الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

وللكاتب الحقّ: “عينان نافذتان” !

في التوطئة: ما أكثر الأسرار التي يحرص امرؤٌ ما على إخفائها في أعماق نفسه وأغوارها، فتفضحه عيناه؛ وما أكثر ما ترشفه النفس الرّهيفة الحسّاسة من كأس العين الساكنة ـ النابضة؛

وما أعجب الألوان والأطياف والتجلّيات التي تنبعث من عينٍ حالمة وادِعة، أو من عينٍ كسيرةٍ دامعةٍ، أو ثالثة متألقة، أو رابعة متحدّية، أو خامسة حاسِدة.. أو.. أو.. ومن العيون ما يخرج عن العادي والمألوف، فالحكمة لها عينان: عينٌ على الماضي تستعيده وتتمثله، وتستجلي ديناميّته الكامنة، وحضوره المُستتر، وقبسٌ ينيرُ العين الثانية المتطلعة إلى المستقبل المنشود، تحاول أنْ تستجليه وتستشرف آفاقه ومآتيه، وتعبّد الطريق المُفضي إليه، قبل أنْ يصبح الحاضر ماضياً، والمستقبل حاضراً… أمّا “عين القلب” لدى الأتقياء الأنقياء، فهي عينٌ لا تعرف الهجوع أو الغياب أو الغَبَش، وهي نورٌ خالص، ورباط قدسيٌّ بين المرء وخالقه، وجناحٌ سحريّ ألِقٌ، يَرقى بالإنسان النّاسِك إلى أجواء سماويّة، حُرِّمتْ ـ بكلّ تأكيد ـ على عَبَدَة الماديّات، وأصحاب الترّهات والأباطيل، ومرتكبي الجرائم والمُوْبقات… وهناك عيونٌ من نوعٍ خاصّ لا يراها مَنْ تبلّدتْ منه الحواس، أو الرّوح، أو تماوتت، وهي في الأساس عيونٌ عميقة ثاقبة عاكسة صامتة مُعبّرة، تنفذ إلى أعماق ناظريها، وتعكس في صفحتها الفضيّة الرّقراقة كالماء، ما يعتمل في الأغْوار، وفي أغْوارِ الأغْوار، وقد يرى المرءُ فيها خبايا ذاته وأسرارها، تأخذ من اللحظة شكلاً ولوناً وألَقاً، تطفو أو تنحسر جيّاشة كالبحر في مدّه والجَزْر، تارةً يتخذ شكل الرّمال، وطوراً لونَ السماء، وحيناً يخضرّ أو يتمازج.. ولو عرّجنا على ماهيّة الكاتب الحقّ، فهو إنسان مبدع له عينٌ برّاقة متحدّية، تغوص في الأعماق، تمجّد الضوء في كلّ عصرٍ ومصر… فالكاتب الحقّ– كما هو المُرتجى، وبالدرجة الأرقى – صاحبُ حسٍّ أخلاقيّ ملتزم، وقلمٍ مسؤول، وإلا كيف تتوافر “حقيقة الحياة” في عين الكاتب وروحه، إذا ما تجاهل التجربة الأخلاقية للجنسِ البشريّ؟ ومثل هذا الكاتب الحقيقي يسعى – بما أوتي من قوّةٍ ووعيٍ والتزام- إلى خوض أيّة معركة حياتية أو كتابية، سلاحُه “نصْلُ” الكلمات، “سيفُه” القلم، الورقة البيضاء “ميدانُ معركته الأولى” مع الآخر ومع الحياة بعامّة، وربما يسقط “بقلمه” شهيداً في حوْمة الدفاع عن المقهورين المظلومين، “شأنه في ذلك شأن كلّ الشرفاء أهل الرّأي الحرّ، والفكر الحرّ، والكلمة الحرّة المسؤولة”.. ألم نقرأ أنه “في البدء كانت الكلمة”! فالكاتب ـ عندما يكون مخلصاً وفيّاً لأدبه وفنه وفكره ونِتاجه الإبداعي ـ نورُ الفجر الساطع، الذي يشظّي أستار العتمة، وهو هو دفءُ الربيع الزّاهي الذي يعيد القطوف إلى الأشجار، بل هو السّخيّ بخيراته ولآلئه ونقاء روحه، المتجدّد أبداً في لانهائيّته الأبدية، القاهر خصومَه بعواصفه وأغْواره وتجليّات إبداعه وصفائه وفلسفته! والكاتب الحقّ، هو الأرض السّخيّة كذلك، التي هي مصدر الحياة للإنسان والنبات وباقي الكائنات.. الأرض الخصيبة الرّحيمة كأمّ رؤوم، لا تعرف سوى الطّهر والتّعب والعطاء ونكران الذات ..
وعلى المقلب الآخر من هاتِهِ المسألة، هناك عيونٌ مثقوبة أو مطليّة بالطين والقطران، لا تدرك ما حولها من بؤس اجتماعي، وشقاء إنساني، ولم تنفذْ يوماً إلى قلوب أصحابها نظراتُ الفقراء، المتطلعة إليها بأملٍ، لكنّه بالمحصّلة أملٌ بائس مهزوم، ولم تنتبه إلى “كمّ” الأحلام الخائبة المطويّة تحت “الأجفان المتعبة، وأشغفة القلوب المَهِيضة”، ولم تثقب آذانها وأحاسيسها وقلوبها تأوّهاتُ المتأوّهين، وأنّات الموجوعين بهذه البقعة من العالم أو تلك… حقاً ما أكثر “الثمار” الجافّة المتأوّهة، لِعلّةِ الجهل المُتطاوِس، الذي يقضي على الانطلاق المتسامي نحو ثالوت “الحقّ والخير والجمال”، ورفعة الأوطان.. ثم هل من العقلنة والمنطق في شيء، أنْ يقطع المرء علاقته بالأصل والجذور، وَصِلَته بمسقط الرأس وأرض التّكوين، وأنْ يغدو شخصاً تذوي في عينيه، وبين ضلوعه الأزهار والأثمار، وتتشظّى في أعماقه معالم الفضيلة والإيثار وحبّ الآخر! ثم ألم يردْ في الإنجيل المقدّس: “الله محبّة”؟!
إنّ العين المطلوب وجودُها بيننا، إنما هي عينُ ماءٍ تنهمر من أعالي الجبال، أو تتدفق من بؤبؤي السماء، أو تتفجّر من خواصر الينابيع، تحيي مَوَات الأرض، تجدّد قحط النفوس وجفافها، تجود بطيب نظراتها، تطهّر القلوب من أدْرانها وسوءاتها وسقطاتها.. عين تعكس الوجوه الخيّرة المضيئة من نسغ الحياة .. ثم أليست الأم الحقيقيّة رمزاً للعطاء والتدفق والحياة؟ وهي هي “عين الماء الصافية” بكلّ ما يحمله هذا العنوان من أفياء ودلالات وظلال وأمْداء! والأم ـ كما يعلم كلّ الأبناء البرَرَة ـ رمزٌ “مركّب” متشعّب العطاءات! فهي البحرُ بعمقه وزرقته والعطاء.. وهي هي “العين السّاهرة” – السّاحرة بكلّ المقاييس والمعاني والأحوال، وستظلّ هذه الأم العظيمة دائماً كذلك – بما تتحمّله من مسؤوليّات جسام حيال أبنائها فلذات الأكباد – جزءاً مهمّاً من السرّ الأكبر لأسرار الحياة السرمديّة!

وزبدة القول، فإنّ أرباب الأقلام النظيفة، وأهلَ الفكر المستنير، وحمَلةَ “المصابيح” المُتوهّجة، والكتّابَ الحقيقيين، سيبقون في حالة بحثٍ دائمٍ عن أرباب تلك “العيون” الساحرة، القادرة على البَوح والعطاء، كي يروا حقيقة العالم وأسراره، ويخوضوا بعقولهم وأقلامهم و”مصابيحهم” خضمّ مشكلاته الإنسانيّة ومعضلاته الشّائكة، باحثين عن حلولٍ ناجعة ناجزة لأوجاعه ومشكلاته ومآسيه، وما أكثرها، تلك التي أدْمتْ وأوجعتْ وأدْمعتْ عيوناً طريّة، لملايين الملايين من أصحاب القلوب النّقية، الرّانية إلى غدٍ أخضرَ أو أزرق.. أو كليهما بآنٍ معاً!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *