دمشق . . أم لا تموت

by tone | 1 يناير, 2013 1:09 م

[1]

 


تمددت أصابع النار على جسد الورقة المنغمسة بعرق أفكاره، كلماته التي انسابت على قلمه سنابل واعدة استحالت رماداً، نظر إليها، شيء في داخله دفع بابتسامة إلى محياه، ابتسامة رمادية تشبه ما آلت إليه القصة التي ولِدت منذ أيام ووأدها في الرماد. سَجن ريشة قلمه في مخبئها، وقف، غادر غرفته. ليست المرة الأولى التي يحكم فيها بالنار على أوراق لونها قلمه ، غير أنها المرة الأولى التي يتعمد إغراقها في اللهب ويتمعن مآلها.
بالأمس ودع والده المثقل بأوجاع الزمن، قال له : عندما تحن إلى الفرح ، عندما تحيق بك أسئلة هذا الزمن المغبر، در إلى الوراء، يبدو أنه ليس ثمة ما يسرنا في قابل الأيام ، و لكن قل لي : لماذا علينا أن لا نرى في هذا العالم إلا الفرح ؟
بدت دهشته و هو يتمعن تغضن وجه أبيه ، أردف: أجل ! أنا والدك الذي تأبط أملاً على مساحة عقود أقول هذا اليوم ، أليس هذا ما تريد أن تسأل عنه؟
إنه الزمن الرمادي يا بني ، تشابَك الحزنُ و الفرحُ ، تمَازجَ الألمُ و الأملُ فضاعت المنارات إلى الغد ، كيف لنا أن نعلي صروح الأمل، وطننا يئن كثور أنهكه المحراث؟ و أمثالك يسعون إلى خلاص أنفسهم!
ولأنه أراد أن يقول من جديد أمسك والده بيده ، و سار به إلى حيث استسلمت أمه لرقاد أبدي منذ عامين ، وقفا إلى جوار قبرها ، تليا سورة الفاتحة وأدعية رحمة لها
قال والده: هذه أمك التي كانت تقول : (تبدلات الزمن ثمرات أفعالنا ، إن جار الزمان التفتوا إلى أنفسكم فمن حناياها خيركم و شركم!) وأنت تريد أن تهاجر كعصفور ضعيف لا يحتمل البرد ، عد يا بني إلى نفسك ، و فكر فيم عليك فعله !
غادر وارف المكان ، و بعد قليل كان يحتل مقعداً في الحافلة المنطلقة إلى مدينة دمشق. ( دمشق أيتها الأم التي لا تموت. في رحمك تؤثر الأجنة أن تبقى ، و حبلك السري مداد من حنين لا نفاذ له) قال هذه الكلمات مراراً، دمشق أم لا تموت ، وأمه التي أرضعته الحنان، و كان قبل قليل يزور مرقدها تتجلى أمام ناظريه ، قالت له : الزمن كقطعة المعجون التي كنت تلهو بها صغيراً ، نحن من يشكله ، فلا يحزنك قول أبيك، لكن لا تتركه، لا ترحل.
في بيته طالعه وجه زوجته ، استرجع من ركام ذاكرته صورة لقائهما الأول حين واجهها على الشرفة المقابلة للغرفة التي استأجرها ليكمل تعليمه الجامعي ، يومها احتضنت عيناه حسنها ، و نبتت في قلبه زهرة برية أوغلت جذورها في عمق شرايينه ، و ابتسامة فابتسامة فلقاء ، تشكلت الزهرة البرية غصناً ، و سماه غصن ابنه الوحيد ذو العشرة أعوام. اليوم رأى صدأ شاحباً يسجن حسنها ، على الرغم من وميض الحب الذي ما زالت عيناها ترسلانه إليه، سألها: هل من أخبار عن شقيقك؟ ردت: لا جديد. اتصلتُ مع زوجته منذ قليل، كان الله في عونها و عوننا، سعت للتفاهم مع خاطفيه بشتى السبل، يريدون فدية مرهقة، ويشترطون إطلاق سراح مخطوفين من الجانب الآخر، لا الفدية متاحة ، و لا أذن هناك تلتقط أنين أطفاله وهم يختصرون بدموعهم أحوال ملايين الناس في وطننا خوفاً وحزناً و غضباً، لكن لجنة المصالحة أبلغتها بأن مساع ٍ جادة تُبذل من أجلهم، أية حرية هذه التي تقوم على ركام أحزان الناس، و سلبهم حق الحياة، كان وطننا واحة الأمان و التآخي يريدون تمزيق سمائه و أرضه، خطف هنا، و ردة فعل من الطرف الآخر، أصبح الإنسان سلعة تباع و تشرى، أحاول مع أصدقائي على مواقع التواصل الاجتماعي إيصال رسائل إلى منظمات، و جهات إنسانية علها تفعل شيئاً من أجل المخطوفين على الرغم من هشاشة أمالنا بتلبيتهم، نحاول أن نقول لمن يدمي وطننا: كفى انتهاكاً لقدسية سورية و تاريخها، فهي لن تسلم قيادها لمن لا يخلع نعليه عند حدود طهرها. هز وارف رأسه، أحس ببركان الألم الذي يعصف بزوجته، و هي تتحدث عن الغياب القسري الأليم لشقيقها ، و تقف شامخة متحدية بلا دموع تتواصل مع من يعيد إليه ألق حياته ، التفت إلى ابنه الوحيد غصن، كان غير بعيد عنهما يقلب صفحات متنوعة على شاشة كمبيوتره، تفحص وارف شاشة هاتفه الأرضي، أخبره الكاشف أن أصدقاءه بانتظاره، و على بساط الليل سار إلى حيث يمضون سهرتهم.
التلفاز وحش العصر الرديء يجلد الحاضرين بسياط جبروته، قناة فقناة فسأم، هنا وليمة نفاق، و هناك وليمة عهر، بياض هنا، و سواد هناك، حرب و سلام، محللون سياسيون و عسكريون و إستراتيجيون من أصقاع الأرض على وليمة طبقها الرئيس الدم السوري، كل يريد تقديم المساعدة، كل منهم لديه رؤية للحل، ( آه يا وطني يا تاج مملكة هذا العالم، يتجاذبك منظرو الخير و الشر، تتناهب أرواح أبنائك وحوش العقائد، و زخارف الجهل و التجهيل، و سطوة الخوف و الأسى و الألم.) حدث نفسه، أحس رأسه ينتفخ و ينتفخ كبالون يعبث به طفل، غادر مجلس أصدقائه من دون أن يلتفت إلى دعواتهم له للبقاء. قرر أن يسامر شوارع دمشق القديمة ، قال لها: (لا دفء خارج حضنك ، و لا تجلي إلا من نبض جذورك، و لكن!). هنا مقهى الحجاز وعلى مقربة منه سوق الحميدية، فالجامع الأموي. هنا مقهى الحجاز وكأنما تبدل رواده، لا صياحهم موسيقا المكان، و لا أجراس النراجيل، و لا أم كلثوم و لا محمد عبد الوهاب، صعد درجات مكنَتْهُ من إطلالة على داخل المقهى، رأى الحاضرين يتهامسون كعشاق، غير أن سماء دمشق لا تبدو هذه الأيام ملهمة ساحرة.
مرة أخرى على باب بيته، استقبلته زوجته بقائمة طلبات و قالت له: سمعت بأن هذه المواد ستنفد قريباً، امض الآن و أحضرها كي لا نندم .
ابتسم له البائع و هو يهيئ حاجاته، قال و هو يقدم له الفاتورة : حظك طيب، المواد تنفد بسرعة فائقة و لا بدائل في ظل سطوة الخوف على التجار، وحصار الطرقات هز رأسه و هو يسدد ثمن حاجاته أضعافاً .
مثقلاً بالرماد عاد إلى بيته. كان ابنه غصن يجلس أمام شاشة كمبيوتره يرسم لوحة جميلة لسوق مكتظ بالناس، و فرح العيد يفرد جناحيه على أرجاء اللوحة
قال الأب : لوحتك من زمن مضى!
رد غصن : بل من يوم آت يا أبت ! دمشق لا تموت، أليس هذا ما تردده دائماً ؟ ألم تقل إن ساحات وطننا شهدت ما هو أشد فتكاً، وكبرعلى الجراح، ضمد الجراح وتعافى . ترك ولده، و دخل غرفته، جلس، أسند رأسه بيديه، كتب على ورقة صغيرة:( من تلاقح الأبيض و الأسود يولد الرمادي ) والده المثقل بأوجاع الزمن، وابنه الذي يرسم للغد لوحة أمل، أبيض وأسود. أنات المخطوفين، و وحش الخوف الفاتك، وبركان ألم زوجته، و وقفتها الشامخة المتحدية بلا دموع وهي تنتصر للوطن العزيز، ولا تفسح لليأس إلى نفسها سبيلاً، أبيض و أسود. أزيز الرصاص دوي الانفجارات، شهقات الموت، و صرخة طفل يولد، أبيض و أسود. ابتسامة التاجر، و مخالبه التي يغرسها في أرواح مرتادي متجره، حرب الفضائيات وسلامها، ذبول ياسمين دمشق، و عبيره الذي اتحد بأوكسيجينها، أبيض و أسود. اتجه صوب نافذة مطلة على مدينته التي يحب، من بيته الذي يقع في الجادة الخامسة من حي المهاجرين، رأى دمشق أماً لا تموت، وأبناءها يتمسكون بحبلها السري، سمعها تطلق صرخة مدوية: لن أعيش في جلبابكم الرمادي، لا أحب الرماد، و لا الرمادي، و لا الرماديين. ألقى نظرة إلى الماضي كما نصحه والده، سمع نزار وشوقي، والجواهري، وسعيد عقل يغنون لسرمدية حضور دمشق، و رنا إلى قادم الأيام كما فعل ابنه، فأيقن أن ابتسامات دمشق لا تموت، أدرك أن تمازج الأبيض والأسود لا يُوَلِّد في دمشق الرمادي، صرخ بلا صوت : دمشق لا تموت ، سورية لا تموت. عاد إلى حقيبة صغيرة في غرفته، فتحها و أخرج منها أوراق سفره وأذن للنار أن تلتهمها، وتلتهم معها قصة كتب فيها: سأرى دمشق في أي مدينة أقصدها. وحدها دمشق أم لا تموت، و حدها سورية تاج مملكة هذا العالم.
رماد الورقة التي لونها قلمه، رماد وثائق سفره، تناثرت من على شرفة منزله كقراره بالرحيل، و شيء في داخله دفع بابتسامة إلى محياه، حرر ريشة قلمه من غمدها، كتب على ورقة بيضاء: (دمشق أم لا تموت).
بعد قليل فتح باب غرفته، و على الرغم من أزيز رصاص، وأصوات تنشر روائح الموت، قرر من جديد أن يسامر حبيبته دمشق فيما تبقى من هذا الليل.

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/896.jpeg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/2850