الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

كلمة نجيب محفوظ أمام لجنة جائزة نوبل ؟

 

الجائزة …. فاز عملاق الرواية العربية بجائزة نوبل للآداب عام 1988.
وأقيم له حفل لائق في العاشر من كانون الأول للعام نفسه في استوكهولم عاصمة السويد,وقد جاء في تعليل فوزه «أنّ نجيب محفوظ أغنى المكتبة العربية بإنتاجه الغزير الذي تجاوز الخمسين عملاً روائياً وقصصياً,ترجم إلى معظم لغات العالم,بل تحوّل كثير مما ألّفه إلى أفلام سينمائية!‏‏
وأمام أكثر من /600/ مدعو ألقيت كلمة نجيب محفوظ,الذي حالت ظروفه الصحية دون سفره إلى استوكهولم لاستلام الجائزة,نابت ابنتاه(فاطمة وأم كلثوم)في استلامها,وألقى الكلمة (محمد سلماوي)الذي كان دليلاً لوزارة الثقافة المصرية,واسمحوا لي أن أقدّم هنا نصّ الكلمة,وهي قطعة أدبية مميزة بالتأكيد!!‏‏
نص الكلمة:‏‏
سادتي: في البدء أشكر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل على التفاتها الكريم لاجتهادي المثابر الطويل,وأرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثي إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم,ولكنها هي الفائز الحقيقي بالجائزة,فمن الواجب أن تسبح أنغامها في واحتكم الحضارية لأول مرة,ولي كبير الأمل ألّا تكون الأخيرة,وأن يسعد الأدباء من قومي بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالميين الذين نشروا أريج البهجة والحكمة في دنيانا المليئة بالشجن..‏‏
سادتي‏‏
أخبرني مندوب جريدة أجنبية في القاهرة بأنّ لحظة إعلان اسمي مقروناً بالجائزة ساد الصمت,وتساءل كثيرون عمّن أكون,فاسمحوا لي أن أقدَّم نفسي بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة البشرية,أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهي الحضارة الفرعونية وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهي الحضارة الإسلامية,قُدّر لي أن أولد في حضن هاتين الحضارتين,وأن أرضع لبانهما وأتغذى على آدابهما وفنونهما,ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة ومن وحي ذلك كله-بالإضافة- إلى شجوني الخاصة-ندت عني كلمات أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم فتوّجت اجتهادي بجائزة نوبل فالشكر أقدّمه لها باسمي وباسم البناة العظام من مؤسسي الحضارتين!‏‏
ولعلكم تتساءلون:هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟وهو تساؤل في محلّه.‏‏
فأنا قادم من عالم ينوء بالديون,ينوء بالفقر والمجاعة,والنّبذ والحرمان من أي حق من حقوق الإنسان في عصر حقوق الإنسان!أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصاً؟ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف,وكما أنه يعايش السعداء فإنّه لا يتخلّى عن التعساء!‏‏
في هذه اللحظة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتلاشى أنّات البشر في الفراغ,لاشك أن الإنسانية قد بلغت سن الرشد,واليوم يجب أن تتغير الرؤية من جذورها,اليوم يجب أن تقاس عظمة أي قائد متحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره بالمسؤولية نحو البشرية جميعاً.‏‏
وما العالم المتقدّم والثالث إلّا أسرة واحدة,يتحمّل كل إنسان مسؤوليته نحوها بنسبة ما حصّل من علم وحكمة وحضارة,ولعلّي لا أتجاوز واجبي إذا قلت باسم العالم الثالث:لا تكونوا متفرّجين على مآسينا ثم إنكم من موقع تفوّقكم مسؤولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان فضلاً عن الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة!‏‏
خنقنا بالكلام وآن أوان العمل,آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين,أنقذوا المستعبدين أنقذوا الجائعين أنقذوا المضطهدين,ثم أين تجد أنّات البشر مكاناً تتردد إذا لم تجده في واحتكم الحضارية التي غرسها مؤسّسها لخدمة العلم والأدب والقيم الإنسانية الرفيعة.‏‏
وكما فعل ذات يوم يرصد ثروته للخير والعلم للمغفرة فنحن -أبناء العالم الثالث-نطالب القادرين المتحضّرين باحتذاء مثاله واستيعاب سلوكه ورؤيته..‏‏
سادتي..‏‏
رغم كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية,لا أقول مع الفيلسوف (كانت) أن الخير سينتصر في العالم الآخر فإنه يحرز نصراً كل يوم,بل لعلّ الشر أضعف مما نتصور بكثير وأمامنا الدليل الذي لا يجحد.‏‏
فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية ,أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكوّن الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان!‏‏
غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب مرتفع الصوت.‏‏
وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسرّه,وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال:‏‏
إن حزناً ساعة الموت أضعاف سرور ساعة الميلاد!‏‏
سادتي….أكرر الشكر وأسألكم العفو!‏‏
نجيب محفوظ‏‏
وقد صرّح محفوظ في القاهرة بعد ذلك بأنه سيتبرّع بربع قيمة الجائزة لمشروعات الخدمة العامة,وقال أيضاً في مؤتمر صحفي عقده صباح اليوم التالي لحصوله على الجائزة أنه قرّر توزيع قيمة الجائزة على أفراد أسرته التي تضم زوجته وابنتيه بحيث يحصل كل فرد على ربع هذه القيمة(!)‏‏
* * * ملاحظة صغيرة‏‏
نال جائزة نوبل خمسة من العرب(أربعة منهم مصريون) وفلسطيني واحد نال ثلاثة جائزة نوبل للسلام وهم (أنور السادات 1988 – وياسر عرفات 1994- ومحمد البرادعي 2005)ونالها في الأدب (نجيب محفوظ 1988)وفي الكيمياء نالها العالم المصري (أحمد زويل 1999)!‏‏
قبل الختام هذا السؤال:‏‏
لماذا نجيب محفوظ بالذات من دون غيره من أعلام الفكر والأدب والفن؟إنه بحقّ رائد الرواية العربية بلا منازع بل عملاقها,وله فضل كبير عليها ومن مآثره مثلاً:أنه أغنى الرواية العربية,وأنه من دعاة الفصحى,حيث طوّعها للرواية العربية,دافع عنها يوم كان غيره يدعو إلى اللهجات العامية,‏‏
ولا يخفى على أحد أن طريقه كانت في أول عهده شاقة وعرة,لكنه مضى في مسيرته بجهد وصبر فاجتهد واستمر وتطوّر واغتنت تجربته إلى أن تربّع على عرش الريادة في القصة والرواية!‏‏
وبعد..‏‏
الرحلة مع محفوظ ممتعة,لا تخلو من صعوبات وإذا ما جالسته أزال جميع الحواجز ولم أكن أنتظر منه كل هذا التواضع,وهو عملاق بحقّ,(كلنا خرجنا من معطفه)!!‏‏
ذلكم الأسمر من تربة مصر,صاحب الشامة الكبيرة الفارقة على صفحة خدّه,صاحب العينين الثاقبتين اللتين يؤذيهما النور الباهر ولذلك يضع النظارة السوداء,كان بسيطاً معي كأرض مصر,وإن أفرطت في تحيته يخجل!..وقد صرّح غير مرّة:‏‏
أنا دائماً أشعر بقلق,أنظر إلى فوق ,أي إلى المستوى الذي لم أبلغه وأحلم ببلوغه,وكثيراً ما أتمنى لو كان من الممكن أن أعيد كتابة ما كتبت من أول كلمة!!‏‏
ملاحظة( المادة مقطوفة من جريدة الفداء الحموية في عدد
الاثنين : 16-1-2012)

التعليقات: 1

  • يقول متابع:

    رائع هو نجيب محفوظ و رائعة هذه الانسانية التي يفوح عطرها في كلمته هذه, و لكن من المؤسف ان نرى شخصا مثله يفتخر بحضارته الاسلامية “فقط” و ليس “العربية الاسلامية”…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *