الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

دراسة تقابلية في “يوميات سندباد الصحراء”

دراسة تقابلية في يوميات سندباد الصحراء
من العنوان إلى النص الموسع

ذ جامع هرباط
تقديم

تتيح عملية تلقي النصوص الأدبية فرصة واسعة للاستهلاك غير العادي لها، عبر آليات الفهم والشرح والتذوق والتعليل والتحليل والتأويل، والوسيط الأساسي بين النص وقارئه هو القراءة، لأنها هي التي توَلِّد تلك الأشكال المتَقدمة من أنماط الأفهام المصحوبة بالتفاعل، لهذا السبب ركَّزت نظرية الفينومينولوجيا في دراسة العمل الأدبي على الأشكال المرتبطة بالتجاوب مع النص، علاوة على ذلك، اهتمامها بالدرجة نفسُها بالنص الفعلي المنتَج، فالقارئ طرف مهم في هذه العملية، لأنه يفعل ويعيد الإنتاج الفعلي لما يتلقاه. وفي هذه الصدد فالنص الأدبي مسكون بدلالاته الخاصة والعامة، وهو عبارة عن علامات لغوية يتوجب استنطاقها بنشاط القراءة. ونشير هنا إلى مدى الاختلاف الجلي بين لحظة الكتابة ولحظة القراءة، ونودّ هنا أن نشير في إطار تطبيقنا لنظرية التقابل إلى أي مدى يستحضر كتاب السرد وعيهم بالتقابلات والتواجهات التي تكون في أعمالهم، يقول محمد بازي: هل [يكون] الكاتب على وعي بكل هذه التقابلات والتواجهات بين هذه المكونات؟( )، فيجيب بالنفي
“لأن الكتابة لحظة تَماه تفكيري مع المكتوب دون تمثُّل قواعده أو نظام تشكله ونموه وقتئذ”( )، غير أنه يتطرق إلى ما سماه بالخطاطات الذهنية المنظمة من حيث مرجعيةُ أطرِها، والتي يتم استحضارها بشكل غير واع لحظة الإنتاج، إن هذه المسألة بالنسبة لنظرية التلقي تعد من المداخل الرئيسة لمعالجة النص، ونود أن نعرض هنا لمسألتين أساسيتين، هما: قضية المعنى وبناء المعنى، وتعد “نظرية التأويل التقابلي مقدمة لمعرفة بديلة بالنص والخطاب” للباحث المغربي محمد بازي، مدخلا جديدا لرصد أهم انشغالات المناهج الحديثة المهتمة بتحليل النصوص الأدبية خصوصا في تلقي الإنتاج الأدبي، وتحديدا المسألة المرتبطة بإنتاج الوقع والمعنى، كما أنها شكلت قنطرة ركز عليها الباحث للعبور إلى إطارات جديدة وموسعة في تجلية مفاهيم التقابل في دراسة ومعالجة النصوص، يقول:” ففعل القراءة تعاقد بين كفاءة القارئ المعرفية ونمط القراءة التي يُسَلم بها النص”( ). ويبرز دور القراءة في نظريته بعناصر داعمة، لأن مفهوم القراءة عنده ليس عاديا، فالقراءة نظام معرفي شامل فيه هو الآخر تقابلات معلومة وواضحة، ويمكن أن نقدم مثالا لذلك حينما يربط القراءة بالفهم، وحينما يربط التأويل بالتقابل، وحينما يربط بين المعنى والقصد، ثم بين البلاغة والتبليغ وما إلى ذلك. ونظرا لأهمية عمليات الفهم بالتقابل، سنحاول في قراءتنا ليوميات سندباد الصحراء التوقف عند بعض المفاهيم الإجرائية لنظرية التأويل التقابلي. فما هي إذن أبرز مظاهر وأوجه المقاربة التقابلية لهذا العمل؟
1. بنية النص العليا
كما هو معلوم يندرج هذا النص ضمن نمط السرد، وتحديدا أدب الرحلة، والمتقابل ضمنيا مع الذات، أو ما يسمى بالأدب الشخصي، ونستحضرُ هنا مدى أهمية الكتابة في علاقتها بالذات، فالكتابة هي الوسيلة العَملية التي تعمق وتُجذّر الامتلاك الذاتي، وإنه لبِقدر التَّحقُّقَات وتوليد الحقائق، يتحقق الانحياد في الأدب، ويمرُّ الكاتب إلى ما يسميه رولان بارط درجة الكتابة الصفر، فكل شيء يمكن التقاطه وتصويره، فالتجربة الشاملة في التعبير الكتابي، لا تأتي إلا من الأحداث والأفعال والبطولات والمواقف الذاتية والجماعية، مواقف تخص الإنسان تجاه الآخر والمجتمع والكون. يصور هذا العمل ” يوميات سندباد الصحراء” للكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي، تجربة إنسانية تقابلية تجاه الذات والآخر والأمكنة والأزمنة والمواقف والأفكار والأشخاص، وهو مؤلف مليء بالتناظرات الفكرية والوجودية والأنثروبولوجية التي يمكننا استحضار بعضها عند تأويلِنا لمتن هذا المنجز.
2. التأويل التقابلي للعنوان
أ‌- تقابل النظائر النصية
يقوم هذا التقابل على مقابلة النصوص ” بنظائرها في الغرض أو الموضوع أو الفكرة أو طريقة التعبير الفني” ، فإذا توقفنا عند كلمة “يوميات” أمكننا ذلك باعتماد تأويل تساندي يتجاوز معنا السطحي إلى المعنى العميق، فاليوميات يمكن تأويلها على أنها: سجلات ومذكرات وتدوينات وكتابات يومية، وهي تتقابل مع الذات، ولا يمكن تسميتها باليوميات إلا إذا كتبت من قبل الشخص نفسُه، ومن هنا تحضر قيمة حضور الجانب الشخصي في الكتابة، ومن ثمة نستطيع أن نُقابل اليوميات بالسيرة الذاتية، على اعتبار أن كليهما ينتسبان للأدب الشخصي، فما شرط تحديد السيرة الذاتية هنا مقابل معنى اليوميات الواردة في العنوان؟، مما هو معلوم أن السيرة الذاتية كتابة استيعادية يقوم بها شخص واقعي لحياته، ويعد الميثاق فيها شرطا أساسيا، فلا يمكن القول بأن هذا العمل سير ذاتي إلا إذا وقع فيه شرط التطابق، يقول فليب لوجون في تعريفها على أنها ” حكي استيعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته، بصفة خاصة” ، وعلى الرغم من هذا التعريف الذي يأخذ به كثير من الدارسين إلا أن هذا النوع الأدبي، يبقى فنّا أدبيا مفتوحا ومرِنا توجد فيه إمكانيةُ احتضانِ واحتواءُ عدّةَ نصوص أدبية، فالكاتب يستطيع أن يستدرج اليومي والذاتي، كما يمكن له التعبير عن تاريخ الذات وتجاربها وأفكارها ومشاعرها، ومن هذا التداخل الحاصل انْتُزِع من السيرة الذاتية بعضًا من خصوصيتها وأسْلَبَتها وظيفتها الأساسية، وهذا ما سيشكل جِسرا تواصليا بين جنس الرحلة المعلن عنها في الميثاق ، وبين ما سبقت الإشارة إليه كالمذكرات والتدوينات والمراسلات والاعترافات، فهذه أقنعة للخطاب السير ذاتي. لأن النتيجة المبدئية في هذه التداخلات هي: تقابل اليوميات مع السيرة الذاتية، وتقابل الرحلي مع السير ذاتي.وسنبرز ذلك أكثر فيما سيأتي.
ب‌- تقابل النص والعنوان
مما هو معلوم أن العناوين تؤدي وظائف كثيرة منها وظيفة الإشهار والتسمية والوصف والإيحاء والإخبار والتعاقد والإشهار، فهو يسمِّي المكتوب ويصفه، غير أنه، ومن زاوية تأويليةِ التقابل والتساند، يمكن القول على أنه:” تقابل نصٍّ مصغّر مع عنوان مكبَّر، وتقابل المفتاح مع الباب والبيت، وتقابل البنية المعنوية مع المكثَّفة والمختزلة مع بنية معنوية موسَّعة ومفصَّلة، وتقابل الوجه والمرآة؛ فالعنوان وجه واضح المعالم في مرآة النص. وقد يكون تقابلا مضبَّبا، لا وجه له في نصه ولا في وجه صاحبه” ؛ فما هي أوجه التقابل الموجودة في العنوان على هذا المستوى، أولا، جاء العنوان متماسكا ومتقابلا ومتناقضا، ومتتابعُ الحلقات: يوميات/ سندباد/ صحراء، بالنسبة لليوميات تتقابل مع الذات، وفي تواجد الميثاق يتقوى هنا تقابل التطابق، حيث أمكن القول: الكاتب هو الذي قام بهذه الرحلات، ويُغطي فهمنا لكلمة سندباد ما ترسخ في أذهاننا، وما نستحضره من المعارف الخلفية والأطر المرجعية، فهي شخصية أسطورية تراثية، من شخصيات ألف ليلة وليلة، شخصية تحقِّق التقابل والتناظر مع البحر، شخصية مسافرة مغامرة تبحث عن الثراء والغناء كذلك، من جهة أخرى، كلمة سندباد قد نفهمها في سياق تقابل موّسع، حتى نفهم ما يترتب من ربط هذه اليوميات بالسندباد الذي يزاول فعل (الكتابة) ويهوى التِّرحال ويُدَوِّن ما يشاهده، وهنا نستحضر أهمية حلقات العنوان، وهو عنوان مُوَّفَق ومَصْنوع بِحِدْقِ ومهارةُ كاتب مُتَمَرِّس، وإذا كانت شخصية السندباد بَحرية في الموروث السردي القديم، فثمَّة سندباد آخر يتقابل مع الصحراء، وبهذا يتحقق تقابل التَّخالف في العنوان، ونصِير أمام سِندبادين، الأول السندباد الأسطوري البحري التراثي، الثاني السندباد الحقيقي الصحراوي المعاصر، ومن الخلاصات التي يمكن الخروج بها في الدراسة التقابلية للعنوان، ما يلي:
العنوان في هذا العمل طاقة ايحائية وسنَد مرجعي قوي، وهو يحيل على طبيعة النّص، لأنَّه نَصٌّ مصغَّر يتقابل مع العنوان المكبَّر ( النص)، وبالنسبة للدلالة الكلية للعنوان، فاليوميات تتداخل وتتناظر مع السيرة الذاتية ومع الرحلة، وكل مكوِّن يُحيل على الآخر، مما يفيد أننا أمام أدب شخصي ذاتي بامتياز، السِّندباد يتقابل مع الكاتب الافتراضي، ويتقابل مع البحر والسفر والمغامرة، والصحراء تتقابل بشكل تخالفي مع البحر المستبطن في العنوان، وقد تتقابل مع مايلي:أعماله السابقة، ومثال ذلك “وجع الرمال” و”بدو على الحافة”، والقارئ لأعمال الكاتب يرى مَدَى عِشْقُه للصحراء، واتخاذها مشروعا للسرد وسنسلط الضوء على جانب من هذا الاهتمام في طار التقابلات الموسعة.
3. التقابلات النصية وفاعلية القراءة التأويلية
غرض هذ العمل الرئيس لصاحبه هو اعتماده الكتابة السردية الواصفة، وبالأخص عندما نقف عند التقابلات النصية والخِطَابية، التي تؤسس المعنى العام لــ”يوميات سندباد الصحراء”، فالسارد/ الكاتب/ الرحالة/ في نصه، يفتح أمام المتلقي المجال الأوسع لتأويل النص، ولعلَّ مجالات الكتابة عنده مفتوحة بشكل يجعل القارئ وبدون عراقيل، التوقّفَ عند التقابلات الغائبة في النص، كما تسعف في كثير من الأحيان في التوقف عند الغائية والمقصدية، حيث يمكن للمُؤَوِّل وعبر دعامة التقابل أن نستحضر الأبعاد المتقابلة في اليوميات، وذلك من خلال إعمال الذهن واستقصاء مناحي الدلالة، وتبعا لذلك يحصل التفاعل مع النص، بحيث” تنتقل الذات القارئة إلى النص، كما ينتقل النص إلى الذات القارئة” ، لقد أسس الكاتب عوالم متقابلة انطلاقا من معرفته بالعالم الخارجي، وبالقدر الذي توجد عليه هذه الأشياء تقابليا، ومن ثمة فالذي حقق جمالية هذا العمل وأعطاه بعدا فنيا، هو تجلِّي ملمح التقابل المتعدد فيه، ويمكن التوقف عند هذا في كثير من أعماله السردية خصوصا روايته الأخيرة “مطبخ الحب” ، في هذا العمل تبرز التقابلات المادية والمعنوية والتي تجعل الدلالة أكثر كثافة ومعنى وعمقا، فالميزة الأساسية للنص هنا أن كاتبه على درجة من الوعي بالتقابل المستبطن، لأن القارئ لهذا العمل سيقف عند بنية ذهنية ولغوية لكاتب له وعي خاص بالمكان والزمان والأشياء…
4. التقابلات السياقية الموسعة
إذا كان التقابل يقوم على البنية الذهنية المجردة، فلأنها فرضت حضورها على جميع المجالات المعرفية، والفكرية واللغوية، والفلسفية والأدبية … ، بالنسبة ل”يوميات سندباد الصحراء” تحفلُ بسرد مُوّسع يضم أشكالا سردية تُوسِّع أفق الإدراك والتأويل والفهم والتفهيم، ولقد أمكننا التوقف عند عدة تيمات متقابلة في أعمال الكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي، منها على سبيل التمثيل، تيمة الرؤية السردية العالمة ، ثم تيمة السارد الباحث الأنثروبولوجي الممتدة ،كذلك نجد التقابلات الذهنية، نقف كذلك عند التقابل الثقافي وتقابل الامتداد، (الجد الأب الابن)، والتقابل الصوفي وهو موجود بكثرة في أعمال الكاتب، وغيرها وكل هذا يساعدنا في إطار التقابلات الموسعة خلقَ فهمٍ يقوم على التأويل التقابلي الذي تسانده معارف متحاورة ومتداخلة، نقوم باستحضارها سواء داخل النص أو خارجه، وعبر التجريب والتقريب، وفي هذا المستوى سنكشف عن مستويات تقابلية تتجاوز الكلمة والجملة، إلى الفقرات والمقاطع والنصوص الموازية، وسنمثل لنموذج التقابلي للمكان، خاصة “الصحراء”.
ونمثل لذلك بنصين، الأول من متن العمل المدروس، والثاني من رواية بدو على الحافة، يقول السارد، في يومياته:” لكن يا جسدي، يا من حمَلني طويلا في الأنحاء وركض بي صغيرا في الحقول والفيافي وصعد الجبال بي، يا رفيقي في الظلام والنور والمرض والصّحة وفي “دَوَاوِيرِ” البلاد وعلى ظهور حميرها. يا جسدي الأثير، هل تَيسّر لي أن أعبر المسافات؟ من هذا الجنوب إلى المدن و القرى والأنحاء؟ وإذا عبرتُها؛ هل أمسكتُ ما يكفي من صوّر كي أكتبَ عن صحرائيّ الأثيرة، وواحاتها؟ التي بقدر ما تبدو صغيرة، تتناطحُ العوالم في جوفها؟ مكانٌ كانَ هو أول ما رأيتُ..”
ويقول في نص آخر في رويته “بدو على الحافة”: ” ستشرق شموس وتغيب ثم تغادرين الصحراء، وتتركيني. يدوي الصمت فكأنما لم تكوني.. لقد أتعبتك الحكاية فغادرت، حنثتِ بوعدك مع المكان وتركتِ لي حمل لا أستطيعه، وها إني أتأمل الحياة والزمن وأغدو مهموما، أرى في المساءات شعرا أكتبه في مذكرتك الصغيرة، وأرى صورتك.. تتلبسني ظلال الأشياء كلما خلوت إلى نفسي، أعيش وجودا مضاعفا: لذاتي ولكلامك الذي لابد أن أنهيه..
يالفداحة الخصاص، يالفداحة الفقد. أجلس في الشرفة وأرقب أطفالا عائدين للتو من الحقول، وأرى رجالا عائدين من العمل، بعضهم يحمل المعول على ظهره وآخرون يركبون حميرا تنوء بأحمالها، يتوغلون بين الدروب الطينية.. أرى حيوات تمر في هذه القرية البعيدة، على مشارف الصحراء، تنقضي أمامي وتتبدد، وأخرى تولد، وأتساءل عن مغزى الوجود؟”
والملمح التقابلي الذي يمكن استحضاره هنا هو حضور الصحراء برجالها وفضاءاتها ورجالها وشيوخها ويَومِيُّها، وما تحفل به من سلوكات وحركات وسكنات.
وهنالك نصوصا أخرى متقابلة يمكن استحضارها، تسير في نفس المنحى، يقول السارد في يومياته:” ها هم شيوخ كبارٌ يجلسون هناك. يتكلمون عن النساء والأحفاد، ينبشون الأرض بعصيهم ثم تواتيهم رجفة الحياة فجأة فينهضون ليقهروا السبل…” ،ونقف عند تقابل قريب موصول في نفس المكان موقَّع بنفس الإيقاع الزمني، يقول في بدو على الحافة:” إيقاع أيامهم الخاوية رتيب، يلْقون بأجسادهم فوق البقع الترابية الصغيرة الموجودة في كل مكان، المصنوعة بتواطؤ مبهم خصيصا للانتظار، يتراكمون للكلام في أمور لا يملون تكرارها، يتبارى بعضهم في فرز صحيح الحديث من ضعيفه، ويحكي آخرون سيرة لنبي في المخيلة؛ يكلّم الطير والحجارة…”
5. التقابل رؤية للذات والعالم
يبدو أن الكاتب في رحلاته كان يكتب وفق رؤيته للكون، فهو يرصد للمتلقي عوالم متقابلة، بحكم اطلاعه على ما سَرَى في عالمه الخارجي الذاتي الذي عاشه وانخرط فيه، وبذات الكيفية التي تتقابل وتنتظم الأحداث والأمكنة والأزمنة والأشخاص والوقائع والتحولات في الوجود المادي والمعنوي، يلاحظ أن السارد في “يوميات سندباد الصحراء” إنسان مجرب في الحياة، له فهم الخاص لكثير من الأمور، عبر مبدأ التقابل والتناظر، وسَأَرِدُ نصين من تيمة متناقضة، ولست أدري هل الكاتب على وعي بالتقابلات بشتى مكوناتها أثناء عملية الكتابة، أم لا؟ المثال الأول نمثل له من نص ” خريف باريسي” والثاني من نص “يوميات سندباد الصحراء”. يقول الكاتب في المثال الأول: ” تمشي وتتأمّل بعد سفرك من الريف باتجاه المدينة. تقتنع بعْد مدة بأن كل الناس غرباء في هذه المدينة. الباريسيون أنفسهم يستعملون الخريطة للوصول إلى كل مكان. تبدو لك الفكرة غريبة في البداية لكنك تسير على الدّرب. احمل خريطتك بيمينك وزر المسارح والساحات والمتاحف.. اذهب إلى “سان ميشل” مثلا لتشرب قهوة، راقب الساحة والطيور المائية والعشاق الذين يقبلون بعضهم، اذهب إلى البرج العظيم و”الشانزلزيه”….”
وفي المثال الثاني، يقول:” في داخلي صورتان ومسافتان. الأولى حقيقية والثانية مفترضة. لا شيء أستطيع تذكّره غير المسافة، شريط لا ينقطع من الصور، تتملّكني الدهشة وحدها، دهشة تفيض على أنسجة الروح، في طيرانها كعصفور بين مكان وآخر.. المدن أهواء وأمزجة، تعصرني حتى يفيض الحُلم فأغدو مشدوها للوجوه الكثيرة التي سطّرت الشمس ملامحها بعناية، للمباني التي تَفنّنَ جدودي في صياغتها بدأب ويقين، للقصور الدّرعية التي تتوزّع على طول الطريق الضيقة…”
حينما نتأمل هاتين الفقرتين، نجد فيها ما سماه الباحث في الدراسات التقابلية محمد بازي، بتقابل المقاطع أو الفقرات ، فماذا نفهم من التقابل الحاصل بين المقطعين، أول شيء يفهم هو: حصول تقابل السارد/ الذات مع الكون، والفقرة الثانية استدلال على الأولى، استدلال على الطرح المتقدم لطبيعة الحياة في الغرب، ولطبيعة الحياة عند الآخر، المثال الثاني فيه تنمية للحدث، فالكاتب في حد ذاتة يحس بتقابل داخلي سيكولوجي، في رحلاته ربما لا يستطيع أن يتهادن حتى مع الذات المسافرة في علاقتها بالمكان الحميمي الذي تنتسب إليه الذات، أَوَلاَ يمكن أن يكون هذا اللا تهادن هو الآخر سَفَرٌ عبر التاريخ وبنية الذاكرةـ حيث يتقابل الحاضر مع الماضي، ويتقابل السفر مع الحضر.ومن مستخلصات التناظر بين هذين المقطعين هو حصول صورة النقيض، عبر تقابل الكون السردي الذي تشكل عبر عنصر المقارنة بين موضوعين ومكانين ووضعين وحضارتين وجغرافتين، جغرافية باردة وأخرى ساخنة وهكذا.
وتبرز الرؤيا التقابلية للكون للسارد حينما يَجْمع الكاتبُ خلاصاتَ تجاربه في الحياة والسفر، في قوله:” أصبحت أعرف تماما قانون السفر: لا عواطف في السفر وإلا يتسرّب ماء آسن. تجد نفسك وحيدا في المحطة والحياة ولا عزاء لروحك المشروخة في السفر… ثم إني قد جرّبْت الاحتمالات منذ زمن بعيد وعشت بها: احتمال النجاح واحتمال الفشل، احتمال الدراسة واحتمال الانقطاع عن الدراسة كفرد من قبيلة منسيّة في التخوم تعيش بالصدفة”
6. التقابل التناصي
ينتمي مؤلف “يوميات سندباد الصحراء”إلى جنس الرحلة، وهي أدب شخصي بامتياز، وهذا العمل يحمل أكثر من دلالة، فهو تتويج لمحطات مكانية وزمانية، توقف فيها الكاتب (الرحالة) عند رسومات و منجزَات الواقع، وعند تجليات الحياة البسيطة والمركبة، كما توقف في هذا الأثر عند إنْجَازَات الواقع العيني الذي ينتمي إليه صاحب العمل، محليا ووطنيا وعالميا، ولذا فهذه الكتابة المسافرة إن صحّ التعبير، تجربة جديدة لِرحَلات في سراديب الكلمات الحالمة، والواصفة والمتَخَيَّلَة، إنها ذاكرة تطوق فيها المعاني المصحوبة بتأملات الذات، وباصطحابها للكَائِنِ والممكن، الكتابة في “يوميات سندباد الصحراء” امتداد لجغرافية تمتص سحر المكان في شتى أبعاده الإنسانية والسياسية والثقافية والأدبية، وذلك عبر السرد السير ذاتي، وتُغذّيه بريشة رسّام يعشق عبَق العبارةَ التي لنْ يروقَ للقارئِ المرورَ عليها بعين واحدة، ولكن بعينين مفتوحتين، هذه الجغرافية الثَّرة، تعكس مدى تجذر الذات الكاتبة في التواءات الواقع وتشعباته(…) ، وكذا تطلعاته، وما يستحضره من آفاق الكتابة وأنماطها السردية، إنها رحلات تجسد حضور الذات ومُجالستِها لكُتَّاب على اختلاف أشكالهم الفكرية وتوجهاتهم الأدبية وانتماءاتهم الحضارية.
7. الهنا والهنالك وتقابلات الأنا مع الآخر
اشتغال الصورلوجيا
يجد القارئ خرائط طوبنومية كدليل لممرّات حيَّةٍ مرَّ منها الكاتب والكتابة معا ،ممرات ساخنة حينا، وحينا آخر باردة، مدن جميلة وأخرى مسكونة بالرداءة، شوارع وأزقة أنيقة وأخرى ضيقة خانقة، سواحِلٌ تظل عليك من هنا وهنالك، وصحراء تأخذك إلى الوجهة المغايرة والمعاكسة،فترحل بك إلى الامتداد والأصل، هكذا تشتغل الصورلوجيا في الهنا والهنالك، وكما يقول أحد الباحثين:”إن الصورة، في أحد أبعادها إنتاج ذهنية عبر المخيلة لتجربة ذاتية سواء أكانت مرئية أم غير مرئية، تتوسل بالذاكرة والذكرى” . إن جلَّ النصوص المشكلة للكتاب، لها علاقة باستنبات الصور، ولا شك أن مجال الكتابة وعبر الصورلوجيا، التي تستحضر عنصر المقارنة في أدب الرحلة، يقول سعيد عَلُوش في ظل مكونات الأدب المقارن ملخصا ذلك: ” تسكن المقارنة، إذن، كل رحلة ورحالة تواجه فيها”الأنا” بـــ«الغير» . ومن هنا يتجلى المعنى يصح للرحالة التعامل مع الصورة الغيرية، بحيث يستطيع الدارس “ليوميات سندباد الصحراء” تحليل تلك المقارنات الواضحة والمتسترة فيها ، فهذه الرحلات تحمل بين طياتها رؤية الناظر ويتجلى فيها المنظور إليه. وعليه نسجل بارتياح أهمية هذا العمل في ظل أدب الرحلة والوعي بالذات، بمكوناتها الثقافية، ولذا فإن:الرحلة نموذج صارخ من نماذج المقارنة، سواء على مستوى الزمان من خلال (مقارنة حاضرهم بحاضرك، أو ماضيهم بماضيك، أو مستقبلهم بمستقبلك) أو على مستوى المكان بمقارنة ( الهنا أو مكان الرحلة بالهنالك أو مكانك الأصلي) . «وحيث إن “هنا” (مكان الرحلة) لابد له من معيار يقاس به وإليه، فإنه يربط دائما، أو هكذا يجب أن يكون، “بالهناك”(مكاني الأصلي)” ؛ لذا فالكتابة الرحلية سيف ذو حدين، إما أن تكون إنتاجا لصورلوجيا صادقة عن تمثلات الآخر، أو تكون عكس ذلك، وهذا موضوع آخر، إنّ ما يتميز به هذا المؤَلف، أنه استطاع أن يُحْدث نقلة في الزمان والمكان معا، “فكما يقول عزت قرني: “المكان الإنساني يحمل معه بالضرورة زمانا خاصا. فلكل مكان زمان” . بهذا المعنى، تكون “يوميات سندباد الصحراء” صوّرت للقارئ مفارقات في الرؤيةِ للعالم وللأشياء والواقع، ومن هنا نفهم أن أدب الرحلة هو رَدَّة فِعلٍ و تَجَاوبٍ وتواصل واختراق للآخر، وهي بالمعنى الأدبي،نوع أدبي ينقل الأفكار والواقع والمشاهد وحتى الأحاسيس والسلوكات والأمثلة كثيرة في النص، يقول الكاتب تصوير الهنا والهنالك عبر مفارقة مكانية ومعنوية وأخلاقية:” كنا نجول في برن، وكان صديقي يتصرف بغضب وهو يسوق. يقول لي لو قيض له لَحرقَ بضع “سطوبات”، كما كان يفعل في المغرب، أو لسار بدراجته على الطِوَار. ينتقد كاميرا المراقبة في الشارع ويسميها تنذّرا باسم المصوّر الشهير في مدينتنا الصغيرة” .
وفي تحققات الواقع الذي يعيش الشباب المغربي رغبة في الهجرة الى أوربا نجد تقابل الوضعيات والأحوال، يقول السارد:” المرأة السويسرية تسافر إلى المغرب لتعود بشاب يصغُرها كثيرا لتعيد تأثيث شبابها وتفرح كما لم يحدث في زِيجاتها السابقة. للشاب المغربي أيضا أن يفرح (مؤقتا)، فهو لن يعود بعدها إلى مطاردة السائحات ومطارحتهن الغرام والصعلكة في الدروب…”
وينْقل إلينا السارد نظرة الآخر، إلى الهُنا المكان الأصلي في قوله:” لقد كنت أول مغربي يمضي وقتا هناك، لكنني وجدت سمعة المغرب تسبقني، الجميع يتحدث عن شمسها ومدنها الخلابة. يعرفون أدق التفاصيل عن البلد، وقد سبق أن عاش العديد من الزوار حكايات مختلفة، قال رجل إنه زار أغادير قبل الزلزال، ويحلم بزيارتها من جديد، لكن مراكش تبقى سيدة ألأمكنة، والجميع ينظر إليها كجنة من جنان الأرض ويفكر في اقتناء شقة بها”
وعلى مستوى الصورلوجيا يوظف الكاتب كذلك تقابلُ بنية فعل التذكر عبر المشاهد، ونلاحظ هنا رصدَه لمظاهر التَّسول في أوربا يقول وبضمير المخاطَب:” امرأة واحدة ريتَها يوما مختلفة. راقبتَها تصعد للتسوّل على الطريقة المغربية التقليدية؛ تضع بين يديك ورقة عليها كلام معتاد منمق تكاد تحفظه: أخي أنا أرملة، مات زوجي وترك لي أولادا الخ الخ الخ… وقتها تساءلتَ بينك وبين نفسك هل أنت فعلا في “ميترو” باريس أم في “أتوبيس” يربط بين سلا والرباط؟”
النتيجة أن أدب الرحلة تَحوّل ونقلةٌ نوعية في المكان، وهذا ما يشير إليه عبد النبي ذاكر في قوله:”ليست الرحلة، إذن مراوحة في المكان، بل هي حركة تفضي إلى مخالطة ومداخلة للغير، ينجم عنها وصف ورصد لمختلف الجوانب الحياتية والفيزيونومية لهذا الآخر عن طريق الملاحظة المباشرة …” . وهنا تكمن أهمية السفر وأهمية هذا الكتاب الذي استطاع أن يبرز مكونات الأنا عبر عنصر المقارنة في إطار الاختلاف والمغايرة الثقافية والحضارية والاجتماعية.
8. تقابل النص وسياقه
يعد هذا الكتاب وعبر الانفتاح على نصوص أخرى للكاتب عبد العزيز الراشدي، نسمةُ رِيَاحٍ ملهمةٍ فيما بينها ،متَحَدِّثَةً عاشقة لسرد تقابلي،فالكتابة عند كاتبنا تقع في حدود التماس والتقاطع، والرحلة السندبادية هذه يُفترض في الأساس أن تكون في البحر، ولقد انزاحت لتَجعل المتلقي يقف أمام نمط من الكتابة التي تخطط وتستشرف أفقا سرديا متكاملا، فالصحراء هي الامتداد والأصل،كانت بحرا كبيرا في رواية”بدو على الحافة” بحر سبَح فيه الكاتب وجلَّى فيه عوالمه السردية، وبسط فيه خيوط الكتابة المتماسكة،كانت السباحة فيها مسكونة بالدهشة، والتردد، والخوف من الغريب، والشعريُ مقابل النثري، وكثيرا ما كان الكاتب ينسى فيها الواقع المهزوم، والمطوّق بالانتظارت، والأجوبة التي تقلق كَيان الناس، إيقاعات فيها فراغ تحتاج إلى من يملاها، يقول السارد متحدثا عن الناس في الصحراء:”إيقاع أيامهم الخاوية رتيب، يلقون بأجسادهم فوق البقع الترابية الصغيرة الموجودة في كل مكان، المصنوعة بتواطؤ مبهم خصيصا للانتظار، يتراكمون للكلام في أمور لا يملون من تكرارها” ؛ إنه التقاطع الكلي مع الزمان الذي لا يتراجع ومع المكان الذي عادة لا يفصح عن هويته الحقيقية، فالصحراء في احتضانها للزمان، تجعله عاجزا على أن يمر هكذا إنه الصورة التي يلتقطها الكاتب، فالزمان هنا، هو المادة المعنوية المجردة التي تُشكل منها الحياة حيِّزَ كل فعل، بالنسبة للكاتب نقول: لقد شكل الزمان في عمله “يوميات سندباد الصحراء” و”بدو على الحافة”، مجالا خصبا لملاحظة كل تغيير وحركة، لذلك أمكن القول عنه، إنه الزمان الإبداعي الأدبي بصفة عامة، ففيه اشتغال على المضمون والموضوع، وفيه توظيف لتقنيات سردية مؤطرة بدقة الرؤية السردية المقتطفة، إنه الزمان النفسي الذي يستحضر الأجواء الداخلية والنفسية والاجتماعية والتاريخية، يقول الكاتب:”هم الآن مع هذا الاتساع المهول للزمان والمكان، لا يعرفون أي بلاء حلّ بهم، لا يبكرون في الاستيقاظ، ينتظرون حتى تسخن الشمس عند أقدامهم، فتلفظهم المنازل، هاربين من صخب الأطفال، من دخان المواقد وزعيق النساء اللواتي تكثر مطالبهن مع بداية الموسم،ثم يقصدون الأمكنة المعتادة…” ، سنلاحظ تقابلا متداخلا ومنسجما مع هذا النص في”يوميات سندباد الصحراء” يقول الكاتب:” ها هم شيوخ كبار يجلسون هناك. يتكلمون عن النساء والأحفاد، ينبشون الأرض بعصيِّهم الصغيرة…” ما الذي يجعل هذه الأزمنة ماسكةً في الذاكرة؟،إنه الزمان نفسه الزمان الطفولي المستعاد، المربوط بألفة المكان وجماليته.
وختاما نقول، يبقى النص هنا مفتوحا على بنيات تقابلية كثيرة نترك المجال للقراء ليكتشفوها، ويكتشفوا معها لذة القراءة بمنظور تقابلي، كتقابل الأشخاص والأمكنة والأزمنة وغيرهامن التقابلات السردية التي تزخر بها أعمال الكاتب وتحديدا يوميات سندباد الصحراء، والنتيجة أن السندباد لا يعتاد السفر في الصحراء، إنه عاشق البحر والبرد والأمواج، كائن مائي بامتياز، ومع ذلك فنحن أمام سندبادين متقابلين ومتكاملين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *