الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

أنيسيّات

.. صدمتني قبل يومين صورة الفنان المغربي الكبير حسن الجندي , تعلن نبأ وفاته دون إثارة أو اهتمام عربي , عادت بي الذاكرة الى لقائي الوحيد معه عام ثمانين من قرننا الماضي , تحديدا في العاشر من تموز .

.. كنت متوجها على متن طائرة عراقية نحو الدار البيضاء , بينما هو عائد الى بلاده منهيا دوره الرائع “رستم” في فيلم القادسية العراقي , بعد إداءه المدهش دور” أبي جهل ” في فيلم الرسالة
.. ماأن استوت الطائرة في الجو , وفتحنا أحزمة الأمان , تفاجأت ُ بهذا الرجل حسن الجندي ينهض بقامته المهيبة , وقد التف ّ حوله المضيّفون والمضيّفات , أرهفت أذني لهم , وجدت أحاديثهم معه سخيفة بلهاء , نهضت ُ أنظر اليه كأننا على موعد معا , أشاح الرجل بوجهه عنهم , قابلني بابتسامة غامضة , ربما عرفني من قبل , بادرته :
– لقد صفعتك قبل أعوام خلت ياأبا جهل , ردّها علي ّ إن استطعت !
.. عصفت الدهشة برأسه , ترك ندمائه المجتمعين حوله كربيضة الغنم . تقدّم نحوي يصافحني بابتسامة رائعة :
– أهلين سِيْدي , جنابكم عراقي ؟
– نعم , وأنا ذاهب الى بلادكم , أستلم مهمتي الدبلوماسية في الرباط
.. أنفرجت أساريره الرجولية عن نظرات إعجاب عميقة يقول :
– ماشاء الله , يبدو أن حكومة العراق على حق , حين اختارتك لهذه المهمة الحساسة الخطيرة وأنت في هذا العمر الفتي , ولكنك ” قدّها واقدود” أعرّفك بنفسي : أنا حسن الجندي من المغرب … قاطعته :
– وهل يخفى القمر ؟ لقد تشرفت بصفعك ياسيد بني مخزوم ..
– ها ها , شو اللي صار سِيْدي ؟
.. قصصت له الحكاية :
– كنت ُ طالبا في الإعدادية , أنضممت الى فرقة تمثيل يقودها مدرس التربية الفنية أستاذ طارق , صادف أن نقدم عملا في مناسبة إسلامية , الفكرة تقترب الى حد كبيرفي مشهدك مع عبد الله غيث , أسند المخرج لي دور حمزة بن عبد المطلب لفصاحتي وجرأتي الأدبية , غير أن معضلتي برأي المخرج : أنني لست طويلا على غرار الحمزة , معالجة لهذا الخلل الفاضح , أسعفني صديقي ب ” قبقابين” يقتربان من ربع متر ارتفاعا , ولكن برزت مشكلة أخرى : أنني نحيف أكثر مما ينبغي , والحمزة رجل قوي البنية , عريض المنكبين , لذا ألبسني المخرج درعا قطنيا مبطنا ” يلك” .. أكتملت ملابسي , حدّق الأستاذ طارق بي طويلا , هتف بحماس شديد : إي , هسه يلله صرت الحمزة من صدك ..
.. برزت مشكلة أخرى , هي شخصية أبي جهل (هنا فتح الفنان حسن الجندي مقلتيه) كان المخرج يصر أن ّ أبا جهل قصير القامة , هزيل البنية , شاحب الوجه , أنثوي الصوت , لم تنفع معه محاولات إقناعه : أن ليس كل شخصية سلبية في تاريخ المسلمين ان تكون بهذا الوصف , نهرني الأستاذ طارق يهددني : أسكت , تره أبطلك
.. أفلحنا أخيرا أن نعثر على أبي جهل من الحويجة , أسمه يونس , مصاب ب البلهاريزيا المزمنة , ضعيف الجسد , خائر القوى , دقيق الصوت , لمّا كنا نؤدي البروفا , أشعر أنني أطلّ عليه من الطابق العلوي .
.. جاء يوم العرض , حضرها أعيان المحافظة ومسؤولون من بغداد , بدأ المشهد : أن قريشا اجتمعت حول الكعبة (أربعة من دواليب الحديد) جلبناها من الإدارة , غلفناها قماشا أسودا , وقف النبي محمّد مقنّعا , بينما راح يونس , أقصد أبا جهل يكيل الشتائم للرسول , في هذه الأثناء دخلت عليهم متقمصا شخص الحمزة من خلف الستار , تقدمت نحو يونس أخاطبه :
– باسل ٌ أنت ومغوار ياأباجهل , كيف لا , وأنتم تقاتلون رجالا بلا سلاح , بل وتمنعونهم حق الكلام ؟
– محمّد ٌ ساحر ٌ كذّاب ..
– اچراق , ردّها علي ّ إن استطعت ! .. سقط أبو جهل مغشيا عليه من هول الصفعة , أرتطم مدوّيا بجدار الكعبة التي كادت أن تقع لولا أن تداركتها قريش (أقصد زملائي الممثلين) ذعرت وأنا أشاهد نزيف الدم من أنف يونس وفمه , إحتضنته من إبطيه , أسندته على جدار الكعبة حتى كادت ان تهوي نزلة اخرى , لولا أن حفظتها الآلهة , توسلت به :
– لك عيني يونس , إستر عليّه , يمعود افتح عيونك , كان رأس أبي جهل أو يونس يتدلى أمامي يمينا وشمالا مثل خروف موقوذ , أصابني انهيار تام , حتى فقدت النطق تقريبا , لم اعد أتذكر من دوري حرفا , كان المخرج يصرخ بي مرارا من وراء الكواليس : لك أنيس كمّل الدور ! لك أنيس كمّل الدور ….. وأنا أرى يونسا فقد الوعي , أو الحياة ربما , إضطررت تحت ضغط المخرج أن أتفوّه بإي ّ كلام ورد في بالي :
– ولك أبو جهل , اشلون اتسب ّ النبي وتغلط عليه , لك خايس , منعول الوالدين !!
.. إنفجرت القاعة ضحكا هستيريا مجلجلا , لم أشعر إلا ّ والمخرج يسحبني خارج المسرح بقوة هيدروجينية , معلنا فصلي من الفرقة , ختمها بمرسوم جمهوري :
– ما اريد اشوفك , إنته ممثل فاشل !
.. أستلقى صديقي الفنان أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي على قفاه ضحكا لم اتوقعه , هز أركان الطائرة التي أفزعت ركابها عن خلل أكيد , بينما استرجعت غروري : أنني أضحكت أبا جهل , بعد أن صفعته قبل بضعة أعوام , أو ربما قبل أربعة عشر قرنا , وليت ذلك المخرج البائس يرى لقاء القمة مع العملاق حسن الجندي على ارتفاع 5000 قدم فوق ديار المسلمين :

حسبتني وعُقاب الجو يصعد ُ بي
الى السموات محمولا الى وطني
ماأقرب الشمس مني غير أن يدي
ما أن تصلي ّ لغير الشِعر من وثن ِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *