الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

عندما نفجع بالنخبة أو نخدع بالمتنخوبين

AL HWEIMEL.jpg_230313_033333PM

 

 

لكل فجيعة أو خديعة مؤشراتها، فالنخبوي حين تتشابه عليه القضايا ثم لا يعرف حمى الله ورخصه. والمتنخوب حين يتمظهر بالتماس مع الثوابت، ولا يتحرج من نسف المسلمات، أو حين يتباهى بتجريح العدول من صفوة الصفوة، تقع الأمة تحت طائلة الفجيعة والخديعة: فجعيتها على حماة يعطون الدنية في الدين، وخديعتها بأحداث يخوضون في آيات الله بغير علم. وليس من الفجيعة، ولا من الخديعة مراجعة الأقوال، ولا تعقب الأفعال، ولا الأخذ والرد عن بصر وبصيرة. فكل عالم مجتهد يؤخذ من كلامه ويرد، وكل مسؤول قصَّر أو تجاوز، يجب أن يوقف ويُسأل. ولقد قالها عمر: – (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها). وما أضر بالأمة إلا التصنيم والتعذير والسكوت عن المريب. وكم نود ألاّ يتصورنا المصطلي بنار تأوهاتنا مسلِّمين لقول، ولا مصنمين لقائل، ولا متسامين بمسؤول فوق المراجعة والمساءلة. وكم نود ألاّ يحال امتعاضنا وتفجعنا إلى ماضوية ترفض الجديد، ولا إلى فَرَقٍ يهاب الاقدام، ولا إلى تردد يفوت الفرص، ولا إلى مداهنة تزين سوء العمل، ولا إلى جهل بالمعارف والمقتضيات والمقاصد. فنحن مع النقد والمساءلة، والتجديد، والتجريب، ولنا تواصلنا ومتابعتنا للطريف والتليد عبر كل مصادر المعرفة. نستشرف المستقبل، ونعطوا إلى وارق الحضارات، ونرفض التشبع والادعاء، ونتأبّى الارتماء في أحضان الغير، ونتحفّظ على المسخ والتمييع. وفي الوقت ذاته نحترم المسؤولية، ونقدِّر المسؤول قدره، ونفرق بين الممكن والمستحيل، والواقع والمثالية، والتوازن والميل.وكل ما نحن عليه أننا نمقت المجازفة في التجهيل، ونرفض الإيغال في التسفيه، ونشمئز من الإمْعان في التجريح، ونبرأ من الجرأة على ضرب الثوابت، ونعيب اجترار ما قد فرغ من قوله المستشرقون، ومن والاهم من المستغربين. وما أضرَّ بالأمة إلاّ تعالم الجاهل، وتعجّل الصدارة من غير ذوي الأحلام والنهى. ولكل زمان أغيلمته المندفعون، وكهوله المتصابون، الذين يربكون مسيرة الأمة، ويُصدِّعون تلاحمها، ويهددون وحدتها الفكرية. ولكل أغيلمة طرائقهم في التوهين، وآلياتهم في التصديع، ورؤيتهم في تصوُّر الحرية والحقوق.وفهم الأشياء على غير مراد منشئها وقوعٌ في الفتنة. وكم حذَّرنا الرسول – صلى الله عليه وسلم- من الأحداث والأغيلمة، كقوله: – (هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش)، وكأنه يرى مغامراتهم عبر حقب التاريخ رأي العين.
وحين لم يتأدب المتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلب أحد الغيورين من الصحابة التنكيل به، إلاّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه، مبيناً ما سيخرج من ضئضئة من نوابت سوء، نحقر صلاتنا وصيامنا عندهم، يحفظون القرآن، ولكنه لا يبلغ تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يحملون أثراً، ولا يمتثلون أمراً. وما من متجرىء على حيازات الأمّة إلاّ ويكون فيه شبه من أولئك، ويكون وراءه من يمده بالغي، ويمكِّن له في مسارح الفكر، وفوق أنهر الصحف، وعبر قنوات البث، وهم الدعاة الذين أخبر الصادق الأمين أنهم على أبواب جهنم. وإذا طُلَّت طائفة من هذه النوابت، قامت طائفة أخرى، تقول هجراً، وتفعل نكرا، ووجدت من يعذر لها، ويخذِّل الغيورين الناصحين، بحجج واهية، ومبررات مكرورة: كحرية التعبير، وحق الاجتهاد، ومشروعية الاختلاف، دون ضابط أو شرط أو إمكان. والمتابع للمغررين والمستجيبين يشمئز من أساليبهم في التغرير ومن سرعة الاستجابة لهم على كل المستويات. فإذا سمعوا قصيدة معوجة، أو قرؤوا قصة ملتاثة، أو بدههم رأي فطير، أو تعقبوا فكرة فجة لأحداث مبتدئين، طاروا بها فرحاً، وأسبغوا عليها من الثناء ما لم تأذن به أصول المعارف. وها قد حصحص الحق، وظهر ما كانوا يخفون من زائف القول. وما يقال على مدرجة الفن، قيل ما هو أقبح منه في سوح الفكر ومطارح السياسة، وفي كل يوم تسقط أقنعة، وتحاك أخرى، والأمة تتجرع مرارات المقترفات من أبنائها.
والمتابعون للتاريخ الفكري، يقفون على محطات زمنية يعرفها الخبيرون من لحن القول، حتى يقول المسكونون بالهم والذين معهم:- إنّ التاريخ يعيد نفسه أو يكاد. ويكفي المرء توثيقاً أن يستعرض أطرافاً من تاريخ (الخوارج) و (المرجثة) و (المعتزلة) ثم ليقفز إلى التاريخ الحديث، ليشهد مصارع الحرية والحقوق على يد قادة الفكر والأحزاب والمنظمات، وليرى كم تلاقي الأمة من متناقضات صارخة وتحديات سافرة. وإذا كان لكل نحلة منهجها، وآلياتها، ومقاصد تأويلاتها، وقواعد مذاهبها فإنّ أغيلمة العصر لا يحسنون إلاّ الهدم، والتفلت، وما لأحد منهم مذهب محدد المعالم. وكيف يواتيهم الانتحال ومبلغهم من العلم أقل من أن يثبت أقدامهم على مدرجة، ولا أن يوجه أفكارهم إلى نحلة، فما هم إلا أصداء باهتة لمقروئهم الآني. ولأنهم قد يجهلون نواقض الإيمان، ويفقدون آداب الحوار، وتخفى عليهم مسلمات الحضارة فإنهم يقعون في الحمى من حيث لا يعلمون. والمتقرىء للتاريخ الحديث في تنوعاته وتقلباته: السياسية والفكرية والأدبية والاجتماعية يسمع حسيس مذاهب: ماركسية ووجودية وعلمانية وحداثوية واجتماعية، تلقتها عرابات من ملل ونحل شتى، لا تدري ما الإيمان ولا الكتاب ولا الثقافة ولا الأنساق، ومن ثم فرقت كلمة الأمة، وكدرت صفو منابعها. وهل أحد لم يتأذ من ترديات الأحوال، واستفحال الهوان؟.
والقراءة المتأنية المتأملة لفيوض هؤلاء تؤكد أن بين أظهرنا من يقتفي آثار تلك المذاهب حذو القذة بالقذة، دون وعي لمفاسدها،ودون إدراك لمناقضتها. يعنفون حتى يكون الدم كالماء، أو يلينون حتى يكون النسك والفجور سواء، أو يتعقلنون حتى لا يكون للنص مكان، أو يتسطحون حتى لا يفعِّلوا نصاً ولا يطلقوا عقلاً. والمتقمصون لهذه الظواهر يقترفونها عن قناعة واعية أو عن تقليد إمعي. وليست مصائب المشاهد في استعادة التاريخ القديم أو الحديث وحسب، ولكنها في التخلي الطوعي عما يصلح الأمة، ويجمع كلمتها، والارتماء التبعي في أحضان الآخر، بحجة أنه المنقذ من التخلف والهوان.وظنّهم الذي أرداهم تصورهم أنّ الإسلام عوَّق المسيرة، وشرعن للعنف ومهّد للضعف والتخلف.وإذ نتوقع مثل هذه الآراء من ذوي الضغائن، ولا نستغربها من اليهود والنصارى المصرين على اتباع ملتهم، فإننا نمتعض من تداولها عبر ألسنة أبناء جلدتنا وأقلامهم، ولو أن نقمتهم على تراث أمتهم وقبولهم الحسن لما عند الآخر أقال عثرتهم، وجبر كسرهم، لقلنا فضلوا النقد على النسيئة، ولكن تهالكهم المزري ما زادهم إلا ذلة وهواناً وسخرية من الذين استعبدوهم.والراصد الحصيف يعرف أن التاريخ السياسي والفكري الحديث مرَّ بدعوات جادة، تحيل إلى المشروع الغربي بعلمانيته المارقة أو إلى المشروع الشرقي بماديته الملحدة، الأمر الذي عرض الأمة للتخبط، وحرمها من هداية الله إلى صراطه المستقيم، وعطَّل فيها إمكانية الابتكار والمبادرة. وما من فترة زمنية إلا خلا فيها من يفسد فيها، ويسفك المكتسبات على كل المستويات: الفكرية والسياسية والحضارية والتربوية والأدبية والاجتماعية. وكأن هذا التنوع أريد له أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة. وفي عصر العلم وثورة الاتصال انبجست أكثر من عين، وعرف كل أناس مشاربهم الفكرية والمدنية، إلا هذه الأمة التي لا تشرب إلا كدراً وطيناً، كما استبدت كل أمة بشأنها إلا هذه الأمة التي يقضى أمرها غائبة ولا تستأمر عند حضورها، ويا ليت نخبها إذ زهدوا بقيمهم جاد عليهم عدوهم بما يحييهم. وما من دعوة بائسة مسترفدة إلا ولها كتَّابها وصحفها ومشاهدها التي تمثل بشاعة العائل المستكبر. وما زاد التهالك أمة الإسلام إلا ثبوراً وتتبيباً. ومع أزمة الابتكار والإنتاج لا يُحسن العائلون المتكففون إلا التناحر فيما بينهم، والتطاول على رموز أمتهم، والولوع بخطابات الاحتدام والحدية. ولو أن التناقض والتناحر والاختلاف كان حول المتغيرات، لما سيئت وجوه المهتمين بأمر الأمة، ولكنه مستحر حول الثوابت التي لا يستقيم أمر الحضارة إلا بها. وما أصيبت الأمة في مفاصلها إلا ممن لا يعرفون نواقض الحضارة، ولا يميزون بين ثوابتها ومتغيراتها، يقولون في الحريات والحقوق عن غير علم، وبدون ضوابط، الأمر الذي زجّ بالأمة في متاهات الفوضى والضياع.
فدعاة الحرية لا يقفون عند حد، ودعاة التسامح لا يتمعرون من مقترف، ولا يردون يد لامس، ودعاة الوسطية لا يلتزمون بمقتضياتها، والمتنطعون لا يسدون الذرائع، ولا يدرؤون المفاسد وحسب، ولكنهم يغلقون الطرق، فلا يبيحون زينة، ولا يحلُّون طيِّباً من الرزق. وهكذا تضيع الحقائق والقيم بين تناقض المواقف، واضطراب المفاهيم.فالمتفلتو ن لا يتحرجون من شيء، ظناً منهم أن التسامح لا يتحقق إلا بالمودة والمداهنة والموالاة والهرولة والتطبيع والتمييع واستمراء العهر والكفر. والمتنطعون يقولون على الله غير الحق، ودعاة الحرية المطلقة لا تتحقق عندهم حتى يكون من حق المتكلم أن يقول ما يشاء فيما يشاء متى شاء، وحق الفاعل أن يفعل ما يشاء على أي شكل شاء. ولهذا تجدهم يتهمون الوقافين عند حدود الله ب(الإقصاء) و (الأثرة) و (السلطوية) و (المصادرة)و (الماضوية) و (الرجعية)، يسفِّهون ذوي الأحلام، ويجهلون ذوي الأفهام، ولا يملكون أدنى حد من أدبيات الحوار. وما علموا أن لكل حضارة ثوابتها ومتغيراتها ومحظوراتها ومباحاتها، وأن لكل حضارة مساحة مشتركة تتداخل فيها مع الحضارات الأخرى، وتمكن المستشرفين للمستقبل من الاشتغال في مساحات التقارب والتحاور والتلاقح والتقارض، وأن هناك حضارة ومدنية وعلماً وفناً وفكراً. وأن الحضارات تشترك في المدنية والعلم وفي شيء مما سواهما، فيما تبقى الخصوصيات في الفكر والفن، والتباين في العقائد والعبادات والمعاملات. وما علموا أن الحضارة لا تكون إلا حيث تكون المغايرة، وليس شرطها الصدام ولا الوئام، وليس من مقتضيات أي حضارة سرمدية التعايش والتصالح، فالصراع أكسير الحياة، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس. ومتى أمكن السلام فلا مكان لغيره. ومن الفجيعة والخديعة أن ندع العلم التجريبي، والتقنية المتطورة، وإعداد المستطاع من القوة الرادعة، ونتلقى فيوض الآداب والأفكار والسلوكيات. وما مثلنا في هذا التناقض العجيب إلا كمثل من يأكل إذا عري، ويلبس إذا جاع. وما ترانا في أسواقنا وبيوتنا إلا مقلدين مستهلكين.
والذين يلوون ألسنتهم بالمقولات المستفزة في الفكر والأدب والسياسة يدعون أنها من عند أنفسهم، وما هي إلا ناتج اختلاس غبي وحديث في المسكوت عنه عفة أو حرمة ليكونوا بهذا الاستدعاء أصداء باهتة ممجوجة لطائفة من المفكرين المعاصرين الذين بنوا أمجادهم على أشلاء أمتهم، حتى لكأنك تستذكر بمقولات من لا يستحون ما كان قد قاله من قبل (الجابري) في مشروعه عن العقل العربي، في تكوينه وفي بنيته أو في كتابيه : (إشكاليات الفكر العربي المعاصر)و (الخطاب العربي المعاصر)، أو ما قاله (العروي)في مشروعه عن مفهوم الدولة والحرية والقومية، أو ما قاله (حرب) في نقده لمجمل الخطابات، أو ما قاله (العالم) أو (حنفي) أو (غلوم) أو (الأخضر) أو (حسين أمين) في كثير من قضايا الأمة بغياً وعدوانا، ودعك من أساطين الحداثوية ك (أدونيس) و (أبي زيد) ممن لهم وعليهم، أو ممن عليهم وليس لهم. وحتى بعض هؤلاء ترى فيهم ملامح (طه حسين) في منهج الشك ومستقبل الثقافة، وضغائن (سلامة موسى) في صليبياته الحاقدة، وانفلات (قاسم أمين) في اجتماعياته، وعمالة (عبدالرازق) في سياسياته، وضلالات (أبي ريه) في ظلماته، وماركسيات (خليل عبدالكريم) في تاريخياته. وليس لأحد من أولئك الأغيلمة إضافة ولا مبادرة ولا استقلال، ولا أخذ محكم لا يتجاوز التناص إلى الاختلاس. ولا ينخدع بالمختلسين إلا الذين قصرت أخادعهم وخطواتهم عن أن يلحقوا بأساطين الفكر الإسلامي الأصيل أو يطاولوهم، ولما يعرفوا رموز الفكر المنحرف، وأساطين الحداثة الفكرية، وفلول الوجودية والماركسية، وبقايا الصليبية الحاقدة. وما أتاح لهؤلاء المتذوقين فرص الركض في فجاج الفكر والسياسة والدين إلا مثقفو السماع الذين لم يؤصلوا لمعارفهم، ولم يحرروا مسائلهم. والمؤسسات الثقافية والإعلامية بحاجة إلى مفكرين خبروا دواخل الفكر المادي ومنطلقاته، وعرفوا غثه وسمينه، وتابعوا استدعاءاته ومبادراته، ليأخذوا بحجز المتهافتين قبل أن تعريهم المشاهد، وينبذهم الرأي العام، وتخسرهم أمتهم. فكم من طُلعة توسم فيه المتابعون الخير، تقحم الحمى، فكان أن شاهت ملامحه. وكم من مجازف أوغل في النَّيل من رموز الفكر، فأدان نفسه، وأطفأ وهجه، وكم من متجرىء على المقدسات والمنزَّهات والقطعيات أردته جرأته، فعاش ذلة الخوف والهجر، وانطوى على نفسه.
والتعديات السافرة على فكر الأمة وعلمائها الذين أجمع السلف والخلف على عراقة أقدامهم في العلم وسلامة مقاصدهم، لا ترضي إلا مرضى القلوب. وصلاح الأمة وإصلاحها في تجديد خطابها والأخذ بأسباب الحضارة والمدنية ومراجعة المنجزات الفكرية لا تقتضي الإيغال في التجريح، ولا الإمعان في السخرية، والأمة بحاجة إلى من يحميها من دخن الفتن، لا إلى من ينبش عفن التاريخ، ويحيل ضعفها إلى ماضيها. ولا يتحقق ذلك إلا بالوعي، والوعي يتحقق بفقه القضايا، وفقه الواقع، وفقه الأولويات. فلا يكون حكم إلا بعد تصور، ولا تكون رؤية إلا بمعْرفة قَدْر، ولا يكون أداء إلا بترتيب المهمات. وقادة الفكر ورواد النهضة وزعماء الإصلاح سبقوا إلى التفقه قبل التسود، ولقد قالها عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا.

عن جريدة الجزيرة- الرياض – العدد/11576

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *