الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

الشتوية في حماه زمن الأيام الخوالي :

58454644

الشتوية في حماه زمن الأيام الخوالي :

لا أكون مجانبا أومجافيا للحقيقة اذا قلت أن حماه في فصل الربيع هي ايقونة مدن سوريه لسحر مناظرها , وخضرة بساتينها . وفوحان عبق أزاهيرها ,وشوق الانفلات في احضان طبيعتها , وروعة جمال نواعيرها في دورانها ينساب منها الماء كاللؤلؤ المنثور كما وصفها الشعراء … و..و.. لكن السؤال هنا وماذا عن فصل الشتاء فيها في سالف الزمان ؟ حكاية شتاء حماه حكاية لها نغمات خاصة ذات ايقاع حزين على النفس لا تنسى فهي قاتمة تعيسة بائسه صورها باقية حية مازالت تعيش بين جوانح من عاشها وترسم على شاشة الخيال رغم قساوتها أحيانا وخاصة في أربعينية الشتاء حيث تكون الأمطار على أشدها والبرد والرياح , وتكفهر فيها الدنيا وتتعرى الأشجار, وتهاجر الطيور سماءها , ويطول الليل ويقصر النهار وأكثر الناس تقبع في بيوتها ترجو فيها خير ربهم وعطاءه في موسم الخيرات والبركات . الا انها صورا عذبة محببة فماذا عن مجتمع حماه في فصل الشتاء . بداية كان لموقع حماه الجغرافي من سورية في وسط البلاد ميزة في مناخها حيث يختلط فيه المناخ الجبلي لتأثرها من قربها لمصياف غرب المدينة وشدة الرياح القادمة منها والمحملة بالمطر , ثم من المناخ الصحراوي حيث سلمية شرقها وتأثير جفاف البادية وشدة البرودة ليلا ..ثم كان لطبيعة طبوغرافيا ارض حماه تأثير في تعاسة شتاءها فحماه تلال ومرتفعات كما في منطقة” المحطه والعليليات والدباغة والحاضر..و..و.. ثم وديان ومنخفضات كساحة العاصي وجورة حوا والمرابط وباب طرابلس….ففي فصل الشتاء تتجمع مياه الأمطار في اماكن منخفضة من المدينة لسوء تمديد الصرف الصحي فيها قديما فتشكل أحيانا مستنقعات مثل منطقة “المغيلة ” و”حارة الجسر قديما ” وكذلك في بعض الحارات والدروب الضيقه…وكم كانت تحصل طوافانات تسميها حماه “الزوده” حيث تتدفق مياه الأمطار قادمة بسيول هادرة من البر المجاور للمدينة فتنساق لتصب في نهر العاصي .وعلى العكس عندما تشح الأمطار كانت الناس تصعد على سفح القلعة لتؤدي صلاة الاستسقاء وتسمعهم يدعون ربهم عند نزولهم منها تتقدمهم الصبية الصغار والمبروكين من الناس ينادون بصوت واحد في تضرع وتوسل يثير الدمع ” يا ربنا ..ياربنا..انزل علينا…” كنت عندما تمر في الحارات تحاذر السيرقرب جدران البيوت لتتجنب سقوط الماء المنساب من المزاريب المسلطة من أعالى الأسطحه على الحارة فقد كانت تنصب منها أحيانا مياه الأمطار كأفواه القرب . وكان لتساقط المطر في فسحات الدور العربية وقعا كارثيا اذ تنساق المياه الى الأقبية وبيت المونه فيتعاون جميع أهل البيت في نضح الماء خارجها خوفا على سلامة المتاع والمواد …وكم كانت الناس تعمل على اصلاح ودحل اسقف بيوتها الطينية استعدادا لدخول الشتاء وتفاديا لدفق المطر الى دواخل البيوت وكم كنت تسمع تساقط قطرات المطر ليلا في بيت يدلف سطحه فتعمل المرأة الأم على وضع الطناجر والتنك تحت الدلف لتجمع الماء ثم تسفحه في أرض عتبة الغرفة بعد امتلاءها ,,, أن ايقاع صوت دلف قطرات الماء مازال يرن في اذناي هي موسيقى خالدة تصور أياما عشناها بالفقر والضنك والاستحمام في عتبة البيت كأكثر الفقراء..

10850900_741076272643272_1492224440_n (1)

10859765_741076262643273_191890512_n 10872324_741076269309939_1209866341_n

في شتاء الفقراء كانوا يقولون يكثر لبس الشراطيط وطبخ المخاليط ..فترى الفقير يكثر من لبس الثياب السميكه طبقات تعلوها طبقات اتقاء للبرد فكانت الكوفيات وطواقي الصوف تعتلي رؤوس الصبية والرجال و”شواشي ” الصوف تلف رؤوس البنات الصغار ومعظم النساء وبخاصة العجئز منهن , ولم تكن مظلات اتقاءالمطر “الشماسي”منتشرة كما نراها اليوم واذكر انه كان لها مصلح في سوق الطويل اسمه “راضي عدي” , وكم كنت تلمح “جزمات ” المطاط تدكها أقدام و الصغار لمخاضة الأوحال والمطر وترى منها كرنفالا من الألوان الأحمر والأبيض والأسود , وكان أكثر طعام الفقراء من الشوربات حيث فت الخبز وتصارع الملاعق على القصعه والبصل المشوى على المدفأة أو المنقل وتسخين الخبز وشي الجبن وأحيانا حرق قشر البرتقال على المدفأة ليبعث رائحه معطرة تنتشر بالغرفة وسائر البيت وكذلك ايضا كان عبق ورق شجر الكينا في طنجرة يغلي ماؤها فتبعث بخارا يطرد الزكام والبرد كم كانت تتصاعد الأبخرة من تنشيف الغسيل الرطب على منقل الفحم ينشر فوق قفص من الحديد أعد لذلك ا…كم كان يحلو شواء حبات الكستناء وسماع طقطقتها على منقل الفحم أيضا او الحطب وكان منظر الجد او الجدة تصب القطايف والسيالات او الشله او الكنافه على مدفأة الحطب وكان يباع الشوندر المسلوق والفول النابت والسحلب الساخن يتجول في الشوارع وحول اواب المدارس وكم تضحك لمنظر تصاعد الأبخرة من افواه الآكلين ..صور محفورة في شقوق الذاكرة لاتمحي ابدا …أيام أذكرها تماما وكم كان يطيب اكل الحلو اللذيذ من القطايف والسيالات والكنافة والشلق نأكلها بالسمن البلدي والجوز والقشدة العربية كما كنا نتسلى في سهراتنا بالموالح والزبيب والتين المجفف والهبول نشتريه من مصياف ونخلطه بالجوز حيث يحلو السهر وجدتي تصنع قهوتها على موقد كحولي في ركوة نحاسية صفراء بعد ان كنا نساعدها في طحنها بمطحنة كنا نبرم ساعدها حتى نتعب فيتناولها الأخ او الأخت ويتابع الطحن وكنا نسمع لحكايات الجد والجدة عن الشاطر حسن وعلي بابا و السندباد والزير سالم لساعات متأخرة من الليل وترى الصغار يلتفون حول مدفأة الحطب التي كانوا يجلبون لها الحطب من البلعاس ويخزنوه على سقيفة المطبخ او تحت درج السطح , كنت ترى الأطفال كيف تفرد أكفها حول المدفأة أو فوق منقل الفحم لتتدفأ وترى انعكاس لهيب النار يتراقص في بؤبؤ عيونهم وكلهم آذان صاغية للحكاية حتى ينعس الصغير و يفتح شدقيه في تثاؤب متكرر لشدة نعاسه ويجاهد لسماع الحكاية لنهايتها لكنه أخيرا يترنح في مكانه كالمخمور فينام فتحمله امه الى مكانه من فراش الأرض . كانت النساء تجتمعن في سهراتهن حيث نقر الدربكة والدف والرقص والغناء ولعب البرجيس والحزازير …والرجال أيضا في غرفة أخرى وأكل الحلويات والفواكه والمزاح والضحك والتنكيت وافتعال المقالب المضحكة وخاصة بين الجيران , كما كانت اكثر جلساتهم في المقاهي ويغشون دور السينما . كان زمن جميل رغم قساوة الشتاء وضعف امكانية مواجهته ماديا امعاناة الناس وفقرهم لكن حال حبهم لبعضهم والحميمية والألفة التي تخيم عليهم ودفء العلاقات بينهم يفوق برد الشتاء وبلل زخات المطر وثلوجه … كان اسلوب الحياة في ذاك الزمان سهل سليم نقي بسيط يسيطر على النفوس بكل طيب وصفاء نية فلا خلافات ولا ازمات مفتعلة او مستعصية بل تسير حياتهم بإيقاع نغمات جميلة موزونة حبيبة على كل النفوس والقلوب وبما تثيره من عذوبة لاستمرار الحياة بحنان غريب .. الحديث عن حماه يطول ويطول وما كتبته انما هي وشوشوات روح هائمة في حب بلدي وساكنيها الكرام .. ايه سقى الله تلك الأيام ورحم ناسها… واللهم بارك لنا في بلدنا وأمطاره وخيره وأنزل علينا من بركات رحمتك .

*************************************************************************

محمد مخلص حمشو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *