الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

ما يشبه المدح

aqbattama1

 

الاثنين: 21-10-2013

كيف يرى الشاعر- أيُّ شاعرٍ- أنه أقل قيمةً من السلطان- أيِّ سلطانٍ ويشعر أنّ قامته أقصر؟ وأنّ رأسه أقلُّ شموخاً؟! وأنَّ ميدانه أضيق؟!

وكيف يسمح أن تتكسّر سماواته على باب الخليفة ؟!وأن تنزل أقماره عاريةً من ضيائها لتقف في حضرة السلطان تطلب عطفه؟! وتستجدي حفنةً من الدراهم وهي التي لا تساوي في عمر الشاعر إلاّ حصياتٍ تتدحرج تحت قدميه؟!‏

أيُّ إغراء ذاك الذي يدفع بالشاعر إلى أن يتلبّس غير شخصيّته الحقيقية؟! ويطرح أسلحته جانباً وينزل إلى الميدان أعزل من الكرامة والكبرياء والعنفوان ويهوي عند أوّل صرّة مالٍ ترمى في وجهه؟! ما الذي جرى ويجري لبعض الشعراء؟!‏

يستهين الشّاعر بنفسه ومكانته فيضعها على مدخل سوار القصر ويحني قامته كي يرضى حارسُ الباب أن يحاوره ويسمح له بالدخول والمثول في حضرة الكبير المستلقي على قفاه رافعاً ساقيه إلى الأعلى وهو يعلن بطريقةٍ أو بأخرى أنّه بهما يسند السماء كي لا تقع على الأرض، وهنا تبدأ المهزلة.. شكوى وطلب المال وإذلالٌ وادعاءٌ فيه ما يشبه المدح.‏

ابن الهبارية شاعرٌ مغمورٌ جداً في العصر العباسي يقف في حضرة الوزير (نظام الملك.. معاتباً شاكياً أنه يعود كما يأتي فارغ الوفاض عطشان والحياض قريبةٌ والسقاة كثر ولا أحد يمدّ يده إليه بكأس ماءٍ.‏

أتجهل يا نظام الملك أنّي أعاودُ من حماكَ كما قدمتُ ؟1‏

وأصدر عن حياضك وهي نهبٌ بأفواه السقاةِ وما وردتُ‏

ترى ما الذي تستدعيه بنيةُ مثل هذه القصائد؟!‏

يأتي الجواب سريعاً‏

إنَّ الوزير يمعن في البخل والشاعر يمعن في الكتمان فلا يبوح بشيء ولا ذاك يفتح خزائنه ولا هذا يمدّ لسانه ، وإنّ كانت حال الشّاعر تخبر بما يجري.‏

يدلّ على فعالك سوءُ حالي وتنطق عن مثالي إن كتمتُ‏

إذا استخبرتُ: ماذا نلتَ منه وقد عمَّ الوفود ندىً سكتُّ؟‏

ولا أدري أعن قصدٍ أم عن غير قصدٍ يوجّه الشاعر لكمته التي تظلّ آثارها باديةً على جبين الممدوح المسكين فيقول له:‏

وما في الوافدين إليكَ شخصٌ يمت من الولاء كما أمتُّ‏

هذا ما كان من شاعرٍ مغمور ربّما يعذره القارئ – وهو غير معذور- حاول أن يتكئ على عصا الممدوح وينهض معه ويمشي خلفه، فوقع فيما يشبه المدح.‏

وكيف وقع في ذلك شاعرٌ سيظلّ في ذاكرة العصور ما دامت؟!‏

وفي كتب النفوس ما بقيت؟!‏

إنه المتنبي صاحب الراية التي تختلف كثيراً عن راية امرئ القيس الشاعر الجاهلي المعروف.‏

هل هجا أبو المحسد ممدوحه سيف الدولة الحمداني واعياً أم جاهلاً؟‏

وهل شكا تجاهل ممدوحه كما فعل غيره؟ وهل صور سقم حاله ورداءة أوضاعه مستدّراً حليب الناقة؟‏

إنّ العرب تكنّي بحرارة القلب عن الاهتمام والتعلّق وببرده عن الإعراض والإهمال.‏

واحرَّ قلباه ممن قلبه شبمُ ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ!!‏

ويدعو إلى أن يتقاسم الوافدون وهو منهم عطاءَ الأمير على قدر حبِّ كلِّ واحدِ منهم لطلته.‏

إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم‏

ثمّ يبدأ الشاعر عتبه مذكراً الممدوح بضرورة أن يمدّ إليه يدَ العطاء يا أعدل الناس في أحكامه إلاَ في معاملتي إذ ضيقت عليَّ ما قد بسطت من فضلك على الآخرين، إنّ بيننا خصومةً وأنت الحكم الذي أقبل به لقد وصف الشاعر ممدوحه بثلاثة أمور هي من أقبح الهجاء: الجور، والخصم، والحكم الذي لا يجوز أن يكون أحد الخصمين.‏

يا أعدل الناس إلاّ في معاملتي فيكّ الخصامُ، وأنت الخصم والحكمُ‏

ثم يتابع: لا تنفع العينان إذا تساوى فيهما الظلام والنور.‏

فما نفع عينيك وقد ساويتني بالآخرين؟!‏

وما انتفاع أخي الدّنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوارُ والظُّلمَ؟!‏

ولماذا أضمرُ حبك والآخرون يعلنونه كذباً وافتراءً وأنا صادقٌ فيما أضمر وفيما أبوح به وهم مدّعون كاذبون فيما يخفون ويعلنون؟!‏

مالي أكتّم حبّاً قد برى جسدي ويدّعي حبَّ سيف الدولة الأمم؟!‏

إنها لوحةٌ رائعة ٌ أبدعها المتنبي على عادته لكنها تدير ظهرها للمدوح الذي غاب عنه أنه في مدار الهجاء ولكنه مغطى بديباج المديح فانطلت الكذبة.‏

وأظن وأتمنى أن يظن معي القارئ الكريم أنَّ المتنبي كان في حال غضبِ شديدِ فجاء لومه لاذعاً ترك آثار حريقٍ على جسد الأمير ما زال يكتوي بها.‏

وليقل معي: سلامٌ على أمّة ٍ لا يهون ولا يهان فيها شعراؤها!‏

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *