الوقوف على الأطلال في العصر الجاهلي
الشعر العربي طورٌ من أطوار الأدب , و قد مرَّ بعصور كثيرةٍ و كان لكل عصر مميزاته وأساليبه في رواية الشعر , ومن تلك العصور العصر (العصر الجاهلي) حيث التزمت فيه القصيدة العربية نمطا و شكلا محددين , لا يحق للشاعر تجاهلهما , أو الخروج عنهما , فهما عماد بنيان القصيدة و أساسها . إذ كان لا بد للشاعر العربي من ابتداء قصيدته بالوقوف على الأطلال , تلك الظاهرة التي سادت لتصور حنين الشاعر و شوقه إلى دياره , كما يقول الطائي بلوعة :
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى … و حنينه أبدا لأول منزل
إذ ليس أحبُّ إلى قلب الإنسان من المكان الذي ولد و ترعرع فيه و ضمَّ ضحكات طفولته , و كان مرتعا لصباه , و لكن ظروف الحياة التي تحفُّ الصَّحراء , من قحط و جفاف كانت سببا في ترحاله وتنقله الدائم
أمن أوفى دمنة لم تكلم … بحومانة الدراج فالمتثلم.
بها العين والارام يمشين خلفة… وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
من موضع لآخر بحثا عن الماء و الكلأ , و لعلَّ في شعر زهير بن أبي سلمى خير تعبير عن ذلك حينما قال :
فلمَّا وردن الماء زرقا جمامه … وضعن عصي الحاضر المتخيِّم
معبِّرا عن ذلك بأنَّ وجود الماء يعني وجود الحياة .
ولا بد هذا الترحال الملازم له أثَّر في نفسه , فانعكس ذلك في الشعر الذي أبدعه , فنراه جليَّا واضحا يطلُّ علينا في مطلع كلِّ قصيدة جاهلية أو معلَّقة , كما بدأ امرؤ القيس معلَّقته قائلا :
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل … بسقط اللوى بين الدَّخول فحومل
فتوضحَ فالمقراة لم يعف رسمها … لما نسجتها من جنوب و شمأل
ثمَّ يتابع موضوعه معتمدا مفردات جاهليَّة صعبة , لكنّها جميلة و معبرة , واصفا مراده , معالجا غرضه , سواء كان المدح أو الذم أو غيرها كثر , وصولا إلى خاتمة قصيدته . و بهذا نرى أن الشِّعر الجاهلي قد اتَّسم بارتباطه الوثيق بحنين الشاعر إلى الديار التي أمضى فيها بعضا من سنوات عمره , و هذا ما انعكس في ما نظمه مجمل شعراء العربية في العصر الجاهلي ,ما أضفى على ذلك العصر جمالية الأسلوب , و روحانية التعبير , و أصالة المغزى و المعنى…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ