الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

حوار مع الروائي الجزائري واسيني الأعرج

 

2

 

باريس لم تعد غولة و أنا لن أنسى  من كان  وراء مقتل أصدقائي الأبرياء الذين لم يحملوا يوما  سلاحا غير القلم

تواصلت حركة السرد الروائي عند الجزائري  واسيني  الأعرج متنوّعة الوجوه والتشكيل حتى ظهر علينا بنصّ ملتبس مزدحم و مختلف هو “كتاب الأمير” الذي شغل الناس مدّة و نال عنه صاحبه الجوائز الكثيرة .نص خلاسي تتعالق فيه الكتابة السيرية بالروائية و التسجيلية بالفنّية لينحت تميّزه و اختلافه.
هذا النص الأدبي كان أيضا مثار جدل و اختلاف ككل الأعمال الناجحة خاصة بعد أن حقق نسبة مبيعات مرتفعة في معارض الكتاب العربية و ترجم إلى اكثر من لغة حية وحصد به صاحبه على جوائز عربية و غربية .
حول هذا النص و حول شخصية الأمير عبد القادر و ما جاورها يدور هذا الحوار النهري مع الروائي الجزائري واسيني الأعرج :

– كيف بدأت التفكير في كتابة رواية عن الأمير عبد القادر الجزائري ؟ ماهي المراحل الجنينية لتكوّن هذا المشروع؟ و لماذا اخترت هذه الشخصية التاريخية بالذات؟
– هذا موضوع يشغلني منذ فترة طويلة ، و ما دفعني إلى كتابة هذه الرواية أمران:
الأول :حيرتي أمام مفارقة كبرى في التعامل مع الأمير في الجزائر،فعلى صعيد الخطاب السياسي ينظر إلى الرجل باعتباره مؤسس الدولة الجزائية و بطلا من أبطالها الكبار بل هو أهمهم على الإطلاق و في المقابل لم ينجز حوله فنّيا لا مسلسل و لا فيلم سينمائي يجسد هذه الشخصية العظيمة ،هناك إذن مفارقة عجيبة بين الخطاب السياسي  و واقع التعامل مع هذه الشخصية التي تكاد تهمّش . و اكتشفت أيضا أنه ليس هناك رواية حول الرجل  فلا الحكومة و  لا القطاع العام قدّما شيئا للرجل و لا قدّم الفرد له شيئا و أقصد بالفرد الفنّان المستقل . من هنا انطلقت حكايتي مع الأمير و بدأت بالبحث و التنقيب عن أخباره و أحواله .
أما الدافع الثاني فهو عامل ذاتي: أردت البحث عن تجربة إبداعية جديدة خارج ما اصطلح عليه بأدب المحنة الجزائرية. أعتقد أن الكاتب هو القادر على رصد الحساسيات العميقة و غير الظاهرة في المجتمع و الإصغاء إلى نبضه ،و كان بالجزائر وضع غير عادي في التسعينات هو وضع الإرهاب ،كما تعلم،لكن بعد مدّة انتهى أو خف ذلك النبض و ظهر نبض جديد متعلّق بمشكلة الهوية و الأنا و الآخر ..
– لكن مشكل الهوية مشكل أزلي في الجزائر !
– بالفعل هو مشكل قديم لكنه  هذا السؤال عاد إلى المركز  بشكل جديد لأنه تعلمن  فالسؤال أصبح إنسانيا اليوم  هذا إلى جانب رغبتي الجامحة كما قلت لك  ،و هي الأساس ،في الخروج بنصوصي من مناخات الإرهاب .
– كذلك الكتابة عن الإرهاب وقع استسهالها فنكاد لا نقرأ في السنوا الأخيرة و إلى اليوم إلا  كتابات من هذا النوع دون أن يكون بعض الكتاب معنيين بذلك أي أنهم لم يعايشوا الإرهاب فعلا ؟
– هذا ما حصل و كان علي مغادرة هذه التيمة و هذا المناخ السوداوي إلى مناخ جديد أتقدّم من خلاله في مشروعي الروائي ..
– لماذا اخترت التاريخ لتجربتك الروائية الجديدة ؟
– الكتابة في مناخات التاريخ تمنحك الفرصة للخروج و للتجديد لأنك ستجد نفسك في عالم آخر .
– و لكن العودة للتاريخ قد تمثّل مأزقا كبيرا لأنك ستتعامل مع  وثائق و حقائق و أنت تكتب المتخيل .كيف ستحوّل الواقعي إلى روائي و متخيّل دون أن تمسّ بمصداقيته؟
– هذا مؤكّد ، و كنت أعي خطورة ذلك ، و لكن هاجس الخروج من كتابة المحنة كان هاجسي الأول  و دافعي لخوض التجربة .
– ألا ترى معي أن الواقعي أيضا امتداد للتاريخي و أن ما كنت تقاربه بصفته واقعا أي الإرهاب هو امتداد للتاريخ ؟
– فعلا و أنا على يقين أن المآل الذي وصلت إليه الجزائر ليس سببه الراهن ،إنما هناك أشياء لم يقع النظر فيها بشكل جيّد في تاريخ الجزائر هناك أخطاء تراكمت و لم تقع مراجعتها .
الأمير جعلني أقضي أربع سنوات من البحث و القراءة و الحب بكل ما تحمله كلمة حب  من تعب  و جفاء و عودة و شوق …. إلى أن تحصلت يوما على وثيقة متمثّلة في رسالة تأديبية وجّهت له من نابليون الثالث  يقول فيه أنه كان قد اشترط لإطلاق سراحه أن لا يحمل سلاحا فكيف يحمل ابنه محي الدين السلاح،فكأنما يقول له  قد أخللت بالوعد،فيردّ عليه الأمير برسالة و هي الوثيقة،تقول: أنا أتبرأ منه هذا ليس ولدي .
صدمتني العبارة غادرت جهاز الكومبيوتر و انتابتني خيبة كبيرة ، كل الذين عايشوني ذلك الوقت لاحظوا ذلك ،و اعترفت لهم أني كنت أسير في الطريق الخطأ.
– ماذا فعلت ساعتها ؟  هل أقلعت عن الكتابة ؟
– من حسن الحظ  أنه كان لي رواية صغيرة بعنوان “أكاريا” و هي الحشرة التي تأكل الورق …
– تقصد الأرضة؟
– تماما الأرضة, عدت إليها لأتقدم فيها . بعد ذلك كان عندي صديق فرنسي كان يعلم انشغالي بموضوع الأمير ،حيث إنني كنت أجوب المكتبات  و جمّعت حوالي ثلاثمائة وثيقة حوله ،  فأهداني  ذلك الصديق كتابا لقس الجزائر في عهد الأمير عبد القادر : منسونيور ديبوش  و كان عنوان الكتاب : عبد القادر في قصر أمبواز” و هو عبارة عن رسالة وجها ديبوش إلى نابليون الثالث و فيها يعطي القس صورة  عن الأمير مذهلة. فاستغربت من ذلك الحب و التقدير الذي كان يكنه ديبوش القس المسيحي للأمير المسلم و كيف كان يدافع عن الأمير دفاعا غريبا .
عندها تركت الأمير و أخذت ابحث في شخصية : منسونيور ديبوش فوجدت شخصية مختلفة تماما للأمير عبد القادر .
و هذا فضل الرواية التاريخية ،إنها مثل العلب الروسية واحدة تدخلك إلى أخرى فأخرى …دخلت هذه اللعبة حين أعادني منسونيور ديبوش إلى الأمير و اكتشفت حوارا للحضارات بالفعل في ذلك الزمن أي في القرن التاسع عشر. اكتشفت عقلين أدارا حوارا استثنائيا ليس فيه مكانة لثنائية :ضعيف/قوي رغم حساسية المواضيع التي كانت تناقش بين الرجلين و التي كانت تدور حول الفكر الإسلامي و الفكر المسيحي ….
– هل يمكن أن نعتبر هذه الرواية  منعرجا في تجربة واسيني الأعرج الروائية؟ و هل تفكّر في إعادة الكرة مع رواية جديدة تقارب فيها روائيا سيرة علم من أعلام الشرق أو الغرب؟
– عمل مثل هذا مغر كثيرا ،لكنه يتطلب مجهودا و وقتا كبيرين، فكتاب الأمير تطلب مني أربع سنوات من البحث و التنقيب . فكّرت منذ مدة في سيرة شخصية عربية  أندلسية و هو الشاعر ابن زمرّد ، و هو شخصية استثنائية و روائية تراجيدية أيضا . كنت أرغب في الاشتغال عليها لكني اكتشفت أن الأمر سيتطلب مني الكثير من الوقت ، ربما أعود إليها في وقت آخر ، لكني باق في الرواية التاريخية فأنا أشتغل في الجزء الثاني من كتاب الأمير و متعاقد مع دار الآداب لكي أسلمها الجزء الثاني و ربما الثالث .
– سمعت أنك صرّحت في ملتقى الرواية العربية في القاهرة بأنك تفكّر في العدول عن هذا المشروع؟هل هذا صحيح ؟ و هل شعرت بثقل الموضوع؟
– معك حقّ،هو مشروع صعب و صعب جدّا ، يحتاج إلى وقت كبير، و الحق أقول لك أني كنت اعتقد أن الرواية التاريخية ليس لها قرّاء و فوجئت بما حقّقه كتاب الأمير من نجاح جماهيري فقد كان الكتاب الأكثر مبيعا في معارض دولية للكتاب كانت دار الكتاب قد شاركت فيها .
– رغم ثمنه الباهظ؟
– فعلا، فالكتاب ضخم و من ثمة كان ثمنه باهظا بعض الشيء لكن ذلك لم يشكّل خطرا على رواجه و نجاحه ، و استغربت شخصيا من هذا النجاح !ربمّا أفسّره اليوم بالدعاية التي رافقت نشره .
– تقصد صدور بعض فصوله في “كتاب في جريدة” ؟
– اجل ، لان كتاب في جريدة وزّع تقريبا في خمس و عشرين جريدة عربية أي حوالي مليوني نسخة وزّعت مجانا مع الجريدة .
– هذا اعتراف المتواضع؟
– لا و الله ،أحاول أن افهم الأمر بموضوعية، ربّما عقلية الجامعي مازالت مسيطرة علي في تحليل هذه الموضوعات ،لأنه إذا كان عندك نتيجة فلا بد أن تبحث لها عن أسبابها المقنعة و المعقولة . أعتقد أن ذلك كان عاملا من عوامل نجاح الرواية و رواجها الكبير لأن الجريدة قدّمت ثلث الرواية و من اطلع على ذلك القسم سيبحث عن البقية التي لن يجدها طبعا إلا في نسختها النهائية.
و النقطة الثانية أن الرواية تدور حول شخصية جزائرية و عربية كبيرة تحتل مكانة مرموقة داخل نسيج المخيال الشعبي الجزائري و العربي .
– ربما كان فضول القارئ أيضا سببا من أسباب هذا النجاح التجاري . فقد يتساءل هذا القارئ :ماذا سيضيف واسيني الأعرج لهذه الشخصية التاريخية التي تبدو للوهلة الأولى واضحة و مكتملة في ذهنية القارئ . خاصة بعدما سمع بقصة حوار الحضارات الذي تعالجه من خلالها.
–  الحق أقول لك أن غايتي في البداية لم تكن التطرّق لحوار الحضارات أو الأنا و الآخر ،كان همي الأول كتابة رواية عن شخصية تاريخية و تراجيدية إنسانية .
– إذن، كنت تعتقد أن الرواية التاريخية لا يمكن أن تنجح في العالم العربي؟
– كنت أظن أن مجهود هذا الصنف من الروايات يغطّي مردوده و عائداته لا بالمعنى المادي فقط بل بالمعنى “القرائي” أيضا ، و هذا أمر ليس بصحيح و الدليل هو نجاحه الجماهيري و التجاري فقد ترجم الكتاب بسرعة إلى الفرنسية و إلى الانكليزية . علينا ،إذن، أن نصحّح نظرتنا إلى الرواية التاريخية لأنها ليست شحيحة و لا هي بالبخيلة إنها معطاءة متى كتبت بشكل جيّد.
– كيف استقبلها الإعلام الثقافي العربي؟
– حظيت الرواية باستقبال جيد من الإعلام العربي غير أن الإعلام الجزائري لم يهتم بها كثيرا ، و يمكنني تفسير الأمر بأننا منذ سنوات نعيش في الجزائر ما يسمى “الموت الثقافي” ، طبعا، كان هناك اهتمام في مدينة معسكر مسقط رأس الأمير عبد القادر و في مدينة سكيكدة  و كان هناك اهتمام كبير بالرواية في فرنسا و خاصة في بوردو .
– ربّما لان هذه الشخصية مرحّب بها في الغرب . هل مثّل الالتفات إليها شبهة لقلم واسيني الأعرج ؟ بمعنى  تساءل بعضهم لماذا الأمير عبد القادر في هذا الوقت بالذات ؟ هل نحن في حاجة إلى رجل التسامح أم  إلى رجل آخر ؟ لماذا المطلوب منا نحن العرب دائما أن نتعامل مع الغرب حضاريا في الوقت الذي يتعامل هو  معنا بوحشية و بربرية ؟
– أنا لست مؤّرخا ، لكنّي أكاد اجزم أنّي قرأت أهم ما كتب حول الأمير و وجدت فيها وجهات نظر مختلفة حوله  فالمدرسة العسكرية الفرنسية تراه مجرما و نظرة فرنسية أخرى ترى العكس و حتى في الجزائر فإن هناك من يراه خائنا  أو متساهلا مع فرنسا و طرف آخر يراه بطلا عظيما أما النظرة الانكليزية فتراه وسيلة هامة لدخول الجزائر  ،فقد كانت لبريطانيا أطماع  في الجزائر و قامت ببعض الهجمات صدّها الأتراك كما تعلم في ذلك الوقت. من هنا جاءت خصوصية شخصية الأمير و خطورتها لأنها ليست شخصية مسطّحة متّفق عليها بل هي شخصية مركّبة وخلافية . هذا التناقض هو الذي سيشكّل الاختبار الحقيقي بالنسبة للروائي ، كيف سيحوّل تلك الأخبار و تلك الوقائع و ذلك التناقض إلى متخيّل و نسيج سردي محبوك ، هذا كان رهاني .
خلاصة الأمر أنّي رأيت في فترة من الفترات أن الأمير شخصية لم يقع التعرّض إليها بشكل جيّد و لم تفهم جيّدا  فهي شخصية يمكن قراءتها في مستويين : مستوى الحرب: ظل الأمير يقاتل و يجاهد مدة 17 عاما بسلاح تقليدي و في قمة الجبال و هو رجل دولة بمعنى رجل سياسة و تفاوض : اختار مسلكا خاصا ، أكن له احتراما كبيرا ، و لكن دفعني هذا الاحترام إلى أنسنة هذا الرجل الذي تأسطر و هذا كل مجهودي في كتاب الأمير .
– كان جزءا من عملك إذن إعادة الواقعي إلى هذه الشخصية التي شطح بها الخيال الشعبي بعيدا ليؤسطرها ، أذكر انه كان المخيال الشعبي الجزائري يربط بين عبد القادر الجيلالي و الأمير عبد القادر و هذا أضفى على شخصية الأمير قدسية و هذا بلا شك شكّل مأزقا آخر لك ؟
– كلامك صحيح و دقيق تماما، حدث هذا في المخيال الشعبي، فقد كنت أمام شخصية مقدسة و دينية و سياسية و شخصية عسكرية من الطراز الأوّل. و كنت مطالبا أن أقدمه كشخصية إنسانية و انزع عنها طابعها الخرافي و الخوارقي الذي أضفتها العامة عليها من فرط حبها لها . و يزداد الأمر تعقيدا حين تجد أن كتب التاريخ قد ابتسرت هذه الشخصية و سطّحتها ، فليس هناك وثيقة تتحدّث عن نبل الأمير و طيبته و لا عن صورة الأمير العاشق ..و أنه دخل غمار الحرب بالصدفة . هذا لا يقوله التاريخ لذلك فأنت مطالب بالإنصات إلى مراجع غير تاريخية أثناء الكتابة . الحلم  الكبير للأمير كان دائما كيف يعود إلى الكتب فقد أجبرته الظروف إلى تركها للجهاد ثم عاد إليها في آخر حياته . هكذا هي حياته دائرية من الكتاب و إليه . حتّى أن الكتب كانت ورقة رابحة في يده يهدّد بها عند فض نزاعات القبائل أو القبائل التي وقفت ضدّه فكان بين الحين و الآخر يهدّد بالعودة إلى الكتب . أذكر عندما حرقوا عاصمته معسكر ،استغل الهدنة التي عقدها مع فرنسا لبناء جيشه من جديد و بناء عاصمة جديدة له موجودة في بوابة الصحراء اسمها “تقدمت” هذه المدينة قريبة من مدينة ابن خلدون التي اختبأ في احد الكهوف بها لكتابة المقدمة و هي نفس المدينة التي ولد فيها المستشرق الفرنسي جاك بارك . و أول ما شيّد الأمير في عاصمته الجديدة كان مكتبة و هي أول مكتبة جزائرية في القرن التاسع عشر .
بعد ذلك جاء ديجو فأحرق تلك المدينة و كان الأمير يشاهد تلك الواقعة من فوق الهضبة .
– صور سينمائية رائعة !
– هي كذلك فعلا ، و بعد أن غادر الفرنسيون المدينة المحترقة نزل الأمير و راح ينقذ المخطوطات المرمية في الطرق و يطفئ نارها بكفّيه .
– فماذا عن حوار الحضارات كيف تطرّقت إليه ؟
–  في هذه الرواية حوار الحضارات حوار هامشي أو جزئي لأنه مستوحى من لقاء بين رجلين من ديانتين مختلفتين يجمع بينهما البعد الإنساني و أقصد طبعا بالرجلين مونسينيور ديبوش  القس الفرنسي بالجزائر و الأمير المسلم . في البداية ذهب مونسينيور ديبوش  إلى الأمير طالبا منه إطلاق بعض الأسرى الفرنسيين أما المرة الثانية فقد ذهب إليه بعد أن خبر إنسانية و علم الرجل و عظمته  ، كانت الزيارة المطوّلة في سجن أمبواز ، في هذه الزيارة نشأ بينهما حوار حضاري عجيب في ذلك الوقت خال من كل تعصّب و دون أدنى تنازل . رغم حساسية المواضيع المطروقة و التي كانت تدور حول الفكر المسيحي و الفكر الإسلامي .
– أريد أن أسألك سؤالا ألحّ علي و أنا أطالع “كتاب الأمير” فقد قرأت أن الأمير قال مخاطبا مونسينيور ديبوش الذي أهداه الإنجيل أنه سيقرؤه و انه سيعتنق المسيحية إذا ما اقتنع بما فيه ؟ هل هذه الواقعة تاريخية فعلا ؟
– كل الحوارات التي اعتمدتها في الرواية بين الرجلين هي سجالات و حوارات موثّقة تاريخيا .بل أقول لك ما هوأبعد من ذلك كان مونسينيور ديبوش يمازح الأمير بقوله :كم أتمنى أن  تصبح مسيحيا لان واحدا مثلك يمكنه أن يمسّح كل المسلمين بما له من مكانة في قلوبهم و عقولهم و كان الأمير يردّ عليه بذات الأسلوب . وانتهى الأمر بالرجلين أن بقي كل واحد منهما متمسّكا بدينه و جمع بينهما الحس الإنساني المشترك . و هذا ما ينقصنا اليوم ،نحن نعيش عصرا يغيب فيه هذا الحس لذلك حواراتنا الحضارية حوارات زائفة لأنها مجرّد بروتوكلات يعود على أثرها المتحاورون دون أدنى اتفاق حتى إذا ما تعلّق بالإنسان كإنسان . أنظر ما يحدث في العراق ، هناك أمريكيون كوبوي (رعاة بقر) وفي المقابل هناك شعب عراقي يذبح و  يحرق يوميا و ليس هناك مكان للإنسان و حقوقه . فلا منطق غير منطق القوّة و الفلاسفة و المفكرين الذين ينادون بالسلام ليس لهم صوت في هذه المعركة و إن سمع لهم صوت فلا أحد يهتم بهم .
– دعني آخذك إلى نقطة أخرى متعلّقة بمقولة التسامح. ما الفرق بين التسامح الذي تتحمّس له و تدعو إليه في كتابك و الوئام المدني الذي طرحه الرئيس بوتفليقة ؟ و لماذا رفضت هذا المقترح ؟ أليس في الأمر بعض الغرابة؟
– أنا أقبل التسامح و الوئام من حيث المبدأ فلا أحب الأحقاد و لم أنشأ عليها ، أعطيك مثالا على ذلك :إن استشهاد أبي في الثورة الجزائرية لم يجعلني عدوا لفرنسا و لم يحل دوني و التدريس في جامعاتها لأني أميز جيّدا بين الشعب الفرنسي و زمرة من الجيش و من الاستعماريين الذين شنوا الحرب على وطني . لا يمكن أن أجرم كل الشعب الفرنسي فمن ضمن الفرنسيين من قاتل في صفوف الجزائريين و قتل. طبعا أعلم تماما أن هناك ظالم و مظلوم و أن الجزائر استعمرت من فرنسا بغير حق لكن هناك أجيال أتت بعد ذلك لا علاقة لها بما حدث و بتلك الحرب. لذلك لا يمكنني أن أجرم كل الفرنسيين كما قلت و أنا ضد المواقف الشمولية.
المشكل يا صديقي ليس في التسامح بل في ثمن هذا التسامح . الفكرة في حدّ ذاتها نبيلة في شكلها المجرّد لكن الفكرة للأسف ليست كذلك إذ هي فكرة مسيّسة .
– هل ترى في هذا الاقتراح أو المشروع الرئاسي /الوئام المدني عملية خضوع و استسلام؟
– اجل و علينا أن لا نستسلم لان الدولة قوية. لا يمكنني أن أتسامح و اقبل هذا القانون و أنا أرى بأم العين قتلة محترفين يطلق سراحهم دون أدنى عقاب . أنا طليق الآن و يمكنني أن أسافر أينما شئت لكني أفكّر في الناس البسطاء كيف سيتعاملون مع ذلك الوضع ؟ هؤلاء قتلوا عائلاتهم و يتّموا صغارهم و احرقوا لهم بيوتهم .
– هل موقفك ناتج عن معاناتك الشخصية مع الإسلاميين ؟
–  يا أخي أذكر أن ميكانيكيا في الدرجة الصفر من الثقافة كان  يعطي الأوامر بقتل المثقفين و أحد ضحاياه الطاهر جاووت.
– تقصد الأديب الكبير الطاهر جاووت ؟
– نعم الطاهر جاووت أحد أقرب الأصدقاء المقربين مني كان معي قبل يوم واحد من مقتله لا أستطيع نسيان ذلك . أحيانا أفكر أني حيّ بفضل أولئك الذين ماتوا لأنه لو لم يقتل الطاهر جاووت لما أخذت احتياطاتي ، فمقتله فتح لي طريق الحياة .
– أنت إذن مدين له بحياتك ؟
– تماما ، دائما أقول انه إذا كان لنا حظ الحياة فعلينا أن لا ننسى هؤلاء و عهد أخذته على نفسي و ليقل الجميع ما يشاؤون  سأظل وفيّا للطاهر جاووت و عبد القادر علولة. أن يقوموا بوئام أو غيره هذا أمر لا يعنيني ، لكني لن أنسى  أن هؤلاء الناس كانوا وراء مقتل أصدقائي الأبرياء الذين لم يحملوا يوما  سلاحا غير القلم . هذا ارث احمله على ظهري ما دمت حيّا.
– إذن لا مجال للتسامح ؟
– دعني أقول لك أمرا: سأتجرّد من ذاتي و أفكر في الآخرين ، في الناس الذين لابد لهم من حلّ . كيف سيكون ذلك الحلّ؟ أعتقد أن أي مخطئ ننتظر منه اعتذارا على الأقل أما هؤلاء القتلة فلم يعتذروا بل بالعكس يتطاولون يوميا ، تابع تصريحات علي بلحاج و عباسي مدني و العيادة الميكانيكي الذي أمر بقتل الطاهر جاووت ، لم يعتذر واحد منهم في أي منبر إعلامي بل ظلّوا يستفزّون الشعب الجزائري الذبيح على العكس في أمريكا اللاتينية ظهر كبار المجرمين ليعتذروا في التلفزيونات و المنابر الإعلامية الأخرى ليعتذروا لشعوبهم . أما عندنا فالمجرم يطالب بإطلاق سراحه و عودته إلى عمله أو إيجاد عمل له و راتب شهري فماذا يفعل المتخرجين من الشباب الذين أكلتهم البطالة بسبب تدهور الحياة الاقتصادية في الجزائر و التي سببها هؤلاء القتلة ؟
مع من سيكون هذا الوئام يا صديقي ؟!! التسامح و الوئام فكرة نبيلة لكن السؤال يبقى في المقابل الطرف الآخر لهذا الوئام !ماذا قدّم ؟ لا يمكن أن تثق في هؤلاء الذين رفضوا حتى الاعتذار .من ادراك أنهم لن يعودوا بعد سنوات إلى نفس النشاط و السلوك و يخرج علينا احدهم يقول أنهم دائما على حق و الدليل أنهم لم يعتذروا عن أي شيء صدر منهم؟؟؟
–  هل ترى في الطاهر جاووت و بختي بن عودة و غيرهم من المثقفين الذين أكلتهم نار الإرهاب في جزائر التسعينات أبطالا مثل الأمير عبد القادر ضحّوا بأنفسهم  من أجل كلمة الجزائر و يستحقون روايات حولهم؟
– طبعا،كل العناصر التراجيدية و الروائية متوفّرة في هؤلاء .
– سمعت أنّه وقع اغتيالك في بداية التسعينات؟
-آه نعم  حدث ذلك  ” غريب أن يقرأ الإنسان خبر موته في إحدى الجرائد الوطنية ويسمعه في إذاعة ميدي الدولية المغربية الفرنسية وفرانس-  ، مانشيت خبر اغتيالي كما قرأته في جريدة النصر اليومية التي تصدر بقسنطينة: اغتيال الروائي الجزائري واسيني الأعرج. أشعر في البداية بشيء من الزهو ثم ينتابني خوف عميق. أول شيء قمت به هو إخبار أهلي، أمي خصوصا وتكذيب الخبر وطمأنة كل الأصدقاء الذين كانوا يعرفون مكان إقامتي. أشعر دائما بأن هناك رجلا حماني بصدره ليمنحني كل هذا الزمن وأنا مدين له بالرغم من أنه لا يدري لماذا قتل بالضبط؟ الرجل الذي قتل، أعتقد خطأ، كان موظفا بسيطا في الأمم المتحدة، يمر كل صباح بالقرب من الجامعة قبل أن يذهب نحو عمله. كان اسمه: واسيني الأحرش. لم يكن يعرف وهو يخرج في ذلك الصباح، أنه سيقتل في مكان رجل آخر. كم اشتهي أن يمنحني الله بعض العمر لاقف فقط على قبره قليلا وأعتذر منه، لأن الأقدار التي وضعته أمامي ليقي صدري من الرصاص القاتل، لم تسأله في ذلك الصباح الباكر عن رأيه. ”
-لنعد إلى رواية “كتاب الأمير” و لنتناول المسألة الأجناسية ، هل هذه رواية أم سيرة ؟و هل هي رواية تاريخية أم رواية توظّف التاريخ؟
– أنا لا أصنّف .لكنها رواية ، هي رواية تاريخية و ليست تاريخا بكل تأكيد هناك هيمنة للبعد التاريخي لكن بأسلوب روائي .
– كيف يتعامل الروائي  مع  التاريخ ؟
– هذا موضوع مداخلة قدمتها في قطر
– كان عنوانها “الرواية التاريخية /أوهام الحقيقة” أليس كذلك؟
–  بالضبط ، و قد شارك فيها عدد من الباحثين و الروائيين
– أعتقد شارك في تلك الندوة كل من طارق علي و جيمس رستن الإبن و أهداف يوف و عبد القادر الركابي و محمد شاهين و محمد القاضي …
-و سعيد يقطين و صلاح فضل و عبد الله إبراهيم و فيصل درّج كذلك و قد صدرت في كتاب بعنوان…
– “الرواية و التاريخ”؟
-إذن تذكر أني طرحت أسئلة منها :هل تعيد الرواية إنتاج التاريخ؟ هل تؤول التاريخ أم هل تستعمل التاريخ كمادة هامشية ؟و هل للتاريخ قيمة في تحديد هوية النص؟ كنت في الحقيقة و أنا اكتب “كتاب الأمير” اعتمد على مادة تاريخية لا يمكن إنكارها متعلّقة بشخصية الأمير عبد القادر ، لذلك كنت مجبرا على التعامل مع هذه المادة دون أن أكون عبدا لها .
-هذا يعني انّك لم تكن وفيّا لها دائما ؟
– لم أكن وفيّا لها دائما مادام خروجي عنها لا يشكّل ضررا على طبيعة الرواية و مسارها ككل.
– لم أفهم ما تعنيه ! هل كنت وفيّا للمادة التاريخية أم خنتها في بعض النواحي؟
– المسألة ليست خيانة إنما هي كتابة أخرى ، لأني لا اكتب كتابا تاريخيا عن الأمير و من حقّي أن أقحم الخيال متى شئت دون أن يكون ذلك على حساب الرواية كرواية تاريخية ,أعطيك مثالا : تفتتح الرواية على جون موبي Jean maubet  خادم منسينيور ديبوش و هو ينتظر وصول رفات سيّده إلى الجزائر _ هذا الخادم صاحب منسينوير ديبوش طوال حياته و صاحبه في جلساته مع الامير و هو الذي شهد وفاة سيّده و حمل وصيّته التي تقول أن منسينيور ديبوش أوصى بدفنه بالجزائر _ و قد أعلم جون موبي أهله و الجميع بهذه الوصية الشفوية و لكن منسينيور ديبوش دفن في فرنسا و لم يحوّل رفاته إلى الجزائر إلاّ تعيين قس جديد للجزائر و هو الذي طالب بتطبيق الوصية و جلب رفات منسينيور ديبوش إلى الجزائر ،غير أن الخادم جون موبي لم  يصاحب رفات سيده بسبب الفاقة التي يعيشها رغم أنها كانت أمنيته الكبيرة . تتحقق أحلام جون موبي في الرواية و اجعله يسافر إلى الجزائر لاستقبال الرفات. هنا تدخّل الروائي حوّر في التاريخي /الواقعي و نشط المتخيّل .
 -إذا اعتبرنا أن هذا ليس تحريفا للتاريخ ،كيف تطلّبته الرواية ؟
– ليس في ذلك أي خطر على الطابع التاريخي للرواية لأن الشخصية لا ينكرها التاريخ ، غير أن الأهم هو أني أردت أن يكون الراوي محايدا في رواية ما حدث بين الأمير و منسينيور ديبوش لأني لو جعلت الرواية على لسان احدها لكانت الرؤية من زاوية واحدة أما وجود هذه الشخصية : جون موبي فقد وفّرت الطابع البوليفوني /تعدد الأصوات في الرواية  و من ثم كانت الرواية مجموعة من السير :الأمير و منسينيور ديبوش و جون موبي . هكذا تخلق الرواية علاقتها بالتاريخ .
– تقول انك تخشى أن يتعامل مع روايتك ككتاب تاريخي ,أين ترى وجه الخطورة في ذلك ؟
– طبعا ، لأنك ستدخل في منطق آخر للقراءة هو منطق الحقيقة و الزيف،أما الرواية فلها منطقها الخاص و الامير له وجود تاريخي لكن وجوده في الرواية يحدّده منطق الرواية في حدّ ذاته . و أنت تصغّر من حجم الرواية عندما تتناولها ككتاب تاريخي . و قد سبق أن رفضت عرض واحد من اكبر الناشرين في فرنسا مختص في نشر السير عندما اقترح علي كتاب سيرة الأمير عبد القادر  لأنني أعي جيدا أن معارفي  يحول الأمير يمكن أن أوظفها في عمل روائي و هذا ما حدث بالفعل.
-لكن عبد الرحمان منيف يرى أن الأجيال القادمة ستحتاج إلى قراءة الروايات لمعرفة تاريخها و هنا يقصد أن التاريخ الرسمي العربي تاريخ الحكام و هو تاريخ مزوّر و فيه من الاختلاق و التلفيق ما لا يمكن أن تجده في الروايات ؟ إلا يعني هذا أن التاريخ العربي هو تاريخ متخيّل؟
– هذا رأي مغال من منيف الرواية يمكن أن تكون سندا لكن ليست تاريخا موازيا ,أنا لا اكتب تاريخا آخر بل حالة إنسانية أو وضع معيّن غفل عنه التاريخ.
– يقول محمود المسعدي في احد نصوصه ” منذ القدم كان الموت هو النظام” و تقول  “لا يقين في الدنيا سوى الموت” كيف تقارب لنا تجربة الموت كما عشتها كاتبا ومن خلال عبارتك هذه ؟

– في سنوات المحنة في الجزائر كنت أعبر الشارع و لست على يقين أني سأصل إلى الطرف الآخر و هذا مدوّن بالتفصيل في “ذاكرة الماء” و إن لم تكن سيرة ذاتية خالصة ،لكنّي بعد مدّة تعلّمت أن ادخل سكينا في الجرح متى أخذ في إنتاج الوجع حتّى وصلت إلى مرحلة انعدام الإحساس به . أوصلتني التجربة مع الموت إلى حال من فقدان الوزن و لم يعد يعنيني كثيرا الموت و لا أصبح يخيفني هو مرحلة فقط ،ما يخيفني فعلا فيه هو أن يباغتني و أنا بعد أريد أن اكتب أكثر ،أريد أن أقول أشياء كثيرة قد يحرمني من تلك اللذة و تلك الرغبة في البوح .
منذ مدة لم يعد يعنيني نظام و لا سلطة و لا إسلاميون و قرّرت ألاّ أصمت أبدا و أن أصدح بالحقيقة كما هي .صرت أؤمن بشكل شبه قدري أن للإنسان زمنا  سيحياه و خلال ذلك الزمن عليه أن يمارس ما يحلو له :أن يقرأ ،أن يحب،أن يكتب ….و بالتالي خلقت ألفة مع الموت ،فلم يعد يخيفني مطلقا.
أذكر  تجربة أخرى مع الموت غير الإرهاب في الجزائر ، كنا فوق مدينة دبي و كادت الطائرة تسقط بنا و مررنا بساعة عصيبة جدا نتيجة ظروف مناخية رديئة جدا ، كان شيئا عنيفا جدا و تهديدا مناخيا صريحا بسقوط الطائرة  فمررنا –كل المسافرين- بنصف ساعة تقريبا لكنها تساوي دهرا .وصلت إلى درجة من الخوف عظيمة ثم استسلمت لقدري عندما نظرت إلى ذلك الوضع من زاوية أخرى  فخمّنت:و ما ذا سيحدث قطعة من الحديد و سقطت و كان هناك ركّاب و ماتوا و تستمر الحياة !!!!!!!!هنا فقط انتابني إحساس بالسكينة . الخوف عندما يصل سقفا معيّنا لا تصبح له أي قيمة. و أظن أن الشعب الجزائري انتصر على الإرهاب بهذه الطريقة و هذا ما يحدث مع الشعب العراقي اليوم فقد  انهزم الموت في شوارعه بانهزام الخوف.
– لكن الموت عندك أنواع بحسب المكان الذي يباغتك فيه و بالصورة التي تلقاه فيها ألم تقل “موت المنفى أهون من النسيان القاتل في أرضك”؟

– لأن بلد المنفى بلد محايد لا علاقة تاريخية تجمعك به و ليس مطالبا بأن يقدّم لك شيئا.  هو له كل الفضل في استقبالك خاصة إذا ما قدّم لك عملا و راتبا و حياة كريمة . يمكنك أن تربط علاقة ما مع المنفى:علاقة فهم.أما  بلدك فأنت تنتظر منه  الكثير لأنك ابنه و جزء من حياتي وهبتها له و أبي استشهد من اجله و أختي ماتت ضحية له .إذن أنت لك دين عنده ، و تنتظر على الأقل أن يعترف بوجودك . المؤلم فعلا انك تكتشف أن هذا البلد الذي يسكنك و الذي ضحّيت من اجله يتجاهلك تماما و يعتبر الكاتب آخر اهتماماته و يهتمّ بآخرين تعرفهم جيّدا.
-هل يتحوّل الوطن إلى عدوّ؟

– في غالب الأحيان عدوّك،لأن المنفى بالضرورة تنتظر منه مثل هذه العداوات غير انك تجد اهتماما بك ككاتب يساوي أضعاف مضاعفة ما هو حاصل في وطنك.
– تقول إنك مريضا بحب الوطن…؟

– فعلا ،حب الوطن مرض ،عندي أصدقاء هاجروا و انفصلوا تماما عن ماضيهم المرة و بدؤوا حياة جديدة  أما أنا فبقيت رهينة ماضي و وطني،أليس هذا مرضا؟ بقيت معلّقا في طائرة ،حياة رحلة بين فرنسا و الجزائر. أنت تعرف ألا نبي في أهله و لكنّي مصرّ على أن أدرّس في الجزائر إلى جانب التدريس في السربون مع أن راتبي في الجزائر يساوي تقريبا ثمن تذكرة الطائرة التي أسافر بها إلى الجزائر و لم أطلب يوما من الأيام أن توفّر لي الجامعة الجزائرية تذكرة الطائرة لمناقشة رسالة جامعية أو غيره.
ما يؤسفني أن هذا البلد يمرّ بحال من الركود العجيب فالحوارات الثقافية لم تتقدّم قيد أنملة و إن كانت هناك متغيّرات فنحو الأسوأ.

– ما الذي تعيبه على المثقفين الجزائرين اليوم؟

–  صدمني تحوّل أشخاص عرفتهم أصحاب مبادئ إلى كائنات انتهازية تحلم بالمناصب السياسية . انتهيت منذ مدة إلى رأي مفاده أنّك إذا أردت أن تكون كاتبا حقيقيا فعليك أن تدفع ثمنا باهظا.
هل تتصوّر أن هؤلاء الذين أتكلم عنهم هم أنفسهم الذين نصحوني بعدم قبولي الوزارة عندما اقترحت علي و هاهم اليوم يركضون وراءها .
– كيف كان ردّك عندما اقترحت عليك الوزارة؟

– في اليوم الذي اقترحت علي سافرت إلى تونس للمشاركة في ملتقى للرواية العربية أظنها ندوة قابس الدولية. و أنهى ذلك الهروب المشكل ،أصدقك القول :لا رغبة لي في ممارسة السياسة المحضة. أما  أصدقاء الطريق أراهم اليوم يركضون كي يقتنصوا حقائب وزارية أو أقل منها شأنا. غيّروا اتجاهاتهم كلّيا.
–  لكن الهوية غير ثابتة يا صديقي فلماذا تريدهم يثبتون في زمن التحوّلات؟

–  فعلا، الهوية غير ثابتة و هذا كلام علمي و لكن للهوية إيقاع أيضا ،لا يمكن أن تتغير بين يوم و ليلة. الهوية تراكم يدوم أحيانا سنوات و قرون أنا مثلا منتوج تراكم موريسكي عربي إسلامي و هذا حدث بعد قرون .أحيانا أقول ربما هم الأسوياء و أنا المريض بالثبات على المبدأ،ربما فهموا اللعبة جيّدا.
  ربّما لم تكن مواقفهم الأولى غير لغة ، على ذكر اللغة تقول:” اللغة سكن لا نتحرّر إلا فيه ،يمكننا أن نجيد آلاف اللغات و لكن هناك لغة واحدة تملك القدرة على هزّ جنوننا وأحلامنا من الداخل”
كيف هي علاقة واسيني الأعرج باللغة العربية ،فأنت المقيم في بلد بودلير لم تكتب سوى رواية يتيمة بلغته و خيّرت الكتابة بلغة المتنبّي؟

– اللغة إيقاع و وجود و حياة و هي قدر أيضا لأنك لم تختر لغتك.كان يمكنني أن أكون فرونكوفونيا نتيجة لطبيعة تكويني اللغوي ،فقد بدأت تعلم الفرنسية قبل العربية و ما تعلمت من العربية إلا ما تعلمته في الكتاتيب و ساعدتني جدتي أيضا لأني كنت اقرأ لها التاريخ الموريسكي باللغة العربية . كل دراستي الابتدائية كانت بالفرنسية أما الثانوية فلم ندرس سوى مادة العربية باللغة العربية . لذلك
أقول لك كان يمكن أن آخذ طريق رشيد ميموني  و الطاهر جاووت .
– هناك من يروّج للغة العربية بصفتها لغة ميّتة و لغة مقدّسة لا يمكن أن تقوم عوالم روائية غنية من خلالها .ما رأيك في هذا الرأي الصادر عن احد الروائيين الجزائريين الفرنكفونيين؟

– هذا كلام فارغ  ، معاداتي دائما للرداءة لا للغة ،فليكتب الكاتب باللغة التي يريد ايطالية كانت أو فرنسية أو بنغالية ،المهم أن تكون الكتابة جيّدة. و لا أخفيك سرّا أني أنا من ذهب إلى اللغة العربية و لم تأت إلي أغرمت بها ،كما قلت لك، من خلال جدّتي .ذهبت إلى اللغة العربية دون معاداة للفرنسية اخترتها لغة إبداع و لم تكن عائقا أبدا لا في حرية التعبير و لا في مرونتها الفنية.أن نصف لغة بأنها قاصرة و عدم قدرتها على التعبير هذا خطأ كبير،فكل الشعوب تحب و تمارس الحب و الجنس بلغتها الخاصة و كل الشعوب لهم لغاتها و معاجمها المهنية الجنسية و لها لغة التخاطب اليومي ، ليس هناك لغة غير قادرة على التعبير ،حتى الشعوب البدائية خلقت رموزها فما بالك بلغة متكاملة  مثل العربية ،الصعوبة في طبيعة العربية فهي تختلف عن اللغة اللاتينية لان العربية ذات طبيعة مفتوحة “مينوفونيك” أشبه ما تكون بصحراء تستعصي على الامتلاك الكلّي ، و هذا يظهر في الترجمات . في العربية المعنى أحيانا سماعي, هذه هي طبيعة اللغة العربية .ما قاله النفزاوي بها اعجز عن قوله أنا فكيف نتهمها بأنها قاصرة في وصف الجنس مثلا .

–  هذا ما يردده أحد الكتاب الجزائريين عندما يسأل لماذا لا تكتب بالعربية!
-نعم ،و أرد عليه شخصيا بأن العجز فيه هو و ليس في اللغة ،الكاتب الحقيقي هو القادر على أن يستنطق اللغة و يقوّلها ما يشاء . أنا سعيد بلغتي العربية لأني أجدني أمام ذاتي و أمام تراثي و أمام جدّتي و أصولي. بيتي اللغوي هو العربية و بيتي هذا يتجاور مع بيوت أخرى.  كتبت مقالات كثيرة و مداخلات لا أعدّها و ادرس بالفرنسية في السيربون،أما الكتابة فشأن آخر ،انأ أعطي من دمي أثناء الكتابة الروائية ،اللغة الفرنسية ،بالنسبة إلي لغة استعارية و لها طبيعة عقلانية لا تلتصق بي. هناك سقف يحدد علاقتي بها أما العربية فهي تاريخي الشخصي و تاريخي الجماعي و فكري برمته.
–  الفرنسية أيضا تعاني من انحسار نتيجة تراجع المد الفرنكوفوني و طغيان الانكليزية بصفتها لغة عالمية !
– لا اعتقد ذلك الأجانب يغذّون اللغة الفرنسية باستمرار ،سواء كانوا مغاربة من شمال أفريقيا أو من إفريقيا السوداء أو من بلجيكيين و كنديين و هم من يجني الجوائز الأدبية في فرنسا اليوم.
اللغة عليها أن تنفتح على أقوام أخرى إذا أرادت أن تعيش لأنهم سيحملون إليها ثقافتهم و عندما يستعملونها سيجددونها بطريقة أوتوماتيكية.
– هل فعل هذا ميلان كونديرا عندما ترك التشيكية؟
-هذه حالة أخرى، ما كتبه كونديرا بلغته الأصلية أهم مما كتبه بالفرنسية ،هذا رأيي، ربما هو سقف اللغة و سقف العلاقة الذي تحدّثت عنه.
– طيب ، دعنا ندخل غمار الجوائز ، هل تفكّر في جائزة نوبل ؟
(يضحك)
–  نعم أفكّر فيها بجدّية لكن من خلال رواية فقد بدأت في كتابة رواية بالفرنسية منذ سنة ثم توقفت و فيها شخصية رئيسة اسمها”نوبل و لا شيء”
–  هل هذا رأيك في الجائزة؟

–  لا لا إطلاقا ،جائزة نوبل جائزة مهمة فعلا، و هي أهم جائزة أدبية في العالم ، و أي كاتب يحلم بها ، هي أرقى درجة الاعتراف العالمي بك ككاتب و لكن الجائزة خلقت أمراضا في البشر و الخلق الثقافي.
– ماذا عن الرواية؟

–  هي رواية ساخرة استوحيتها من هذا المرض بنوبل  ،فقد وقف يوما كاتب جزائري متواضع جدا و قال ما بالكم مهووسين بنوبل سأترشح لها و يمكننا أن نحصل عليها , و بالفعل جمّع كتبه و أرسلها إلى إدارة الجائزة في السويد ، طبعا هذا عمل مضحك لان الترشيح لا يتم هكذا في مثل هذه الجوائز :المنضمات  و الجهات المختصة  هي التي ترشح الكاتب لهذه الجائزة ، و الحقيقة أن قصته مع الجائزة جد مضحكة حولته إلى نكتة في المشهد الثقافي الجزائري إذ سمع به بعض الأصدقاء من الكتاب و الصحفيين و عمّقوا الحكاية حد الدراما فقد  كتب رسالة خاصة و أعطاها إلى صديقة هي التي ترجمتها له إلى الانكليزية و هي التي فضحت أمره عندنا ،فأرسل له احد الكتاب الأشرار رسالة بالانكليزية مفادها  أن اللجنة قبلت ترشحه و أنها تنتظر منه برنامجا تلفزيونيا حول أدبه تقوم به إحدى القنوات التلفزيونية و هنا تبدأ قصته المضحكة أما مبنى التلفزيون بحثا عمن يقوم له بهذا البورتريه المصوّر ……
نوبل  جائزة كبيرة نحلم بها ، و نحن نشتغل شيئا فشيئا و نتقدّم نحوها أو نحو غيرها (يبتسم)

– ابتسامتك توحي بشيء، هل يعني هذا أن هناك جائزة في الطريق ؟

–  لا فقط رشّحت إلى جائزة عربية عالمية ، و هي جائزة قطر للرواية العالمية

–  تقول عن باريس “إنها المدينة الغولة “و تقول “المدن التي لا بحر فيها مدن ينتابها الموت بسرعة” وتقول في مواضع أخرى مقارنا بين المرأة و المدينة إنهما تتشابهان تغويك و عندما تصير فيها تتخلّى عنك أو بكل بساطة تضعك في خانة المدمنين: و تقول :المدن لا ذنب لها فهي دائما ملتقى الألوان: هل أمدنت باريس  الآن؟  و هل تطمئن لها ؟
–  هي مدينة أعطتني نوعا من الاستقرار في ظروف صعبة أعطتني إمكانية لحياة أخرى ،و هذا ممتاز .لكن المفارقة أن مدينتي الجزائر التي من المفروض أن توفر لي ذلك الإحساس بالأمان و الاستقرار و تحسسني بقيمة وجودي لم توفر لي غير الشعور بالإلغاء، هي تلغيك تماما و تقتلك بروتينية إداراتها و بخدماتها الثقيلة السيئة و مرافقها المفقودة. أنت إذن تواجه مدينة تقتلك يوميا بالتقسيط  هذا طبعا بعيدا عن الإرهاب و الرعب الذي عشناه فيها .أتحدث فقط عن الحياة اليومية العادية أما باريس فالأمر مختلف .
–  تراجعت إذن عما كتبته عنها ؟
تقول فيها :باريس صديقة متى أمسست مصارعها أصبحت غولة تقتل حتى أولادها:و تقول في موضع آخر: باريس غانية تعلّق على رأسها تاجا من الإشهار المتّسخ”
– أين وجدت هذا ؟؟!!
– في روايتك الأولى المجهولة ” جغرافية الأجساد المحروقة”
– آه ،كيف حصلت عليه هو نص لم ينشر في كتاب ؟
– عندي وثائق و نصوص لك قد لا تمتلكها أنت  ربما من هذا المنطلق سمّينا باحثين دون أن تغفل وجهنا الصحفي  ،روايتك هذه نشرت في مجلة آمال أتذكرها؟ !!!
–  أجل ، طبعا ، نصوصي الأولى هي نصوص تتحدث عن الغربة ، لأن  تلك كانت علاقتي بباريس، حيث كنت أزورها في العطل و في ذهني ثقل حياة الوالد الذي قضى جزءا من حياته هناك، من هنا جاء ذلك الحقد، فقد كان والدي يعاشر فرنسية و ينسى عائلته  و لا ينزل إلى الجزائر إلاّ بعد أربع سنوات و قد لمست أيضا في البداية العنصرية مع المغتربين ،و هذا موجود إلى اليوم ، و لكن علاقتي بها تغيرت فقد صرت ابن المدينة و صرت اعمل في جامعاتها و من ثم لم أعد عنصرا وافدا و غريبا عنها أصبحت جزءا من نسيجها .لذلك لم اعد أراها غانية و لا غولة .  نعم هي غولة لأنها أكلت  العمال  فباريس تأخذ العامل شابا و ترمي به عندما يصل سن التقاعد ،أليست غولة بجميع المعاني؟؟و لكن في المقابل أعال ذلك العامل عائلة ….ربما يمكنني أن أصف علاقتي القديمة بها بالرؤية “الشبانية” المدينة الآن هي التي أخلقها أنا و نفس الشيء في أمستردام أين كتبت روايتي “شرفات بحر الشمال” أردت مدينة محايدة ليس فيها ثقل تاريخي و انطلق السؤال هل يمكن أن تعيش حياديا :بعقلية حيادية و مشاعر حيادية عندما تعيش في مدينة حيادية ،اكتشفت أن ذلك مستحيلا لأن جمال تلك المدينة و فنونها العظيمة لم تستطع أن تسقط  ذاكرتي المورمة و الجريحة .
–  رغم هذه السوداوية التي ننهي بها حوارنا إنما نحتاج إلى يقين “بأن السماء ستمطر حتما و إلا الأفضل أن نتحر”؟ أليس كذلك؟
– فعلا كانت السماء الممطرة بالنسبة إلي هي الكتابة ،هي التي أنقذتني ، كنت في سيدة المقام:أطلب من الله أن يبقيني حيا حتى أتمها ،فكنت أتحرك في المدينة مغيّرا الشوارع و الأمكنة و عندما أتممتها ،حمدت الله، و بدأت رواية أخرى هي :ذاكرة الماء” هكذا كانت الرغبة في الحياة مرتبطة بالكتابة عندي و كل ما كتبته من التسعينات إلى اليوم هو رهان على الحياة …حياة المدن .
– نحن نقاوم الموت إذن بالحكي مثل أبطال الديكامرون لبوكاتشو   و مثل شهرزاد؟
– تماما ،ما يهمني هو أن اكتب  شيئا من ذاكرة هذه الأمة و ذاكرتي الشخصية و ذاكرة الإنسانية لأنني كائن متعدد بمعنى أني لا اوجد في الجزائر فقط بل أنا كائن داخل عالم . الكتابة متعة حتى لو كانت داخل  الألم و الانكسارات .الجميل فيها أنها مشروع مفتوح دائما على أفق جميل.أنا موجود هنا بفضل الكتابة .
-و أنا أيضا موجود معك الآن بفضل تلك الكتابة ،شكرا و دمت في رعاية الله و الكتابة

   بعد مدّة من اجراء الحوار و قبل تبييضه أهاتف واسيني الأعرج في باريس و أسأله :  ماذا تكتب الآن؟

   – أنا الآن أقوم بالترتيبات الأخيرة للانتهاء من رواية قديمة جديدة هي أكاريا التي قتلتها رواية الأمير ورواية سراب الشرق التي انتهيت منها قبل أشهر وتخلصت من عبء مسؤوليتها وهي عبارة عن ملحمة تتناول التاريخ العربي من اتفاقية سايكس بيكو إلى اليوم لقد لمّحنا إليها في حورانا. أعتقد أن الثلاث سنوات التي استهلكتها كانت متعبة ولذيذة في الآن نفسه. أعمل على الانتهاء من رواية أكاريا الصغيرة قبل بدء العمل على رواية طويلة عن أمي التي أشعر نحوها بدين كبير.

كمال الرياحي
روائي و ناقد تونسي

 

نقلا” عن موقع : باب الماد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *