تناغم كوليت خوري مع فرقة رماد للمسرح الراقص

by tone | 27 فبراير, 2014 9:01 م

55666863[1]

«ستلمس أصابعي الشمس» قصة رمزية نسجت خيوطها الأديبة كوليت خوري منذ عام 1962 ونشرتها مسلسلة في مجلة «الحسناء» يومذاك، حيث نالت إعجاب القراء.
وجذبت انتباههم إليها فلم يخبئ الشاعر عمر أبو ريشة إعجابه بها حين خاطب الأديبة بقوله: عليك أن تحذفي «ستلمس» وتكتفي بالكلمتين الباقيتين «أصابعي الشمس»، واليوم أجدني أمام أديبتنا الكبيرة أقول لها: بل احذفي كلمتين وأبقي واحدة «الشمس»، ففيها تختزلين كل النور الذي سموت إليه، وكل العطاء الذي دعوت إليه، وكل الآلام التي نثرتها بين طيات وعبر كلمات هذه القصة ورموزها. ‏
تصور هذه القصة حالة الإنسان الذي يعيش الاغتراب في المجتمع الحديث، وتزيد من مأساوية هذه الحالة حين تجعل ذلك الإنسان امرأة تعاني تلك الآلام كلها، فهي بعد أن داهم الموت آخر من كان يرعاها في منزل الأمومة تجد نفسها وحيدة رغم ما يحيط بها من أهل وأصدقاء، ويائسة برغم الدروب التي انفتحت أمامها ودعتها إليها، وخائبة رغم نجاحها وتفوقها يتنازعها الفراغ والموت، ويتجاذبها الحب والفن، ويناشدها البرد والدفء، فقد تنكر لها الأهل والأصحاب «أنت غريبة» «أنت من الجيل الصاعد الذي لا نعرفه، فوجدت نفسها مرتمية بين أحضان الخيبة والوحدة» صادقيني أنا حقا قاسية، لكن آرائي موحية والخصب في نفسي، تعالي فأنا صديقتك الوحيدة.. ألا تعرفينني ؟ اسمي الوحدة، هيّا يافتاتي..»
 وفي وحدتها يقتلها الفراغ الذي يحيط بها من كل جانب، وترى أنياب الموت مكشرة لها تريد افتراسها رغم شبابها اليافع، فتخور قواها وتهن عزيمتها، وتتحول إلى ضحية يفترسها اليأس، لكن الأمل الذي يبزغ بنور الحياة يشد على ساعدها حتى تنهض، وتجد بقاء نفسها في عطائها وفنّها، فتمنح الحياة قلبها وروحها ووقتها «فرحت أسرق من عينيها الصور وأقدمها هدايا إلى صديقي، رحت أنهل من نفسها الرحيق وأصبه في كأس أسمري، رحت ألملم اللآلئ من راحتيها وأصوغها عقودا أطوق بها الجيد الحبيب» ، ولأنها أعطت هذا الحبيب كل وقتها وحياتها تقدمت منها الشهرة بأضوائها اللامعة وألوانها الأخاذة فارتقت سلم المجد ليقبل عليها كل من تنكر لها الأهل والأصدقاء والجيران، فتعيش جذوة النشوة في حال من الصحو والسكر بين جموع المحبين والمعجبين، ولكن عندما تعود إلى منزلها تشعر بالبرد يدق العظام، وينهش القلب الظامئ إلى الدفء والحنان. ولما مر الوقت واشتد البرد وجدت الدفء الذي تبحث عنه بين حنايا الزوج الغيور الذى رأى في فنها مزاحماً له في حياتها، وفي شهرتها مصدراً لازعاجه، وفي ماضيها مايقلق راحته، فيضعها أمام خيارين لتنهض في روحها عزة النفس والكبرياء «أنا التي لن تسمح لك بأن ترضي ما حييت بالذل! بل لن أسمح لك بالشكوى أنا «الكبرياء» توأمتك يا صغيرتي ، وهكذا تحدد طريقها من جديد إذ تجد نفسها أمام سيدة ثاقبة النظرات تقول لها:أنا التي سأدفعك دائماً، أنا الحزم والقوة والتصميم، أنا «الإرادة»، كيف لم تشعري أن الفن هو أنت.
بالطبع إن هذه القصة ليست قصة اغتراب فحسب، بل هي قصة كفاح وصراع من أجل الحياة، قصة الأنوثة التي تريد أن يعترف بها مجتمعنا لا كنصف فقط، بل كإنسان من حقه أن يعيش ويحيا ويتألم، وهذه القصة الرمزية التي أخذتها فرقة رماد وحورتها إلى مسرحية راقصة ليست الأولى التي تخترق عالم الأدب فتتجول بين الفنون، فبعد رواية «أيام معه» و«أيام مع الأيام» استوحى الفنان السوري جوليان قطيني لوحته الفنية التي رسمها وجعل لها عنوان «كوليت والأيام». وللأديبة العديد من الروايات مثل «دعوة إلى القنيطرة»، و«دمشق بيتي الكبير» وكذلك لها الكثير من المقالات التي تزين الصحف السورية واللبنانية والعربية منذ سنوات طوال، ولأن الفن يحتاج إلى متذوق ماهر كانت وقفة لاوند هاجو مؤسس فرقة رماد للمسرح الراقص مع «ستلمس أصابعي الشمس»، فحولها إلى المسرح وبذلك تكون أول رواية تحول إلى عمل راقص، وإن يجد الفيلسوف «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، فإن المخرج لاوند هاجو يجد «أنا أرقص إذاً أنا موجود» ترحل الأسياد الصغيرة ، ويبقى المسرح، رقصاً صادقاً محباً.. لنستمر فلنرقص». ‏
إن الموهبة الأدبية التي صاغت هذه القصة الرمزية لاقت موهبة فنية استطاعت أن تحولها إلى لوحة راقصة، وليس ذلك بالأمر اليسير لولا رمزية تلك القصة وامتلاؤها بالألوان المعبرة التي اتكأ عليها كل من المخرج لاوند والدراما تورج ديما ناصيف التي راحت تبحث عن معطيات مسرحية تحل محل الكلمة والرمز، وقد كان لها ما أرادت، فتضافر عمل المخرج مع الدراماتورج مع الإضاءة مع الموسيقا والديكور لتقدم عملاً فنياً يأخذ من الحياة ويعطيها. ‏
لقد اعتمد الفضاء المسرحي على إخلاء أرض خشبة المسرح في الوسط والأمام، حيث يقدم الممثلون رقصاتهم المعبرة، في حين ارتفع الجزء الخلفي لتنزل منه «البطلة»، وتخوض غمار الحياة، وقد رسمت على جدار ذاك الجزء صورا مختلفة للمرأة تناولتها في عدة أوضاع من وقوفها وجلوسها. ‏
لوحة الرقص الأولى: تسعة شباب وشابات يؤدون رقصات متنوعة تنقسم إلى مجموعات منسجمة في الرقص مع بعضها ومختلفة مع الأخرى، وتارة الجميع يؤدون رقصة واحدة، في حين جلس شاب يعزف الموسيقا في الأمام وراحت البطلة «راما الأحمر» في وحدتها تتلوى على أرض خشبة المسرح في الخلف، وهي إذ ترى ذلك تنزل إليهم لتشاركهم الرقص، ويحدث التجاذب والتنافر، وحيناً تجد نفسها بينهم وواحدة منهم، وحيناً تراها وقد أقصوها بعيداً عنهم. اللوحة الثانية: المعاناة مع الوحدة، حيث تجلس وحيدة على الكرسي وحيث تؤدي مع الوحدة «ساندريلا الخوري» رقصات تعبر عن التنافر والتقارب بينهما. اللوحة الثالثة: تراقص اليأس «سوسن أبو الخير» التي أذاقتها من قربها صنو ما أذاقتها من بعدها. اللوحة الرابعة: كانت خروج البطلة من عزلتها ومن تمزقها بين اليأس والوحدة ولجوئها إلى الفن الذي وهبته حياتها. اللوحة الخامسة: البطلة تصعد سلم الشهرة ومن حولها المعجبون،. وفي إيماء ورقص يظهر لنا ماتعانيه تلك البطلة من صعاب، وما بذلته من تضحيات للوصول إلى هذه الشهرة والحفاظ عليها، وماكانت تكابده من ألم الوحدة والفراغ حين تخلو إلى ذاتها، وفي لوحة تالية تخرج إليها المرأة في لباس الحب والشهوة «الأحمر» «لميس منصور»، وقد وضعت على كتفها الشال الأرجواني ليحصل معها ما حصل مع سابقيها من جذب وإقصاء في لوحة راقصة لا تقل جمالاً وتألقاً عنها، وتأتي بعدها لوحة العرس وزفاف البطلة إلى زوجها الذي سرعان ما تختلف معه وتنفصل عنه لتتوالى اللوحات بعد ذلك وتعود البطلة إلى وحدتها ويأسها في رقصات مختلفة مع «الوحدة» و«اليأس»، وسرعان ما تتخذ البطلة قرارها بالعودة إلى فنها «لاوند هاجو» وترسم بصحبته أجمل اللوحات والرقصات، ولتتصافح مع الجميع فتراقص «الأزرق ـ الوحدة» و«الأصفر ـ اليأس» و« الأحمر ـ الرغبة»، وفي كل ذلك كان يحدوها «الأمل» الطفلة «جيدا الفرا». ‏
ليس بالإمكان أن نرسم تلك الرقصات بالكلمات، ولا أن ننقل تلك الرشاقة التي تمثلت في الحركات، ولا تلك البراعة التي ظهرت في التعبير الجسدي والحركات والإيماء والتصوير، فالفنانون «غيث سالم، ضياء الشيخ، جمال تركماني، علي حديد، عامر برزاوي، والذين جسدوا الشخصيات الرمزية السابقة» كانوا على درجة عالية من الأداء تناسبت والأفكار الطموحة التي راحت ترافق اللوحات المرسومة باللوحات الراقصة، وتعبر عنها بالريشة والحركة الراقصة، وكانت تنزل تلك اللوحات من الأعلى فلوحة الوحدة كانت لامرأة تجلس على الكرسي، وقد خرجت قدمها من أسفل اللوحة، ولوحة اليأس كانت لامرأة تجلس على الأرض، وقد باعدت بين ساقيها وبيدها «لفافة التبغ»، وقد خرجت قدمها من جانب اللوحة، أما اللوحة التي عبرت عن حب الفن فكانت امرأة نثرت شعرها مع الرياح حتى خرج شعرها من أعلى اللوحة، وذلك الخروج دلالته التعبيرية الواضحة، أما لوحة العرس فكانت امرأة تمشط شعرها، وقد تكورت الشمس وراءها، ولوحة العودة إلى الفن والحياة فكانت اللوحة عبارة عن أمواج متلاطمة تتسابق فيها المرأة مع الجياد والشراع، وهذه اللوحة هي ذاتها لوحة «كوليت والأيام» التي رسمها الفنان جوليان قطيني. وقد ظهرت الإضاءة في أفضل استثمار لها، حيث استخدمت لتعبر في تقليصها على أهمية الحدث والتركيز عليه، وفي ألوانها عما ترمز إليه في تلك الألوان من إيحاءات مساعدة على توضيح اللوحة الراقصة، وكذلك استخدمت في الإظلام للتقطيع بين اللوحات. ‏
أما الموسيقا فقد كانت أشبه بألحان ناطقة تصرخ وتزمجر حين الموقف المناسب، وتغدو ناعمة هامسة حالمة، تميل الخصر، وتبعث البهجة والنشوة، وتهز الرأس طرباً حين راحت البطلة تتبختر بغنج مع رغبتها، وكذلك رافقت لوحة العرس فنقلت صورة حية لعرس دمشقي، كذلك حين رافقت لوحة الشهرة فارتفعت الأصوات وتداخلت بين معجبين ومهنئين وآلات تصوير وموسيقا مهرجانية، لقد تضافرت الجهود لتقدم عملاً فنياً رائعاً يضاف إلى أعمال فرقة الرماد عملاً لم يكن لها لتستطيع أن تقدمه على هذه الصورة الأخاذة لولا النية الصادقة أن يبقى المسرح رقصاً صادقامحباً يعكس رؤية الأديبة كوليت خوري في قصتها تلك الرؤية التي تناهت إلى أسماعنا بالصوت الشجي للفنانة القديرة ثناء دبسي: لن تحطم الخيبات عزمي /لن ترهق الجراح طموحي/ بالرغم من الحواجز/ سأطير نحو الذرى/ وستلمس أصابعي الشمس/ فتصبح أناملي ينابيع دفء.. وجداول أمل/ ينهل منها العابرون. ‏

صحيفة تشرين – د. طارق عريفي

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/55666863.jpg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/6724