الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

“مسير ومصير”

بدأَتِ الأمواجُ تعلو. المياهُ تتسربُ إلى القاربِ المطّاطي بهدوءِ قاتلٍ مأجور. وحدهُ الطفلُ بين ذراعيها أحسَّ بنبضاتِ قلبها المتراكضة. نظرَتْ إلى عينيهِ فوجدتْهُ ينظرُ إليها بإنعام. هربَتْ دموعهُ إلى وجنتيهِ الصغيرتين ليصعقها المشهدُ! لأوَّلِ مرةٍ: طفلها ذو العامينِ

يبكي صامتاً! ركَّزَتْ عينيها عليهِ وهي تحاولُ أنْ تبعدَ فكرةَ أنَّهُ يفهمُ ويتذكرُ ما حاولَتْ يوماً أنْ تفعله!
طفلها كانَ كلَّ ماتملكُ في هذهِ الدنيا انتظرتْهُ سنواتٍ عشر، لا يغفلُ عنْ اسمِها طبيبٌ. باعَتْ وزوجها كلَّ أملاكهما مقابلَ زراعتِهِ في رحمها!
عاودتِ النظرَ إلى طفلها والقطراتُ تنحدرُ من رأسهِ لتجدهُ يرمقها بذاتِ النظرة! ضمتهُ إلى صدرها ومسدتْ لهُ شعرهُ في محاولةٍ منها لتهدئته، لكنَّ الطفلَ صرخَ عالياً وأجهشَ بالبكاء! عندها تحوّلَتْ إلى تمثالٍ من خيبةٍ! أتراهُ يذكرُ؟ ألا زالَ جسدهُ يحتفظُ بتلكَ الرائحةِ؟ أثلجتْ عظامُها حتى فقدتِ الإحساسِ بالماءِ الباردِ الواصلِ لكاحلِ قدميها!
تمنَّتْ لو أنَّ زوجها معها! زوجها الذي تركَها مرغماً، ولمْ يستطعْ أنْ يفيَ بوعدهِ، في وطنٍ باتَ ينزفُ أبناءَهُ كلَّ يومٍ ويفقدهمْ واحداً تلوَ الآخرَ بينَ شهيدٍ ومهاجر!
عندَ رحيلِ زوجها كانَ صغيرها برعماً ذو ثلاثةِ أشهرٍ، وكلُّ ما تركَهُ الوالدُ تذكاراً هو صورةٌ لهما وطفلهُ يحتضنُ بأناملهِ الغضّةِ إصبعه!
كان يوماً هادئاً مقارنةً بغيرهِ منَ الأيامِ التي اعتادوا فيها وابلاً منَ القذائفِ وأصواتِ الرصاصِ والمدافعِ! سقطتْ قذيفتان فقطْ هذا الصباح، إحداهما أصابتِ البقاليةَ التي اعتادَ صاحبها أنْ يعطيَ ابنها قطعةَ سكاكرٍ كلّما مرَّتْ أمامَ محله. أصابتهُ الشظايا في رأسهِ فماتَ على الفورِ! أمّا الثانيةُ فنزلتْ في بناءٍ مهجور، لابلْ بناءٍ هجرهُ سكانهُ لأنّهُ عادَ على العظمِ لكثرةِ مااستقبلَ منْ قذائفَ! أيقظتْ ابنها وبدأتْ بإطعامهِ وهو يبتسمُ ويقفزُ حولها وبأحرفٍ متلعثمةٍ يناديها: ماما… ماما… أحبكِ. ماما… أنتِ حلوة. قبلَّتْهُ بحرارةٍ وقبلَ أنْ تنطُقَ بالرّدِ سمعتْ أصواتاً مرعبةً وصراخَ نساءٍ. قُرِعَ البابُ بشدةٍ. خافتْ. بكى طفلها. ركضَ زوجها إلى الغرفةِ وبصوتٍ مرعوبٍ خافتٍ طلبَ منها الصعودَ إلى العليّةِ معَ الصّغيرِ!
– إياكِ وإصدارُ أي صوتٍ، لقدْ جاؤوا وليسترني الله هذه المرةَ!
– لمَ لا تهربُ؟ سأفتحُ لهمْ وأخبرهم أنكَ رحلتَ!
– أَجُنِنْتِ؟! إن رأَوكِ سيأخذونك سبيةً! أسرعي قاربوا على الوصولِ هيا.
– وأنتَ؟
– أنا معي الله وسأعود لاتقلقي … سينتهي الأمر قريباً!
صعدَتْ إلى العليةِ واختبأتْ خلفَ أكوامٍ من الأغراض التي رتبها زوجها كساترٍ. سمعَتْ صوتهمُ وهمْ يصرخونَ وينعتونَ زوجها بأسوأ الكلمات! حاولتِ الهدوءَ لكنَّ رائحةَ الموتِ والخوفِ كانتْ أكبرَ من قلبِ صغيرها فكانَ يبكي أكثرَ مع كلِّ محاولةٍ منها لتهدئتهِ، إلى أنْ ضمتهُ لصدرها بقوةٍ. الطفلُ يبكي وهي تزيد الضَّغطَ حتى كادَ يختنقُ! انهارتْ بالبكاءِ وسطَ الظلمةِ. أيعقلُ أنْ يكتشفوا أمرها ويأخذوا طفلها منها؟ وهي التي انتظرتهُ عشرَ سنواتٍ! اختفى صوتهم! رحلوا بزوجها! أمّا طفلها فكانَ المبادرَ؛ أمسكَ يدها بأصابعهِ وشدَّ عليها كثيراً وكأنّما يستجديها عطفاً أنْ تتركهُ! عندها فقطْ عادتْ لوعيها وأبعدتهُ عن صدرها لترى وجههُ أزرقَ اللّونِ تئنُ فيهِ الحياةُ كعجوزٍ مريضةٍ! فقدتِ الإحساسَ بالزمنْ إلى أنْ ناداها أخوها لتنزلَ.
– لقدْ… لقدْ سحبوهُ مكبلاً إلى ساحةِ البلدةِ! ضربوهُ حتى الموت! ولم نستطعْ فعلَ شيءٍ! كنّا كالنساءِ الخانعاتِ! قالَ الأخُ بصوتٍ مملوءٍ بالرعبِ والألمِ.
– هلْ تعني بأنَّهم قتلوه؟ لا يعقلُ هذا فزوجي ليسَ سياسياً ولا رجلَ دين؟ سألتهُ وهي تتهاوى على الأرضِ كورقةِ خريفٍ صفراءَ.
– لقدْ رفضَ الانضواءَ تحتَ رايتهم وحرَّضَ عليهم كما اتهموه! يبدو أنَّ الشِّعرَ صارَ جريمةً وزندقةً! على كلِّ حالٍ لا وقتَ لدينا للكلامِ علينا الرحيل، لنذهبْ أولاً إلى الملجأ وبعدها سنهربُ.
مرّت ثلاثةُ أيامٍ وهمْ في الملجأ، معَ منْ نجا من أهالي الحيِّ، لا يعرفون ما يحدثُ خارجاً، إلى أنْ فُتِحَ بابٌ صخريٌ خلفهم وأطلَّ منهُ أحدُ الرجالِ يطلبُ منهم الخروجَ واحداً واحداً عبرَ ممرٍ متصلٍ بالطرفِ الآخرِ من الحيّ!
أَتُرى صغيرها لا زالَ يذكرُ ذلك اليومَ؟ هل يعاقبها الآنَ بعينيهِ على محاولتها تلك؟ لكنها ما كانتْ تقصدُ ذلكَ كانتْ تريدُ حمايتهُ منْ موتٍ قذرٍ ففضّلتْ أنْ يموتَ بين ذراعيها! استقروا في مدرسةٍ تحوَّلت غرفها لمأوىً للنازحين، ظنَّتْ أنَّ الموتَ نسيها إلى أنْ بلغَ الصغيرُ عاماً ونيفاً.
جاءَها اليومُ المشؤومُ، فقد تحولَتِ السماءُ إلى كتلة ٍدمويةِ اللَّون. الغبارُ أحاطَ بالشمسِ يخنقُ أشعتها، والأكسجينُ رفضَ العبورَ إلى رئتَي صغيرها المصابِ بالربو! هرعَتْ تبحثُ عن دواءٍ في كلِّ الصيدلياتِ ضمنَ الحيِّ. كانَ كلُّ ما وجدتْهُ عبارةَ “الدنيا حربٌ والدواءُ مقطوعٌ” عادَتْ إلى المدرسةِ والدموعُ تحرقُ وجنتيها فكلُّ ماتملكُ سيسرَقُ منها لأنّ “الدواءَ مقطوعٌ”. فتحتْ البابَ لتبادرها أمُّها قائلةً: الصّغيرُ سيموتُ، رئتاهُ لا تعملانِ هلْ أحضرتِ الدواء؟
سيموتْ! صدمتها الكلمةُ محوِّلةً إياها لإمرأةٍ تركضُ في الشّارعِ حافيةَ القدمين تحملُ صغيرها بين ذراعيها؛ تغطي فمهُ وأنفهُ بقطعةِ شاشٍ مبللةٍ؛ وبين الغبارِ الكثيفِ وسيلِ دموعها حاولتْ التماسَ الطريقِ وهي تصرخُ وتصرخُ حتى بُحَّ صوتُها! وصلتْ أخيراً إلى المشفى وانهارتْ أمامها كشجرةٍ قطعها حطّابٌ ورماها في موقده. لا مكانَ شاغرٌ سيدتي! كلُّ الأسرةِ تغصُّ بالمرضى بسببِ العاصفة: قالتها الممرضةُ بتوترٍ.
– سأجعلُ من جسدي سريراً لكنْ أرجوكِ أنقذي ابني!
بعدَ أنْ طالَ الترجي وافقَ طبيبٌ مناوبٌ على استلامِ الطفل. منْ وراءِ النافذةِ الزجاجيةِ رأتْ صغيرها ينامُ بعمقٍ وأنابيبُ الأوكسجينِ تحيطُ بجسدهِ الصغير! فقررَتِ السفرَ إلى أوروبا.
وسطَ كلِّ هذه المشاهدِ التي مرّتْ برأسها جاءَها صوتُ أخيها: إنّنا نغرق، نغرق! تلفتَتْ حولها لتجدَ الماءَ قد غطا ركبتيها. بدأَ المسافرونَ بالصراخِ وراحوا يقذفون أنفسهم في البحرِ الهائج! سحبها أخوها إليهِ وبدأَ صراعُ البقاءِ مع الموج. ضمّتْ صغيرها إلى صدرها، وراحتْ تحاولُ صمَّ أذنيها عن بكائِهِ المتواصلِ كي تكملَ المسيرَ به إلى برِّ الأمان. لكنَّهُ البحرُ الذي لا أمانَ معه، أسقطَ جامَ غضبهِ عليهم ليفرقهم كلَّ واحدٍ في إتجاه. ظلَّتْ تقاومُ وتسبحُ إلى أنْ شهقَ صغيرها شهقته الأخيرة! حاولت إيقاظه! صارتْ تصرخُ بأعلى صوتها ليأتيها أخيراً صوتُ أخيها اصمدي اصمدي! اقتربَ منها قاربُ خفرِ السواحل، أعطتِ الصغيرَ لأخيها، جمدَتْ عيناهُ على جثةِ الطفلِ ثم رفعهما والدموع تثقلهما، ومدَّ يدهُ محاولاً إلتقاطها لكنها فكَتْ سترةَ النجاةِ ورمتها بعيداً واستسلمتْ للبحر. صرختْ بأعلى صوتها: يا ولدي!… يا ولدي!… أنا لمْ أستحقكَ يوماً، يا ربيعَ عمري سامحني كنتُ أرى فيكَ الحياةَ وحاولتُ حمايتكَ منْ مرضٍ انقطعَ دواؤُهُ، ومن سلاحٍ لا ذنبَ للأطفالِ بطيشه، ذاكَ اليومَ كنتُ أريدكَ أنْ تنجو ولكنَّ خوفي كادَ يقتلكَ! و ها أنتَ تركتني دونَ أنْ أعتذرَ لكَ. خُذْ عمري يا ولدي وعُدْ أرجوكَ فأنتَ منْ يستحقُ الحياة! أغمضتْ عينيها واستسلمتْ ليتقاذفها الموج و روحها تعانقُ روحَ صغيرها إلى الأبد!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *