أيقونة الشاعر الكسيح: السياب أنموذجا

by wisam-mo | 27 سبتمبر, 2016 9:43 م

أيقونة الشّاعر الكسيح: السياب أنموذجا
تعتبر الصّورة الشّعرية مكوّنا لازم الوجود في الخطابات الشّعرية، وهي لذلك حظيت باهتمام النقّاد القدماء والمحدثين، ووُضعت في شأنها تحديدات مختلفة اختلاف التّوجّهات النّقدية، يعسر على الباحث الإتيان على شتاتها.

والمقاربة الّتي نتخيّر الإلماع إليها يمثّلها السّورياليّون، فبالنّسبة إليهم هناك خاصّيتان ضروريّتان للحديث عن الصّورة: وهما الخاصّية العضويّة (Le caractère organique) والغرابة النّسبيّة الحاصلة في الجملة وهذا التّخريج مفاده أنّ الصّورة الشّعرية معدومة مادمنا في حضرة المفردة، وليس كلّ تركيب صورة بالضّرورة إذ لابدّ أن يقوم على الغرابة النّسبية، ومن مآتي الغرابة استخدام اللّغة في غير ما وضعت له، فلكي نكون في حضرة الصورة يجب أن ندرج المفردات في سياقات لم تتعوّدها البتّة.
ولأنّنا في صلب نصّ شعريّ حداثيّ، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصّورة الشّعرية الحديثة هي نتاج الحداثة فلسفة وفنّا، هذه الحداثة الّتي انبنت على مقولة الفرد، والحق في الاختلاف مع السّابق والمزامن من ناحية، وضعتنا أمام تلاشي المعنى، ووحشة اللاحقيقة من ناحية أخرى. ومن ثمّ كانت الصّورة غامضة، عائمة، تكاد لا تعلّق بها دلالة، وكل دلالة نعلقها بها هي مؤقّتة تعدّلها أو تنسفها لاحق القراءات.
والصّورة الّتي نتغيّا متاخمتها في مجموعة “منزل الأقنان” لبدر شاكر السّياب، هي صورة “الشّاعر الرّجيم”، في علاقة برمز “أيّوب” المستجلب من العهد القديم، والرّمز بطبيعته لا يعلّق بالصّورة البسيطة المفردة، بقدر ما يُعنى بالصّورة المركّبة المتكرّرة، و”هذا المفهوم للصّورة هو الّذي يسمّيه نورثروب فراي بالصورة النّموذجية، لأنّها تقوم على الرّموز المتكرّرة فالصّورة لا تقتصر على مجرّد التّعبير وإنّما هي وسيلة الشّاعر إلى إدراك العالم الحسّي حوله، وهي الّتي تميّز عالم الشّاعر المغلق الّذي ينشأ من تفاعل عميق بين رؤاه الذّاتية للكون والحياة، وقدرته على اصطناع اللّغة معبرا للإبداع”.
والشّاعر الرّجيم الّذي أومأنا إليه، هو من عانى ويلات المرض، وأضحى على شفير الهاوية وجها لوجه مع الموت الزّؤام، وقد تهدّمت منه النّفس، وانهدّ الجسد، ولم تبق إلّا أوهامه المائتة وازداد ألمه وضيقه، بينما الآلهة تعصف بتأوّهاته، وترشّه بالبصاق الرّزيف، حتّى بات فريسة للمسخ، وأحسّ أنّ الكون كابوس رجيم.
والسّؤال المشكل هو الآتي: هل أنّ الرّمز الأيذوبي الموظّف فارق حمولته الدّلالية الأولى أم أنّه أثقل بها كاهل الجميل الشّعري؟
فالشّاعر بعد أن أصدح بصوته في تجربة الالتزام والنّضال، ضاربا عرض الحائط بجميع الأنظمة، ونزع عنها هالة القداسة، نجده بعد أن عطّلته وأعطبته سهام الرزايا يتكوّر على ذاته، منطرحا، صاغرا، ملقيا نفسه في حمى الله، و قد تهدّج صوته، وأجهدته مناحة البوح والاعتراف، ولذا ما انفكّ يمتاح معجما مترعا في التّسابيح والابتهالات.
ومن ثمّ فقد تهاوت المعجزات، وتهافتت رموز الخصب والتجدّد في قصيدة المرجع الذاتي، وآية ذلك أنّ المسيح ما عاد يشفي السّقيم، وفقد القدرة على إحياء الموتى، كما أنّ السّندباد الّذي عهدناه ظافرا أضحى يخوض مغامرات مشرّعة على المجهول، ومفضية إلى شعاب ليس منها مخرج.
وبعد ذلك فلا ضير أن يحتفي السّياب برمز أيّوب، لأن هذا الأخير اختزلت فيه قضية الابتلاء الإنساني، بل هو نموذج أعلى ورحم الألم الإنساني العظيم، إذ أنه اختبر في أملاكه وأبنائه بأن عصف بها، ثمّ جُرّب في جسده بأن شوّه ونبذ في عراء الوجود دون ظهير، وبالرّغم من ذلك فإنّه لم يشقّ عصا الطّاعة، وإجمالا» أيوب يمثل فلسفة الاستسلام والرضا من جانب الإنسان، كما يمثل حقيقة “لا يسأل عما يفعل” من جانب الله لأن حكمته أعمق من كل فكر إنساني «
ولعل الدرك الذي يتخبط فيه الشاعر، ينجلي في النبرة الدينية المنتزعة من قاع روحاني جوهره وأهدابه التسبيح لله والاعتراف بكراماته:
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهمـــــــــا استبدّ الألـــــم
ولعلّ نغمة الاعتراف هذه من طرف ذات شاعرة واقفة على شفير الهاوية L’abime)) تحمل في أحشائها مصالحة مع القداسة، التي هزّت عرشها في غير مناسبة واحدة. فالشّاعر إذ ينتقي عبارات مصفّاة من قبيل “الحمد”، “العطاء”، “الكرم” وكأنّه بذلك يفارق حدة الخطاب وصلابته ليؤسّس لخطاب من جوهر الأثير، “ومن خلال الأثير الألوهية نفسها تبسط حضورها”.
ويبدو أن ألم الشاعر الذي نخر جسده من خلال قوله:
شهور طوال وهذي الجراح
تمزّق جنبي مثل الـــــــهدى
هو الذي قفز بالشّاعر من الألم البيولوجي، إلى الألم النّفسي، أو بالأحرى إلى “زمن الضيق” (Le temps de détresse)، و يفترض أن “زمن ليل العالم هو زمن الضيق، لأنه يصير ضيقا أكثر فأكثر”، هذا الضّيق يعبّر عنه الشّاعر فيقول:
جميل هو اللّيل: أصداء بوم
وهو يفيد الضّيق والاختناق بالزمن المتثاقل، هذا الزّمن ليس له إيقاع بل هو متوقّف ومن ثمّ تنبجس السّآمة والملالة، وينفتح الشاعر على ليل العالم الرّهيب، ولعلّ ذلك هو جوهر القلق الذي يضع الشّاعر أمام موجودات متمنّعة عليه، لا طعم ولا رائحة لها وذلك هو الفراغ والخلاء:
وغابات ليل السهاد، الغيوم
تحجب وجــــــه السمـــــاء
وتجلوه تحت القمـــــــــر
وبتوظيفه لرمز أيّوب استطاع الشاعر الانسلاخ من اللحظة الآنية الزائلة، ليجذر انفعاله في “القديم” الدائم بديمومة وجوده المتفاعل مع “المطلق الزمني”، “ولعلّ المرء لا يبالغ إذا ما رأى في “الرّمز” منهجا يتبعه الإنسان للخلاص من تهديد الفناء إلى إطمئنان الدّيمومة المتجذّرة في الماضي، المشرئبة أبدا نحو الآتي”.
فالشّاعر إذ يجرد له لسان اللّعنة، وتمحّض له سدنة المرض، والفقر، وأشباح الوحدة المقيتة، حتى انكشف له تفسخ العالم، لم يجد سبيلا سوى الأدب ليغرقه في الوجع والمكابدة، ولكن الشّعر لا يسعفه، بل إنّ القصيدة لا تعدو كونها نشيجا أو حشرجات، صائرة إلى الفناء، وكأنّ الألم الذي ألفناه بيولوجيّا، ثم نفسيا، ينفث سمومه القصيدة ليسكنها الخور ويخترقها البوار، وقد فقدت وهجهـــــــــا وحرارتها، لتضحي باهتة مختنقة حاملة لبذور فنائها في أحشائها :
هي حشرجــــات الروح أكتبها قصائد لا أفيد
منها سوى الهزء المرير على ملامح قارئيها
هرم المغني، هدّ منــه الداء فارتبك الغنـــاء
وهذا التشغيل للرّمز من خلال الإلماعات التي حللنا، يبين عن حسن إجراء، وهذا الأمر سينعكس في اللّغة الشّعرية البانية للجميل الفنّي خاصّة أنّ الشّعر هو قول مخصوص باللّغة وفي اللّغة، فالرّمز وهو يزعم الانخراط في نسق خطابي جماليّ لم يبق منصتا إلى هويّته الأولى التي اكتسبها من النصّ الغائب (الكتاب المقدس). وذلك مرجعه أنّ السياب وهو يستعير من الكتاب المقدّس رمز أيوب استعار دالّا أجوف ليدّعي له ذاكرة من سماتها الجدّة والطرافة، ومن ثمّ كان له قول تجربة الذات، فيما يعرف بمركزية الذّات (Egocentrisme)، و ولوج مدارات الألم من أبواب مختلفة. إذ أنّ الشعر باعتباره وعي الكائن في العالم (conscience de l’être au monde)، مكّن الشاعر من تصريف الألم المدفون في مكنوناته، إلى طاقة إبداعية تمثّل في العمق مناحة على الوجود الإنساني المتلفع بالقلق والسآمة إزاء الوجود نفسه، بل هي مرثية تطفح قتامة وتحاول قول زمن الضّيق، خاصّة أنّ رمز أيّوب مجلوب من المشترك، هذا أمر مهمّ، لأنّ الشّاعر يتحصّن بالمخيال الجمعي حتّى يكون ألمه الذاتي رحما تفيض فيه التّجارب المؤلمة فيضا، وتغيض عنه غيضا.
ومن ثم يتأدى لنا تجاوز المعنى الراشح عن أصل الوضع (le sens dénotatif) إلى النظر في الدلالة الحافة (la connotation)، إذ أن اللغة الشعرية تلمح إذ تفصح، وتستشير ولا تشير، وهذا الأمر ما كان ليكون لولا حسن توظيفه الرمز المرفع للطاقة التخييلية، والتخييل هو ما به الشعر يكون.

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/10616