الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

رهـانـات النـصّ في مواجهـة الشعــر

130666_2011_05_30_12_53_20

 

 

في تأمل واقع الكتابة الشعرية المعاصرة، العربية عموماً والسورية خصوصاً، ما يدفع إلى مساءلة منجزها النوعي ومتراكمها الكمي، وإلى إنتاج لحظة الانفصال الضرورية، نقدياً، للنظر في حال التجربة ومآلها، أو للتبصّر في ممكنها من خلال متحققها، سعياً إلى اجتراح الجديد بآفاقه الحوارية المغايرة لثوابت الثقافة المعيارية التي تنهض عليها هذه الكتابة وتلوذ بها. وهو ما يمكن أن يشكّل مدخلاً آخر مختلفاً في رؤية الذات لنفسها في صورة منجزها المتشكل، يطمح إلى تحريض بدائل منتجة خارج أطر المطابقة التي تؤمن عودة الذات إلى نفسها في وقعها الأحادي المتردد بالتكرار الذي ينتهي إلى صورة ساكنة لا يبارحها عمقياً، ولا يني يتكشف عنها في مساره الموهم بالحركة مظهرياً.

تشهد الكتابة الشعرية، في قوالبها السائدة، على استقرار تعريفي ضمني يؤطر مفهوم الشعر داخل حدودها، ولهذا تتوالى الكتابة مدوّرة على هذا المقياس، ومضروبة على ثبات الأصل المتوهّم، فيكون اللاحق صورة للسابق، ومحاكاة له توجب سريان الممارسة على أرض موطّأة في فضاء مجرَّب معلوم يحذف إمكانات المغامرة، ويجبه وثبة الاندفاع نحو مفاجآت المجهول التي لا تتنزل على قواعد الألفة والتكرار، ولهذا تدور الكتابة المشار إليها، في الأغلب الأعم، على استعادات ومطابقات، شاحبة قليلة الماء، لكنها آمنة في دوائر الاستقرار والاستنقاع، لا تخدش أعراف الصياغة وجماليات التشكيل المتملّكة المؤمّن عليها في تلافيف الذوق الاجتماعي اللغوي ودغمائياته العاملة في تصليب مرتكزات الراهن وإعاقة مجراها الواقعي عن الفعل والحركة والتحوّل.‏

من هنا – كما أقدّر – تتأتى أهمية التنظير للنص والمراهنة عليه في مواجهة ما يسمّى بـ (الشعر). فإذا كان هذا الأخير أقرب إلى الجمعي ذي التعريف المنجز الذي يلبّي أفق انتظار القارئ، ولا يبارح دوائر التوقع المعتادة التي شكلّتها الثقافة السائدة، ورسَّختْها طرائق الإنتاج والتداول في حدودها المعيارية الثابتة، فإن النصّ – خلافاً لذلك – يتعرّف بالسلب والنقض، ويفجأ الشعر بما ليس هو، سعياً إلى ما يمكن أن يكونه، دون أن يطابقه ويستولي عليه. ذلك أنه يجبه التعريفات، ويطيح بأوهام التحديدات، ويجبرها على إعادة التشكل بالانفتاح على التجربة، بدلاً من أن تكون كوابح لها وقيوداً عليها.‏

لقد سبق لأدونيس أن اضطلع بجهود تنظيرية عالية في هذا المجال قبل أكثر من ربع قرن. وكان لإدوار الخّراط، تالياً، بيانه النظري عن الحساسية الجديدة، ومقترحه في الكتابة عبر النوعية. ولعلّنا الآن أحوج إلى تأمّل مثل هذه المبادرات، وإلى تفعيلها وتحقيق الإضافة الممكنة عليها، بالنظر إلى واقع الكتابة الشعرية السائدة التي يحتمي بعضها ببعض، ويشكّل بعضها معيار بعض، بما تكون عائدته إقراراً بما هو الشعر في وضعه القائم على التثبيت لا التغيير، وعلى المشابهة لا الاجتراح، وعلى المراكمة لا النقض. وهو ما ينتهي لزوماً إلى توجيه الشعر ضدّ نفسه، وإلى تحويله أداة في رفد الثوابت الاجتماعية واللغوية والجمالية وتعزيز سطوتها. ومن هنا تتسلّل الوظيفية إلى الشعر، وتكفّهُ عن أن يكون هو.‏

يشير النصّ إلى ذاته تجلياً فريداً في أفق الشعر. ومن مقتضيات هذه المراهنة عليه ضرورة التوجّه إلى خلق فرص المباعدة وإنتاج قواعد نصيّة تنحو بالكتابة الشعرية إلى التمفصل مع تاريخها. هكذا يأتي النصّ إنجازاً نوعياً يحمل معه مقترحه في التعديل والحذف والإضافة. إنه يسهم بذاته في تحريك المفهوم بإحداث التحوّل فيه أو التحوّل عنه. وفي توليد المقترح النوعي الجديد يتعيّن النصّ في تميّزه وانفصاله عن المنجز، وفي محاورته له. وذلك شرط بناء نصّية متفاعلة، ومنفتحة على ذُرا أخرى تحتملها، وتتكشف عنها، وتوجّه إليها بالمخالفة والاشتقاقية وإعلان البدء الجديد في مغايرة التجريب.‏

منذ (باختين) لم يعد الأسلوب هو الرجل، خلافاً لما قاله (بيفون)، أي أنه صار محكوماً بالتعدد والحوار التناصّي، وهو ما يوجب الانفتاح على إمكانات اختلاف هويات النصوص وقواعدها وأساليبها، بحيث لا يكون الواحد منها حضوراً على شاكلة غيره مما يتقدّمه أو يوازيه. فالهوية معَّرفة بالتعدد لا بالإفراد، وبالتنوّع لا بالأحادية، وهي صيرورة تحوّل وتلاقح واستيعاب، وليست علامة قطع وتثبيت وانغلاق.‏

إنها هوية النصّ الجديد الذي يعيد تعريف الشعر أو يعدّل فيه، لا هوية الشعر في تصوّره الجمعي الذي تقرّه من جديد وتتحصَّن به آليات الممارسة القائمة على القرب والتكرار وإعادة إنتاج أخرى للأنموذج المفترض، بالدوران على محيطه، أو بتأكيد خصوصية تولّده وانبنائه.‏

ربما كانت ضرورة مساءلة الشعرية العربية تتأتى من حيث هي، في الحقيقة، مساءلة للكّل الاجتماعي الثقافي، مساءلة للعطالة ضدّاً للإبداع، وتلمّساً لخروج ممكن من الذات الأحادية، ومن المعنى الراسخ رسوخ الأبنية الفاعلة له، والمحافظة عليه في نقائه وامتداده الخالص صورةً لهوية متعالية محصَّنة بوضوحها الوهمي الإنشائي، بحيث إنها ترتّد إلى ذاتها النقيّة، وتتكشّف عنها في الأزمنة المختلفة. وهو ما يعني كونها مصمتة لا يسكنها الاختلاف، ولا تلتبس بغيرها، ولا تنطوي على أضدادها المتوترة فيها، أو المحدثة لتخارجها وتعيناتها الجديدة في حركة التاريخ، التي من المفترض أن تغدو بها ما ليست إياه في منحى حيوية الوجود المفتوحة على صيرورة التشكّل في اتجاهها الصاعد.‏

هذا التصوّر الجوهراني للهوية لم يكسبنا، على مستوى الكّل المشار إليه، سوى مزيد من الجمود والتقوقع. وهو ما نشير هنا إلى امتداده في الكتابة الشعرية، من حيث هي انفراع عنه في مفهومها الجمعي المستقّر، وفي ممارساتها المبنيّة عليه. وليست المشكلة في اندراج هذه الكتابة تحت مسميات النثر والوزن والشفويات اليومية وغيرها. المهّم في ذلك كلّه هو نوعها وقوّة إشعاعها. ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن ثمّة نمطيات مضروبة على القوالب الجاهزة في التجارب المتساوقة جميعاً. وليست جاهزيات النثري بأقّل من جاهزيات النظام العروضي الكمّي. هناك ما يشار إليه الآن بـ (قصيدة النثر العمودية)، قياساً على عمود الشعر العربي القديم، من حيث هي حضور آخر له، وصورة موازية له تزامنياً في تصّلب أعرافها، وانغلاق نمطها، واستنساخ شكلها، وتراكم مقوماتها في التجارب المتعاقبة.‏

في تأمّل هذه الحالة مما نحن فيه ما يستدعي قانون القياس التراجعي الموروث في ردّ الحادث على السالف وإدارته عليه. فهو – وإن بدا اختلافاً عنه في المظهر – ينكشف مطابقةً له في الجوهر، بسبب من اعتصامه بالثابت، واستجابته لمقتضيات عمل المؤسسة وقوانين التمأسس التي تحمل القصيدة على الشعر، وتعيّن لها موقعها المناسب في إطاره، فتتعرّف على وفاقه، وتتنزل على قواعد الطاعة في ظل أنموذجه الإرشادي العام، مُضحّية بفرادتها الذاتية ووهجها الخاصّ، لتكتسب قوة النظام وتندغم فيه، متحولة بقوة انتسابها إليه إلى عائق جديد أمام المبادرة، وإلى فاعلية شدّ وتعطيل لما ينتظر أن يكون، جرياً على القانون الفقهي، وتحييناً جديداً له بتفعيل آلته في قياس الغائب على الشاهد.‏

إن ما تنطوي عليه هذه الورقة من مقترحات، وما تفضي به من رؤى إبداعية تقيم الشعرية في قوة التشكيل، وفي بناء علاقات نصيّة تخلخل طوابع الاستقرار النسقي، لا تنفصل في توجّهها المخصوص عن سياق التطلع إلى نهضة شاملة، تحرّض مستويات الواقع، وتحرّكها في المدارات المختلفة، وذلك ما يتبدّى، نوعياً، في الحقل الذي نحن بصدده بخلق إمكانات نصيّة تبدع علاقاتها الجديدة في اتجاه المستقبل، إذْ لا سبيل إلى الإرهاص بواقع جديد أعلى من خلال التوسّل بمسكوكات تعبيرية وعلاقات لغوية تعيد ما كان وتستنفذ الممكن فيه. وعلى هذا الأساس يكون التوثب الإبداعي المنشود نقضاً لطرائق حضورنا المعتاد، وإعادة نظر جذرية في علاقتنا بالذات والعالم تستدعي إنشاء خطاب مختلف، وتحولاً إلى بنية نصيّة تفصح علاقاتها عن ذلك المختلف، وتمكّن له بمخزون الإشارة لا العبارة، وبفاعلية القطع لا الاسترسال، وبفجوات الحذف والصمت والتظليل، التي تتيح لفجاءات المختلف أن تنقدح في شتىّ الجهات، مشعّةً بدوافع المساءلة والنظر والاعتراض.‏

الإبداع، في فحوى هذا التشوّف، هو انخراط جديد في العالم ينعتق من سلبية اليقين وطمأنينته. إنه إفصاح نوعي عن غياب أصلي، ومطاولة له بقيمة التجاوز. ومن هنا يتعيّن أن يكون الإسهام النصّي في إعادة تأهيل (الشعر) حضوراً على مستوى الغياب، أو إبحاراً في لُجتّه، مشحوناً بالترقّب وخلجات المجهول، ومبطَّناً بقلق الحدس الذي هو قوة كشف واحتجاب. ولعلّ ذلك مما يوجب النظر إلى خصوصية النص في بنيته النوعية التي تختزن هذه الآفاق جميعاً وتنفتح عليها.‏

(عن جريدة الفداء الحموية عدد الخميس: 24-10-2013)

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *