حوار مع الروائية الفرنكوفونية ليلى بركات

by tone | 1 يناير, 2013 12:31 م

[1]

 

تعود الروائية اللبنانية الفرنكوفونية ليلى بركات بعد انقطاع دام نحو ثماني سنوات عن ممارسة الكتابة الروائية بمؤلف سياسي بالفرنسية عنوانه “في معنى الدولة”، وهو دراسة فكرية في السياسة والإدارة والاجتماع. وتربط بركات مؤلفها الجديد بمهنتها كمستشارة في وزارة التربية والشباب والرياضة ومن ثم في وزارة الثقافة وغيرها من المناصب التي شغلتها طوال ثمانية أعوام ابتعدت خلالها عن العالم الأدبي بشكل قاطع. وبعد دكتوراه في “السياسة الثقافية الفرنكوفونية” ودكتوراه في الإدارة والإعمال من باريس وبعد صدور “في معنى الدولة” عن دار “لير” في بيروت ضمن سلسلة “غوبرنار” الجديدة، تبدو لها الرواية من جديد، احتمال مقبل، حسب كلامها في الحديث الذي أجرته معها جريدة “المستقبل”. في التسعينات، أطلت بركات شابة فنية فرنكوفونية وتقدمت بروايتها الأولى عام 1993: “تحت عرائش بلاد الدروز” بلغة مميزة عام 1994، كتبت عن “حزن اليمن السعيد” وبعدها “لماذا يبكي الفرات؟” اما الرواية الرابعة فحملت عنوان “رجال ملعونون في الأرض المقدسة”، ولم تخفت نبرتها بل ازدادت حيوية. وتجربة بركات الجديدة في الإدارة وفي الوزارات ومراقبتها للعمل السياسي على الساحة اللبنانية، كل هذا جعلها تعمق عملها الكتابي وان تخلت “مؤقتاً” عن الرواية. معدودات هن الكاتبات او المؤلفات اللبنانيات اللواتي كتبن في الشأن أو في الفكر السياسي، كما هن قليلات بل نادرات الفتيات اللواتي يتحلين بشغف وحب المعرفة إلى هذا الحد في لبنان: “اعمل عشرين ساعة وأنام أربع ساعات في اليوم، وأشعر أن لدي طاقة إضافية علي أن استغلها في هذا المجال”. تحدثنا إلى ليلى بركات عن كتابها “في معنى الدولة” الذي تعتبره “وصية فتاة شابة” وعن شؤون أخرى في السياسة والكتابة والرواية.
بعد سنوات سبع على صدور أربع روايات فرنسية متلاحقة في التسعينات، تطل المؤلفة اللبنانية ليلى بركات بكتاب فكري سياسي اجتماعي بعنوان “في معنى الدولة” وفيه تأملات وتصور للدولة بشكل عام وللدولة اللبنانية بشكل خاص؟ لماذا الاغتراب عن الرواية او ماذا أضافت هذه التجربة الحالية إلى الرواية؟
ـ أحب أن ابدأ كلامي بجملة ترد في كتابي الجديد وهي: “انه أسهل أن تبني إمبراطورية من ورق من أن تحدث اقل تغيير وتعديل في أي دائرة حكومية في بلدان العالم الثالث”.
بصراحة، هذا الكلام يختصر إحساسي ككاتبة روائية خاضت تجربة العمل في الدوائر الحكومية لمدة ثماني سنوات. وهنا شعرت أن الكتابة المباشرة في السياسة والاجتماع قد ترضي غروري وطموحي وشغفي في أحداث التغيير او التطور في الدولة التي لمست تنظيمها وكيفية عملها من الداخل وأغرم بأحداث ولو تطور بسيط فيها. هذا العمل جعلني ابتعد عن الحياة الأدبية وأعوص في هموم الإدارة إن في عملي او في دراستي. فبعد الانتهاء من الدكتوراه في “السياسة الثقافية الفرنكوفونية” كنت منكبة في السنوات الأخيرة على العمل في دكتوراه ثانية في الإدارة. وهكذا صرت استعمل تعبير “عندما كنت روائية” وشعرت ان هذا الأمر انتهى معي وكنت منشغلة الى حد لا يوصف بالجد الجديد الذي دخلت اليه. عملت مستشارة في وزارةالتربية والشباب والرياضة وأيضاً في وزارة الثقافة ووزارات أخرى وكنت مراقبة لكل ما يجري من حولي بكل شغف محاولة ان افهم اين تكمن نقاط الضعف والخلل في إداراتنا. بحق لم يعد عندي وقت لأي أمر آخر وخاصة الرواية. والرواية بالنسبة لي ليست فقط ورقة وقلم وفعل الكتابة أو التأليف، بل كانت كل رواية مشروعاً قائماً بحد ذاته تسبقه وتتخلله الأسفار والأبحاث والتجارب لأنني قدمت رواية تقوم على علم الاجتماع والسياسة وأدب الرحلة والتاريخ، فكنت أسافر إلى بلدان مختلفة وأعيش في مجتمعاتها وأبحث في تاريخها وثقافتها وحضارتها. كتبت عن لبنان وفلسطين والعراق واليمن بصراحة، حين كنت منغمسة في كتابة “في معنى الدولة” اعتبرت أنني لن أعود الى الرواية مرة جديدة، لكن اليوم وبعد ان صدر المؤلف الأخير، أشعر ان الوضع تغير. عاد الحنين الى الرواية لكن من دون ان تتحدد في رأسي اي معالم رواية جديدة. لأنني حين “كنت” روائية في السنوات الماضية كنت مجنونة وأعيش حياة صاخبة، اليوم تغيرت فلا أعرف هل ستتبدل الرواية معي؟ من ناحية ثانية، كنت أعيش في باريس وهناك كنت أشعر بنسائم الحرية تتغلغل في أحاسيسي وبالتالي في كتاباتي التي تدل قبل اي شيء على تجوال كبير في كل اقطار العالم ان في الواقع او في الخيال. هذه الفسحة ضئيلة هنا وربما هي وراء تراجعي في خوض الرواية حالياً، الى جانب ان حياتي المهنية امتصت كل قواي واستطيع ان اقول انها حاصرتني وخنقتني. كنت أعمل عشرين ساعة وأنام أربع ساعات فقط. “في معنى الدولة” كان النتيجة الطبيعية لعمل في الإطار الإداري والسياسي.
في المعنى لكن “في معنى الدولة” ليس نتيجة مراقبتك للتجربة، انما هو يحمل تحليلاً سياسياً واجتماعياً وتاريخياً؟
ـ بالضبط. لم أكتب ما شاهدته والا لكان مجرد كتاب وصفي ومرحلي.
“في معنى الدولة” كتبته لأنني لمست حقيقة وهي ان البلد لا يتطور بشكل يتناسب مع النسبة الموضوعة فيه من طاقات. اليوم صحيح اننا نقوم باعادة بناء الدولة، لكن ما نلمسه من تطور ضئيل لا يتناسب مع ما يوضع فيه من الطاقات والأموال والأبحاث والأدمغة والتخطيط. نتحدث عن مشاريع ضخمة وأموال كثيرة وتخطيطات مستقبلية ولكن ما نلمسه قليل الأهمية. هذا الكتاب جعلني أطرح السؤال بشكل عميق: لماذا لا تتطور الدولة بشكل طبيعي. لست هنا في صدد الأمور الإدارية بل السياسة. حاولت ان احدد لبنان في الفصل الأول في موقعه في العالم الثالث ثم انتقلت الى فصل مخصص بدولة القانون الى ما هنالك من فصول تتناول السياسة وليس الادارة.
تستشهدين في كتابك بالعديد من الأمثلة والأقوال من ابيكور وباسكال ومالرو وريجيس ديبريه وكمال جنبلاط… لماذا وفرة هذه الاستشهادات؟
ـ استشهدت بعدد كبير من الذين كتبوا في الفكر السياسي لأؤكد قبل أي شيء فكرة ان”كل الحكمة الانسانية صارت مدونة في الكتب”. بمعنى أنني أؤمن بأن كل شيء قد كتب بشكل أو بآخر ونحن نزيد إضافات لا أكثر على عكس ما يعتقده الكثير من الأكاديميين والمفكرين حين يعتبرون انهم الأوائل في اطلاق اي فكرة او نظرية. ولو كانت الشعوب تقرأ في العالم كل الموجود في الكتب، لما وقعت الحروب هنا وهناك ولما وقعت الحرب في لبنان. اعتبر ان كل شيء قيل عبر التاريخ وما نقوله اليوم هو ما قيل على ضوء مستجدات الحاضر. فكيف لا نستشهد بالكبار؟ من ناحية ثانية، أحب هذا الأمر لأن بعض هذه الأقوال والنظريات هي بمثابة منارة لي وللآخرين، أي القراء. لست اخترع الشيء الكثير في كتابي، انما ثمة تقارب بين كل ما يقال في الماضي وفي الحاضر. ولست هنا في صدد التكابر عبر ربط اسمي باسماء العظماء، انما وبكل تواضع انا اعترف انني جزء ضئيل من لعبة الفكر هذه وسيأتي من يكمل ويكمل هذه الصورة المتقطعة والجاهزة للتركيب مثل “البازيل”.
طور التطور
بالعودة الى مضمون الكتاب، تعترفين ان لبنان دولة من العالم الثالث لكنك ترفضين تعريف “بلد في طور التطور”؟
ـ نعم، أنا أتمسك بتعريف “دولة من العالم الثالث” وأرفض التعريف الآخر الذي ابتدعه الغرب ليرضينا وكأنها اهانة ان نكون من العالم الثالث فصاروا يستعملون تعريف “بلد في طور التطور” حين يتعلق الأمر ببلد تربطه صداقة بالغرب. انا أرفض هذه التسمية الأخيرة وأتمسك بأننا دولة من العالم الثالث.
بالأساس بدأت هذه التسمية في الستينات كتيار مناضل ضد هيمنة الشمال على الجنوب وبهذا اعتبر الجنوب متساوياً مع الشمال عبر انضمام لواء الدول تحت عنوان كبير هو “العالم الثالث”. اليوم دول العالم الغربي تحاول المحافظة على علاقتها مع دول العالم الثالث فخففت وطأة التسمية الى “بلدان في طور التطور”. ومن ناحية ثانية، لا بد من تسجيل الملاحظة التالية وهي ان الغرب مسؤول عن عدم تطور دول العالم الثالث، لأنه من مصالحه ان تبقى دول العالم الثالث مختلفة. وهنا أطرح السؤال الذي يلتقي مع سؤالي الأساسي حول لبنان: لماذا لا يتطور هذا البلد بما يتجاوب مع ما يوضع فيه من ثروات وقدرات ومواهب ومشاريع؟
لنبقى في مسألة التطور والتكنولوجيا ونشير الى قول استشهدت به من باسكال: كل ما يصل الى الكمال بالتقدم والتطور يعود ويتلف او يتراجع بفعل التطور”. هل تؤمنين بهذه المقولة؟
ـ بالتأكيد. وهذا ما نشهده في الغرب حالياً او منذ ما قبل انتهاء القرن العشرين، وهذه هي المسألة التي تؤرق مفكري الغرب. بالطبع ليس جديداً ما نقوله ولكن نؤكد عليه، فإن التطور اوصل المجتمع الغربي الى التفكك ونشهد منذ سنوات قيام خلية تفوقت على خلية العائلة وهي الفردية. أصبح الفرد وحيداً في مواجهة مجتمعه. بدأت هذه الظاهرة بايجابيات معينة ثم ما لبثت ان أظهرت حقائق خطيرة. ثم هناك مشكلة السلاح النووي وسلاح الدمار الشامل الذي بدأ يفلت من دائرة التحكم به وصار يشكل خطراً كبيراً على العالم. اليوم ثمة اجتهادات كثيرة من مفكري الغرب في هذا الموضوع والنظرية الجديدة التي هي في الواجهة أطلقت في تسمية “التطور الذي يستمر” اي التطور الطويل الأمد الذي يمكن ان يقضي بميزاته على سلبيات التطور التي شهدها العالم والتي يمكن ان تؤدي الى نظرية باسكال التي ذكرناها.
تركزين في كتابك على “الجانب الانساني” في السياسة. كيف تلمست هذا الواقع وكيف تعاملت معه؟
ـ حاولت ان أذكر انه عادة الذين يتعاطون في الشأن العام هم في الأساس افراد يهتمون بمصلحة الفرد وقد عبرت عن ذلك بجملة: “أكبر طموح بشري هو ان نحمل حلماً اجتماعياً”. هؤلاء الناس الذين هم يشكلون فئة اقلية ونادرة في لبنان لدرجة انني اعتبرتها “فئة في طور الاختفاء”. لكن الموضوع مختلف هنا فأين هم المسؤولون الذين يحققون حلماً في تحقيق سعادة المجتمع عبر عملهم السياسي والاداري والاجتماعي؟ ليست فئة منقرضة انما هي نادرة بالفعل بين رجالات الدولة الذين عليهم ان يتخلوا عن كل الواجهات البراقة والمغيرة لتحقيق الهدف الأول والأساسي. ذاك هو الجانب الانساني في السياسة الذي يجب ان نذكر به من وقت الى آخر، وبالتأكيد مر في لبنان بعض رجالات الدولة الذين يمكن ان نسميهم “المناضلين الذين لا يساومون” لكنهم كانوا قلائل ولم ينج احد من التنازلات، هذه حقيقة لا يمكن ان نتجاهلها. وشيئاً فشيئاً بدأنا نغرق في نظام سياسي بعيد كل البعد عن المبادئ الانسانية التي يجب ان نراعيها. في الأساس، السياسة هي محاولة لإدارة المكان او الفضاء المعين الذي يسمى وطناً لصالح المواطن، لكن اين نحن من هذا؟
طموح
هل عندك أي طموح سياسي؟ خاصة ان تجربتك في كتابة الفكر السياسي جديدة على المرأة في لبنان إذ من النادر ان نشهد كتابات نسائية سياسية بحت في لبنان.
ـ كلا، ليس لدي اي طموح سياسي. ولقد طرح علي السؤال في العديد من وسائل الاعلام اللبنانية. ليس هذا هدفي أبداً. انما ما اصبو اليه لا استطيع ان احدده منذ الآن إذ أنني من الناس الذين يفتقدون بقوة الاستراتيجية. انا لا اخطط ابعد من أيام قليلة ما سوف اقوم به من اعمال، كذلك بالنسبة الى الرواية، فلا اعرف متى أعود اليها.
ما هي التقنية التي اتبعتها في كتابك وهل تقيدت بمنهجية معينة؟
ـ يهمني كثيراً الحديث عن منهجية كتابي التي استمددتها من قراءات كثيرة لي. وأنا قبل البدء بكتاب “في معنى الدولة” قرأت ما يعجز عن قراءته الفرد في السنوات الخمس التي حضّرت خلالها الكتاب: في الشأن السياسي والاقتصادي والبيئي والاجتماعي. لكن اقول انني قمت بذلك بفرح وفضولية القارئ المتعطش الى ذلك، لكن لم يخلُ الموضوع من التعب والمشقة. وبالتالي، في اجزاء الكتاب المقسومة الى جزء سياسي وجزء اقتصادي الى ما هنالك من أبواب، لم اخلط بين الأمور وحاولت التركيز في كل جزء على مضمونه لأصل في النهاية الى نتيجة معينة او خلاصة الكتاب التي اختصرتها بجمل عديدة واحدة منها واهمها: أن لبنان لن يخرج من ليله الطويل الا إذا التقى العمل السياسي الناجح بالنضج السياسي لدى المواطنين.
ملاحظة هذا الحوار منشور في جريدة (المستقبل – الاثنين 21 حزيران 2004 – العدد 1624 – ثقافة و فنون – صفحة 18 )

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/77.jpeg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/2828