نواعير حماة.. استراحة على طريق المدن خرير مياهها يملأ الأفق بأنغام موسيقية

by tone | 1 مارس, 2013 11:55 ص

[1]

 

على مدى مسافة واسعة من نهر العاصي، تتوزع النواعير الخشبية لتميز مدينة حماة وتمنحها خصوصية احتواء هذه الآثار الخشبية. قبل سنوات بعيدة كانت مهمة النواعير ضخ المياه إلى الأراضي الزراعية وبيوت السكان، فشكلت حاجة إنسانية ملحّة.

 

وبعدما غيّرت المياه اتجاهها وبدأت تصل عبر الأنابيب الحديدية، أصبحت النواعير خارج دائرة الاستعمال البشري، تتعرض للإهمال وتتهاوى فوق مياه النهر المتحركة، لكن إنسان الأزمنة الحديثة بدأ يسترجع الماضي ويستعيد ملامح الحياة السابقة لتصبح النواعير جزءاً من المشهد الأثري المكوّن من القلاع حمامات والأسواق العتيقة والمدن القديمة.
وأكثر الأيام المشجعة على قضاء أوقات مريحة قرب نواعير حماة، تقع خلال مهرجان الربيع الذي يقام كل عام منذ عشرين سنة. وزيارة النواعير يتذكرها أهل دمشق، والمدن القريبة من مدينة حماة خلال المهرجان السنوي، لكن المجموعات السياحية الوافدة من مدن أوروبية كثيرة تضع زيارة النواعير في برامجها المكتوبة مسبقاً طيلة أيام السنة. يزور السياح القلاع ومناطق الآثار والأسواق القديمة، ويزورون نواعير حماة أيضاً ليمضوا رحلة مختلفة وخاصة لأن ما يشاهدونه عبر تلك الصناديق الخشبية المملوءة بالمياه، يشكّل مشهداً لا يتكرر وجوده في كل أنحاء العالم رغم أن بعض المهندسين الأوروبيين حاولوا نقل النواعير إلى بلدانهم في فترات تاريخية قديمة.
ولابد أن يشكل صوت هدير المياه وهي تتعبأ في الصناديق الخشبية وتعلو في أفق محدد وتنهمر من مكان آخر، جاذبية خاصة وإرضاء لذوق السمع والنظر لدى الآتين من مختلف أنحاء العالم. سبع عشرة ناعورة تتحرك في الأفق مصدرة أصواتاً متشابهة. البعض يسميه الأنين، والكثيرون لا يعرفون وصفه، لكنه على الأرجح صوت خرير المياه وهي تتدفق عبر نهر العاصي لتحاصرها النواعير وتختطفها إلى صناديقها الخشبية وتشكّل مدينة حماة بالنسبة للقادمين من البادية إلى الساحل السوري، استراحة مؤقتة مادامت نواعيرها تقع وسط الطريق المؤدي إلى عدة مدن، وتجمع حولها مقاصف ومقاهي عديدة لتستقطب العابرين في كل الأوقات وهي تتناثر في منطقة تمتد فيها المساحات الخضراء، لتضع الوافدين إليها في أجواء ساحرة، وتحتفظ بهم لفترات طويلة. ولكن السائح الأوروبي القادم إلى حماة لا يذهب إلى الاستراحات مباشرة لأنه يحمل في مفكرته عنوان النواعير.
وعادة يفضل الزوار القادمون من بلدان عديدة الوقوف في منطقة تمكنهم من كشف أكبر عدد من النواعير المتناثرة في أماكن مختلفة فوق نهر العاصي، لذلك تتجمع الافواج السياحية في “الساحة المركزية”، قرب “برج الساعة”، لتبدأ الرحلة بالانطلاق نحو جهة اليمين فتظهر النواعير بشكل متتالٍ أثناء السير حسب اتجاه تيار مياه النهر المندفعة إلى الأعلى، ليصل الفوج السياحي إلى منطقة الاستراحات والمطاعم المحيطة بالمكان بعد إنهاء الجولة السياحية. وهنا تصبح الإطلالة أكثر شمولية ليبدو المشهد شامخاً وهو يروي من خلال آثاره حكايات عديدة تشهد عليها الأوابد القديمة لتكون ذروتها التراجيدية مشيرة إلى سقوط حضارات، ونهوض حضارات أخرى، بدءاً من عصر الآراميين.
ومن الوهلة الأولى وقبل أن يزود الدليل السياحي الزائر بالمعلومات العامة، لابد من الاكتشاف التلقائي لارتباط النواعير بحماة منذ عصور قديمة، مانحة المدينة طابعها الخاص، ومشكّلة البصمة المميزة من خلال مشهد غريب وغير موجود في أنحاء الدنيا، ويعتبر الكثير من الباحثين أن حماة هي الموطن الأصلي للنواعير، حيث تم اختراعها قبل ما لا يقل عن خمسة آلاف سنة، ومنها انتقلت إلى حضارات عديدة لكنها لم تستمر بعد تغيير الحياة، وحينما اقتبس الصليبيون أثناء وجودهم في بلاد الشام طريقة صنعها حسب ما ذكره سوبر نهايم في “المعلمة الإسلامية”، ووضعوا في واد صغير قرب فرانكفورت في ألمانيا نواعير خشبية تشبهها، لم تنل نواعيرهم شهرة نواعير مدينة حماة لأن أماكن الآثار وحكاياتها محددة في مدن العالم، وما يؤكد على التاريخ القديم للنواعير لوح الفسيفساء الذي جرى اكتشافه في مدينة أفاميا الأثرية القريبة من حماة، وهو يحمل صور النواعير، ويعود تاريخه إلى القرن الخامس الميلادي، مما جعل اكتشاف أفاميا يعيد النواعير إلى مفكرة السياح الباحثين عن معاني الماضي وأشكاله الموحية بحياة سابقة، ليصبح هذا اللوح الأثري أهم الوثائق التاريخية الدالة على وجود النواعير في المنطقة منذ عهود بعيدة. يبلغ عدد النواعير حالياً في حماة سبع عشرة ناعورة على الرغم من أن عددها عام 1935 كان لا يقل عن 120 ناعورة، كما يذكر المسنون وتؤكد الوثائق، وهي عبارة عن عجلة ضخمة تتحرك بواسطة تيار المياه، لتنزل صناديقها الخشبية الفارغة إلى مياه نهر العاصي وتصعد وهي تحملها ممتلئة، فتصبها عند أعلى نقطة في قناة ناقلة، وتروي بتأثير الانحدار الحقول والأراضي وتصل إلى الحمامات والمساجد والخانات والمقاهي المحيطة، بينما صوت خرير مياهها يملأ الأفق بأنغام مختلفة حسب الصعود والهبوط، لتشكّل موسيقا خاصة تشبه الأحزان أحياناً وتوحي بالفرح في أحيان أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/1245.jpeg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/3391