أسماها ” البتاتيك” أو “السيمفونية الصادقة الحزينة” برزت فيها وحدة المثلث بما يجعل ناقدا شهيرا مثل فؤاد سليم يقول بأنها، ربما أمواج البحر، وربما أشرعة المراكب المسافرة..ولأن البحر كان هو إلهامه الذي سيطر علي تفكيره، فقد أنجز سيف مجموعات متكاملة تدور في موضوع متحد، (الإنسان والبحر)، و(الإنسان والفناء) و (الإنسان والصحراء).. وهي عناوين تنم عن اهتمام واضح وبالغ بالطبيعة، والعودة إلى سبر أغوارها الدفينة كما تؤكد على مدى معاشرة سيف وانلي للبحر.

وجعل أحد رسامي القرن التاسع عشر الأمريكيين ونسلوهومر البحر تيمته الرئيسة في أعماله الفنية، من ذلك رسمه رجالا أبطالا وهم يضعون قوتهم وذكاءهم في تجربة تحدٍ تجاه البحر، ومن لوحاته التي انفردت بعالم البحر:” خط الحياة، و” تحذير الضباب”.

ويعتبر الفنان جي.م. ديليوتيريز الإنجليزي من أعظم رسامي منظر الطبيعة الأرضية، وتميز بعد ذلك بالرسوم البحرية، ولعل عناوين لوحاته التالية تؤكد ذلك: “تحطم سفينة”، “حطام سفينة شحن”، “سفينة العبيد”، و” السلام: دفن في البحر”.

ومع أن البحر حاضر في ورقة صغيرة بين أيدي هؤلاء الرسامين، فهو مع ذلك يتبدى بكل زخمه، ليعرض من خلاله الرسام عوالم إن لم تستمل المتأمل فقد تلفت انتباهه إلى ما حوله من “ماء”، وإن كان في مجرد لوحة، إنه يغدو عالما من الجمال، والحيوية، وبحرا من المتناقضات..
البحر في السينما..

لم تكن السينما لتغفل موضوع البحر فيما عالجته من قضايا وأطروحات، خاصة وأنها تجمع بين الصوت والصورة، ففي السينما العربية يتصدر الفيلم الكويتي ” بس يا بحــر”[ سنة إنتاج الفيلم 1971، المدة الأصلية للعرض 90 دقيقة.. فاز الفيلم بجائزة النقاد في مهرجان البندقية لسنة 1972].. آثر مخرجه خالد الصديق أن يكون” البحر” هو تيمته الرئيسة كما يدل على ذلك عنوانه،والفيلم يروي قصة جانب من جوانب الحياة في الكويت قبل اكتشاف النفط، ويصور في بساطة، ودقة الكفاح من أجل العيش، والكفاح بين الإنسان والطبيعة المتمثلة في البحر وأخطاره؛ بطل الفيلم يدعى مساعد، شاب يافع يتطلع إلى البحر أملا في الحصول على لؤلؤة تنقذ عائلته من الفقر، وتحقق له أمنية الزواج من محبوبته، لكن أباه شيخ الغطاسين فيما مضى والذي هاجمه سمك القرش وأصابه بشلل نصفي يعترض سبيله لأنه لا يريد أن يذهب ضحية البحر القاسي، ورغم ذلك يصر مساعد على قراره في النزول إلى البحر وهو في أمس الحاجة إلى عطاء البحر، فدامت رحلة مساعد لأربعة شهور بحثا عن اللؤلؤة في قاع البحر، وهي “كنز” تتوقف عليه حياة أسرة، مساعد خاصة..غير أن مساعدا أبحر ولم يعد، فكان هو اللؤلؤة المنشودة التي يطالها البحر.

وبعد هذا المشهد الأليم لنا أن نتصور أمه الثكلى وهي تهيل على رأسها التراب، وفي الوقت الذي يأتيها صديق ابنها باللؤلؤة العجيبة، فما أن تراها حتى تقذف بها إلى البحر وهي تصيح ” بس يا بحر”.

أما فيلم ” تيتاينك” الفائز بجائزة الأوسكار فقد أبهر العالم بمشاهد رائعة عن البحر، لعب فيه المخرج على نقل صور يتبدى فيه البحر قُلب المزاج كاشفا عن وجهه الآخر حين يكشر عن أنيابه..وكل الأعمال الروائية الجميلة التي اتخذت من البحر تيمتها الأساس قد أنتجت سينمائيا مثل ” الشيخ والبحر” الذي أخرجه جون ستورجرز John sturges، أما “موبي ديك” لهرمان ملفل فهي ملحمة بحرية بكل المقاييس زادتها السينما حياة أخرى.و يصف برنارد شو رائعة ملفل قائلا:” منذ عرف الإنسان كيف يكتب لم يوجد قط كتاب مثل هذا، وعقل الإنسان أضعف من أن ينتج كتابا مثله، وإني أضع مؤلفه في مصاف مؤلفات رابله، وسويفت وشكسبير.”

إن الغرض من انتقاء هذه الأمثلة عن البحر وعالمه هو تبيان مدى أهمية البحر في الفن عموما والأدب خاصة، ولقد تجلى البحر فيما سلف بحضور و هيبة، الأمر الذي يدعو إلى الوقوف عند موضوعه، وهو في تداعياته يستدعي تفقد رجل البحر في صراعه مع الطبيعة المتمثلة في البحر: موجه، حوته، ريحه، مده، وجزره،عواصفه..كل ذلك لوضع اليد على الحقيقة المرة في معانقة إنسان البحر لهذا العالم رغم ما يواجهه من أخطار، وكل ذلك من أجل أن يعيش، وأن يعرف المحيط الذي ينتمي إليه، وأكثر من ذلك فصراع رجل البحر مع هذا الأخير نموذج الرجل القوي الذي لا يقهر، والذي ينبغي أن نسير على هذي من منواله في التصدي والتحدي، ونؤمن بأن ما من شيء يمكن أن ينال منا إذا اقتحمنا خصمنا بقوة.

إن مثل هذا الإنسان يؤكد على خصوصية عدم التبعية، والاعتماد على القوة لدحر القوة، ورواية “الشيخ والبحر” تشير إلى هذا المعنى وهي تلخص فكرة أن( الإنسان يمكن أن يُهزم لكن لا يمكن أن يُقهر أبدا..) وكونه المتناهي في حضرة اللامتناهي/ البحر لا ينقص شيئا من صموده وقوته.

أما روائي البحر العربي حنا مينة فلقد تغنى،بأساليب شائقة وشاعرية،بالإنسان البطل الذي يقاوم البحر،في أبهى تجليات هذه المقاومة، بالشكل الذي يجعلنا نتساءل من أي طينة جُبل عليها هذا المخلوق الذي ولد ضعيفا، هلوعا، ومع ذلك هو محافظ دوما على إحدى براعاته في الأرض وهي قدرته على النهوض بعد كل سقوط.

تغنى حنا مينة بشجاعة البحار في صراعه مع البحر، وأوقر في أذهاننا على لسان الطروسي بطل “الشراع والعاصفة” أن “الحياة كفاح في البحر والبر”، وفي صورة جميلة معبرة كعادة مجنون البحر يورد في روايته الرائعة “ الشراع والعاصفة” الحوار التالي بين الملك والملكة حول إنسان الأرض الذي يتحدى مملكتهما المائية..

يرى ملك البحر إلى إنسان الأرض، فوق البحر، وسط اللجة، متحديا الموج والعاصفة، ويبدو سيد مصيره.. فيسأل الملك الملكة:

[” من هو إنسان الأرض هذه؟ إنه مخلوق ضعيف.. دعي الأمواج تداعبه وتصرعه، دعيها تقضي لبانتها في يوم لبانتها”..

ترد ملكة البحر قائلة:

” ضعفه خادع.. فلا تصدقهم، إنهم أقوياء، وأنا أعرفهم، لقد تجولت في مملكتهم كثيرا”..
يصرخ الملك في جيوش الريح:
“…أسرع، أسرع أطلق التيار المجنون، مر الهواء والماء والبرق، مرهم أن يصرعوه، أن يردموه بجبال الموج، مرهم أن يمزقوا شراعه،ويحطموا ساريته، ويكسروا مجاديفه ويبددوا مركبه…ّ” ]

هناك حقيقة يجهلها ملك البحر، وربما يتجاهلها ( الملكة تعرفها وتقر بها ) تلك أن إنسان الأرض، وسط البحر، رجل بكل المعاني المسطورة في الكتب،والمنقوشة على الأحجار،و على جذوع الأشجار… ليس بمعنى الذكورة، لكن بمعنى الأريحية المقترنة بالقوة دوما، والبحر يذكي هذه القوة ولا يضعفها.. يتحداها أيْ نعم، لكنه يباركها كرْمى لإنسان الأرض هذا الذي اعتاد تعريض نفسه للخطر،والذي في نفسه ولاء للأرض، والمحافظة على نظمها التي لا تتغير في البذر والحصاد، أما ولاؤه للبحر فمقترن أبدا بمدى قوته وبطولته التي يتوقف كل شيء فيها على البراعة الفردية، وعلى العزيمة والقدرة على الحركة والذكاء كما يؤكد ذلك الطروسي..

وهي نفس الصفات التي تقف عندها ملكة البحر منبهرة بإنسان الأرض وتقول:

” كم هو قوي، إنه يقف وراء الدفة مبللا، ممزق الثياب، مشعث الشعر مفتول العضل…يا لك من عنيد أيها الواقف على الدفة، يا لك من شجاع، يا لك من بحار”..
..وهكذا نقول مع اٍرنست فيشر بأن الأدب والفن قد كانا منذ الأزل” سلاحا إضافيا عظيما في الكفاح ضد قوى الطبيعة الغامضة”.