الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي ـ المشتاية

دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي
المهندس جورج فارس رباحية

554534_724466417579984_1565078697_n

يحتل دير القديس جاورجيوس (1) ـ الأكثر تكريماً في الشرق الأدنى ـ موقعاً يتميّز بجمال الطبيعة الخلاّبة ، فهو يقع في بلدة المشتاية بوادي النضارة التابعة لمنطقة تلكلخ بمحافظة حمص يبعد عن مدينة حمص حوالي 60 كم باتّجاه الغرب . بُنيَ الدير على تلّة في جبل أنصارية ، يرتفع 150 متراً عن سطح البحر ، تُحيطُ به من كافة جوانبه تلال مُكَوَّرة القمم وعلى إحدى هذه التلال المجاورة له تقع قلعة الحصن التي تُشرِف على المنطقة بأسرها ، غير أن موقع الدير لا يقلّ عنها روعة وجمالاً ، فتكسو سفوح تلّته أشجار الزيتون والسنديان والكروم فتُعْطي رداءً جميلاً من اللون الأخضر المتفاوت الظلال . وفي يوم طقس جميل يُمكنك رؤية تعرّجات جبال لبنان الممتدّة جنوب الموقع .
أن اسم الحميراء المنسوب إلى الدير له عدة تفسيرات لدى الدارسين للمنطقة ولعلماء الآثار
نذكر منها :
ـ هو موقع أثري يحمل هذا الاسم يقع قرب الدير .
ـ أن يكون الموقع لقرية قديمة قريبة تحمل هذا الاسم نسبة لآله المطر لدى الشعوب القديمة.
ـ أن لفظة حميراء تعود إلى الكلمة اليونانية ( خوميروس ) التي تعني ” السيل “حيث المنطقة
بطبيعتها الجغرافية والمناخية مُعَرَّضة للأمطار الغزيرة والسيول في فصل الشتاء .
ـ احتمال أن الحميراء مُعرّبة عن الكلمة اليونانية ( أموييروس ) التي تعني ” الأخـــوية
الروحية ذات الحياة المشتركة ” .
ـ أو إن الدير شُيِّدَ على أنقاض هيكل وثني للآله ( هوميرا ) .
ـ أن كلمة ” الحمايرة ” تعني في اللغة الآرامية ” القوي أو المنيع ” .
ـ أو تُشير هذه الكلمة إلى التربة الحمراء الخصبة الموجودة بالمنطقة .
تتدفّق ينابيع كثيرة من التلال المجاورة للدير تصب في بحيرتين ترويان حديقة الدير التي يزرع فيها الرهبان شتّى أنواع الخضار . وأحد هذه الينابيع يُغَذّي آبار الدير بالمياه عبر نظام صرف خاص . كما يوجد بالقرب من الدير ” نبع الفَوّار ” المقدّس (2) .
بُني الدير على فترات زمنية متباعدة :
الديــر القديـم
بُنيَ هذا الدير على الطريق الروماني العام المؤدي من السواحل البحرية إلى البلاد الداخلية كحمص وعبر الصحراء ماراً بتدمر ، وكان في بادئ الأمر كهفاً تُحيط به بعض القلالي البسيطة (الصوامع ) للرهبان . يُرجَّح أنه بُنيَ في القرن السادس الميلادي ورجًح بعضهم أن الذي بناه هو الإمبراطور البيــزنطي جوستينيان1″Justinian ( 483 ـ 565 ) م مع دير صيدنايا . للدير واجهة بيزنطية في مدخله الرئيسي . الباب والأعتاب منحوتة من الحجر الأسود البازلتي ارتفاعه 93 سم وعرضه 64 سم وإلى جانبه نافذة حجرية كان أخوة الدير يُناولون منها الخبز والطعام للمحتاجين وأبناء السبيل وكان احد الرهبان يطل من النافذة على القوافل المتجمّعة ليعلّمهم قواعد الدين والعلم والآداب .
الطــابق الثاني
بُني هذا الطابق في زمن الفرنجة في القرن الثاني عشر ، بوابته تتّجه نحو الغرب وبنفس الارتفاع والعرض للأولى وكذلك من الحجر الأسود وعليها رسم الصليب ، ويُسمّى هذا الباب باب ( الفَرَسْ ) لأن الفرس كانت تدخل منه بالرغم من صغره وفي هذا الطابق أيضاً كنيسة ثانية يقوم سقفها على عقد مُعَلّق في الجدران ، وفيها أيقونسطاس من خشب الأبنوس غاية في الدقة والإتقان محفور حفراً فنيّاً رائعاً من صنع رهبان الدير ولم تُعْرَف مُدّة إنجازه والشيء الملفت للنظر عدم وجود أي نخر أو تَسَوّس في الخشب إلى الآن ،ويُلاحظ في أسفل الأيقونسطاس وجود جدار خفيض مُغطّى بالآجرّ الخزفي العثماني وهذا يدل على أن الكنيسة وإن شُيِّدَت في زمن الفرنجة ، إلاّ أنها رُمّمت في العهد المملوكي . ويحتوي هذا الأيقونسطاس على مجموعة رائعة من الأيقونات تعود إلى بداية القرن الثامن عشر ورثت الفن البيزنطي وأعطته سمات محلية خاصة اصطلح على تسميتها ” الأيقونة السورية” أقدمها أيقونة العذراء والطفل وأيقونة المسيح الضابط الكل والباب الملوكي وكلها من تنفيذ نعمة الله (المعروف بنعمة المصَور الحلبي ) كما رُفِعَت أيقونة أخرى للعذراء والطفل على الجدار الشمالي للكنيسة وحول المشهد المركزي للسيدة والطفل رُسِمَ 24 مشهداً تقليدياً من حياة العذراء. وهي الميّزة الأشد خصوصية في هذه الأيقونة ، إذ تكوّن معاً الشكل المرسوم لنشيد مديح العذراء ، الذي لا يُجلس فيه ، والذي يُخبّر عن سر التجسّد . كل مشهد يبدأ بحرف من الأبجدية اليونانية المؤلّفة من 24 حرفاً ويُنسَب مديح العذراء تقليدياً إلى كاتب الأناشيد الشهير القديس رومانوس المرنّم الذي عاش في القرن السادس الميلادي وهو في الأصل من مدينة حمص . كما نجد على نفس الجدار أيقونة للقديسين جاورجيوس وديمتريوس على صهوتي جوادين وثمة أيقونة تقليدية جميلة للقديس جاورجيوس على صهوة جواد أبيض موضوعة مقابل أيقونة الباب المملوكي هي أيضاً من تنفيذ نعمة الله المصوّر . وقد استهوى هذا الفن هواة الأيقونات فغامرت عصابة منهم بسرقة أيقونة القديس جاورجيوس سنة 1960 ووصلت هذه الأيقونة إلى لندن حيث عرض فيها مبلغ 25 ألف جنيه إسترليني ولكن البوليس الدولي عثر عليها وأعيدت إلى الدير .
الطــابق الثــالث
وهو الطابق الحديث فيه كنيسة فخمة بُنِيَت في القرن التاسع عشر من فن البناء القوطي (3) لها قبّة عالية وفيها أيقونسطاس من خشب البندق يمتد على عرض الكنيسة ومحفور بشكل جميل ودام صنعه 34 سنة من عام 1865 إلى عام 1899 . ويُعَدّ من أهم الأيقونسطاسات الخشبية في كنائس سوريا ولبنان ، وإن جميع أيقوناته من رسم نقولا تيودوري القدسي من مدرسة القدس خلال الفترة بين 1868 و 1870. والأيقونات هي:
أيقونة البشارة ـ أيقونة القديسين قزما ودميانوس ـ أيقونة القديسين جراسيموس وسمعان العمودي ـ أيقونة السيد المسيح ـ أيقونة يوحنا المعمدان ـ أيقونة العذراء ـ أيقونة القديس جاورجيوس شفيع الدير ـ كما نشاهد أيقونات للأنبياء ـ أيقونات لأهم الأحداث في التقليد المسيحي والجدير بالذكر إن معظم الأيقونات تحمل إهداء وتوقيعاً وتاريخاً . ويتم الصعود إلى الشعرية من الجانب الغربي من داخل الكنيسة وفي زاويتها الجانبية قبة جرس الكنيسة أي أن قرع الجرس يتم من داخل الكنيسة .
كما تُعِدّ رئاسة الدير قاعة لتكون متحفاً يضم القطع الأثرية الموجودة فيه مثل أواني كنسية من كؤوس وصلبان وهدايا من ملوك الأرمن والكرج (جورجيا ) والروس وغيرها فريدة في العالم المسيحي ، كما توجد مخطوطات ووثائق وكتب تواصي وامتيازات ويحتوي الدير أيضاً على مخطوطة هامة مؤلفة من قسمين : قسم أثري قديم عبارة عن مجموعة أختام بالحبر الأسود وقسم ثاني وهي ( العهدة العربية الإسلامية ) من الخليفة عمر بن الخطاب عبارة عن مخطوط على رق غزال يُشير إلى ما أملاه النبي محمد ( ص ) على معاوية بن أبي سفيان توصي بالمسيحيين وكنائسهم وأديارهم وعدم الاعتداء عليها ويحمل هذا القسم توقيع الخلفاء الراشدين كما تشير أنه تمّ في السنة الرابعة للهجرة ( سنة 625 م) وتم التأكد من أصالتها بنتيجة الأبحاث الدقيقة التي أجريَت عليها .
يوجد في الطابق الثالث من الدير حوالي ستين غرفة مجهّزة للسكن لاستقبال الزائرين للدير لاسيما في الاحتفالين الكبيرين أولهما في 6 أيار (مايو) عيد القديس جاورجيوس وثانيهما بعيد الصليب في 14 إيلول ( سبتمبر ) من كل عام ، ويُنْشَد الزوّار :
يا مار جرجس دستورك زوّار وجينا نزورك
لمّـا فُتْنَــا على الدير فاحت ريحة بخّورك
كما نجد مستودعات كبيرة وقاعات للمحاضرات حيث يُسمَع فيها الصوت بوضوح بدون استعمال مكبّرات الصوت . ويوجد (قاعة المعصرة) التي كانت فيما مضى تُستَعمَل لعصر الزيتون وتٌستَخدم اليوم كقاعة طعام وفي الاجتماعات الكبيرة . ويوجد داخل الدير فرن يُمكن استخدامه مُجدّداً حيث أُبْقِيَ عليه بالرغم من التحسينات العصرية ونرى في الجهة الشمالية خارج الدير سوق قديم يُدعى ( العُرْضي ) بني في بداية القرن العشرين وهو مؤلف من خطّين متوازيين من المتاجر ـ لعرض البضائع وبيعها من قِبَل التجّار ـ كان ولا يزال يُستخدَم في موسم العيدين المذكورين أعلاه . حيث يحج الناس للدير من مختلف أنحاء سورية ولبنان والأردن بالإضافة للسائحين الأجانب . ونرى في ساحة الدير الخارجية من جهة الشرق صف من الغرف تُشرِف على ساحة الدير تُستخدم لإقامة المعسكرات الصيفية للطفولة والشباب . والجدير بالذكر إنه تم تأسيس مدرسة الدير عام 1913 في أيام رئيس الدير الأرشمندريت شعيا كانت تتّسع لسبعة وعشرين طالباً داخلياً وعشرين طالباً خارجياً ، توقّفت فترة خلال الحرب العالمية الأولى ، وأعيد افتتاحها عام 1920 وفي عام 1935 تحوّلت هذه المدرسة إلى مؤسسة تعليمية إكليركية وأعتُبرَت الثانية بعد دير البلمند بلبنان ، وظلّت تعمل حتى عام 1954 .
أما بالنسبة للخانات الغربية الجنوبية فتعود إلى أيام حملة إبراهيم باشا ( 1789 ـ 1848 ) على بلاد الشام ضد العثمانيين في الفترة مابين 1831 ـ 1840 فقد مرّ إبراهيم باشا بدير الحميراء في طريقه من قلعة الحصن إلى نبع الفوّار الشهير ونظراً لجمال المنطقة أحبّ أن يتجوّل فيها مع عدد من ضبّاطه فتوجّهوا إلى الدير على صهوات جيادهم وكان الدير وقتئذ في دوره الثاني حيث لم يكن الطابق الثالث قد بُني بعد ، فرأى أمام باب الدير راهباً بثوبه الأزرق البسيط الخشن وشعره الطويل المُبعثَر وأمامه سلة فيها خبز ووعاء ملآن دبساً وكان يُعطي منهما لصفٍ طويل من الفقراء بينما كان راهب آخر يطل من نافذة عالية يُلقن جموع من الناس قواعد الدين والعلوم والآداب ، فسأل ما هذا ؟ فأخبروه أن هذا البناء هو دير الخضر(4) وهذا أحد رهبانه يوزع الطعام على عابري السبيل فدفعه حب الاطلاع أن يدخل إلى الدير مع مرافقيه فاستقبلوه بالترحاب وقدّموا له الضيافة التي تليق بمقامه ثم عاد إلى نبع الفوّار . وبعد استراحة بسيطة علم عن سمعة الدير الجيدة في المنطقة ومساعدته للفقراء والمحتاجين فأرسل رسولاً إلى الدير يطلب حضور رئيس الدير إلى عنده وبعد وصول رئيس الدير إلى نبع الفوّار ، قال له إبراهيم باشا : اطلب ما تريد من مساعدة للدير ، فقال رئيس الدير نريد أن نبني خاناً قرب الدير لخدمة عابري السبيل وأن الجِوار منعونا من ذلك . فأمر إبراهيم باشا أن يُكْتَبْ له بما طلب . وعاد رئيس الدير وباشر ببناء الخان الذي هو اليوم في الزاوية الغربية الجنوبية من الدير .
إن دير القديس جاورجيوس مُسَجَّل بين آثار سورية السياحية الهامة حيث يُشَكِّل مع قلعة الحصن (5) معلماً سياحياً هاماً فضلاً عن أهمّيته الدينية الخاصة إذ يؤمّه الناس من كافة البلدان ومن جميع الأديان والطائف والأجناس يحملون إليه النذور والهدايا ويُكرِّمون عجائب شفيعه القديس جاورجيوس العظيم في الشهداء .
إن إتباع كلمة البطريركي في تسمية الدير باسم ( دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي ) لأن إدارته تتبع لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس بدمشق كبقية الأديرة كدير صيدنايا ودير القديسة تقلا في معلولا .

1/4/2011 المهندس جورج فارس رباحية

المفـــردات :
(1) ـ القديس جاورجيوس : ( 280 ؟ ـ 303 ) م وُلِدَ في كبادوكيا ( أواسط تركيا ) والدته من اللد ( ديوسبوليس ) . عاد مع والدته إلى اللد بفلسطين بعد استشهاد والده وتطوّع في الجيش وأصبح قائد الأف واشتهر بانتصاراته في الحروب ولُقِّب بلابس الظفر أو الظافر . جاهر بمسيحيته استشهد بقطع رأسه في 23/نيسان/303 م ولقِّب بالعظيم بالشهداء . واسم جاورجيوس يعني الحارث الذي يحرث الأرض أو الفلاّح .
(2) ـ نبع الفـوّار المقدّس : يقع في وادي العطشان قرب الدير وهو عبارة عن مغارة يُنزَلُ إليها بعدة درجات تنتهي إلى فتحة واسعة يخرج منها الماء على شكل دفعات دورية بفترات زمنية غير منتظمة تتراوح بين عدة أيام وشهر كامل، يدوم خروج الماء بضعة ساعات وتمتد أحياناً لمدة يومين وتسبق خروج الماء أصوات هدير باطني تظهر إثرها المياه على دفعات ثم تُصبح مُستمرّة . ينظرون الأهالي إليه بقدسية لأنه يسقي أراضي الدير . وعُلّلت هذه الظاهرة بانسداد الفوهة بالماء وانضغاط الهواء ومن ثم اندفاع الماء بقوة الهواء المضغوط . يزور النبع عدد كبير من السياح سنويّاً خاصة زوّار الدير وقد أقيم حول النبع عدة مقاصف سياحية .
(3) ـ فن البناء القوطي : القوط Goth هم قبائل جرمانية على الأرجح قدموا من بلاد اسكندنافيا إلى أوروبا ويقُسمون إلى قسمين : القوط الغربيون وسكنوا غرب نهر الدانوب في القرن 4″م والقوط الشرقيون سكنوا شرق الدانوب في القرن 5″م ثم استقروا في جنوب فرنسا ثم في اسبانيا وبقوا حتى الفتح العربي 711 م .أُدخل فن البناء القوطي لأول مرة في دير القديس دينيس شمال باريس ونجح هذا الطراز نجاحاً كبيراً وبحلول عام 1250 م انتشر في أنحاء أوروبا .
(4) ـ الخضر : القديس جاورجيوس يُعْرَف بالخضر لدى الطائف الإسلامية التي تحترمه
(5) ـ قلعة الحصن : كانت تُسمّى حصن الأكراد ( حيث وضع أمير حمصي حامية كردية في الموقع عام 1031م ) ويُسميها السياح الأجانب قلعة الفرسان تقع على ربوة بركانية ارتفاعها عن سطح البحر 750 م وتبعد عن مدينة حمص 60 كم قرب الدير . لا يوجد تاريخ واضح عن أوّل من بناها وربما يعود إلى عدة قرون قبل الميلاد احتلها الفرنجة عام 1099 ـ 1271 حيت استعادها الظاهر بيبرس. تحوّلت إلى مركز سياحي عام 1934 .

المصــادر والمــراجع :
ـ كتاب السواعي الكبير : القدس 1886
ـ تاريخ دير مار جرجس الحميرا : مطران طرابلس الكسندروس جحا 1938
ـ المنجد في اللغة والأعلام : بيروت 1973
ـ زيارات للكاتب لموقع الدير .
ـ مواقع على الإنترنت :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *