بحث فی اصل الصحّة

by wisam-mo | 11 أكتوبر, 2017 10:49 م

بحث فی اصل الصحّة
دکتور سید نصراله محبوبی
عضو هيئة التدريس ورییس جامعه الآية الله العظمى بروجردي

يستفاد من بعض الآيات والروايات أنّ المؤمن لا ينبغي له حمل عمل أخيه المؤمن على الحرام أو القبيح ، بل يلزمه حسن الظنّ به مهما أمكن وأن يحمل عمله على الصحّة ولا يتّهمه ، بل وأن يكذّب بصره وسمعه فيه . والمقصود بالحمل على الصحّة ـ والذي يظهر اختصاصه بالمؤمنين دون غيرهم ـ هو حسن الظنّ بهم لا عدم ترتيب الأثر على ذلك ؛ لما ورد في الخبر من تكذيب الإنسان سمعه وبصره في أخيه حتّى لو شهد خمسون شخصاً أنّهم سمعوا منه ذلك وكذّبه هو ، إذاً فاللازم تصديقه وتكذيبهم . وواضح أنّ المراد بتصديقه عدم ردّه والقبول منه لا عدم ترتيب الآثار الحاصلة عليه ؛ لأنّ الخمسين شاهداً هم مؤمنون أيضاً ، فلا يمكن تصديق المؤمن وحمل الآثار المترتّبة على كلامه من جهة وفي الوقت نفسه حمل الآثار المترتّبة على كلام الشهود من جهة اُخرى . إذاً ، المقصود من الحمل على الصحّة عدم اتّهام المؤمن بصدور الحرام منه ، بل يحمل فعله على الإباحة والمشروعيّة .
وعليه ، فإنّ المراد بأصالة الصحّة ليس حمل العمل الصادر عن شخص إذا شككنا فيه على الصحّة دون الفساد ، كما لو أوقع ـ مثلاً ـ عقداً وشككنا في صحّته أو فساده فنحمله على الصحّة بناءً على أصالة الصحّة ، فهذا معنى آخر غير المعنى السابق لأصالة الصحّة .
كما أنّ من الواضح أنّ أصالة الصحّة بالمعنى الثاني هي غير قاعدة الفراغ ؛ فإنّ الثانية وإن كان المكلّف يحصل له الشكّ فيحمل عمله على الصحّة ، إلا أنّ الفعل المشكوك هو فعله ، كما أنّ الشكّ الحاصل له يقع بعد الفراغ من الفعل ، وليس الأمر كذلك في أصالة الصحّة ؛ وذلك لأنّ المراد بها حمل فعل الغير على الصحّة ، هذا أوّلاً . وثانياً : لعدم اشتراط الحمل على الصحّة في المقام بالفراغ من العمل ، بل يحمل عمل الغير على الصحّة ويرتّب آثار الصحّة حتّى في خلال العمل إذا عرض له الشكّ فيه .
وبعد اتّضاح المراد بقاعدة الصحّة ـ بالمعنى الثاني ـ والفرق بينها وبين قاعدة الفراغ ، ينبغي البحث عن الدليل الدالّ على هذه القاعدة ، فإذا ثبتت هذه القاعدة بالدليل المعتبر انتقلنا لما يتفرّع عليها من بحوث . وسنشير إلى بحوث هذه القاعدة ضمن النقاط التالية :
النقطة الاُولى ـ أدلّة القاعدة :
تعتبر أصالة الصحّة من المسلّمات بين فقهاء الإسلام ولم ينكرها أحد منهم ، بل قبلوها واستدلّوا عليها بأدلّة عديدة ، فتّمسّكوا بقوله تعالى : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } ، وبالخبر الوارد في قاعدة اليد : «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» ، وبالإجماع القطعي ، وبالروايات الواردة في باب تجهيز الميّت ، والروايات الواردة في باب الجماعة والجمعة والتوكيل وإمضاء نكاح الأب والجدّ ونظائر ذلك .
إلا أنّ الجميع مخدوش وقابل للمناقشة ، والدليل الوحيد الذي يمكن الاستدلال به على هذه القاعدة هو السيرة القطعيّة للمسلمين طوال التأريخ والتي لا يعتريها أدنى شكّ ؛ فإنّ من المسلّمات والقطعيّات أنّ المسلمين ـ حتّى في العصور المنصرمة وبحضور المعصومين(عليهم ‏السلام) ـ كانوا يرتّبون الأثر على العقود والإيقاعات الجارية فيما بينهم ويبنون على صحّتها من ناحية عمليّة ، فالميّت الذي يجهّز ويصلّى عليه ـ مثلاً ـ من قبل البعض يبنون على صحّة عمله مع أنّ من المحتمل عدم صحّة عمل المتصدّي لتغسيله وتكفينه وتحنيطه والصلاة عليه ، بل غالباً ما يتصدّى لمثل هذه الاُمور من لا علم له بمثل هذه الاُمور من الناس ، فيتولّد الظنّ بعدم صحّة عملهم .
وهكذا فإنّ ثمّة من كان يتصدّى ـ على طول التأريخ ـ لإيقاع عقد النكاح أو الطلاق بين الزوجين رغم أنّ الغالب فيهم عدم الإلمام والمعرفة بذلك ، لكن رغم ذلك فإنّ المسلمين يبنون على صحّة عملهم ويرتّبون آثار النكاح والطلاق عليه ، كما أنّه كثيراً ما يحصل الاقتداء طوال هذه الأزمنة بأئمة الجماعات والأكل من الذبائح والألبان التي تصنع في القرى وفي المسالخ غير المعروفة ، كلّ ذلك بناءً على صحّة عمل الاُجراء فيها والوكلاء عنها ، مع أنّه يوجد الظنّ ـ ولا أقلّ من الاحتمال ـ بفساد عمل المتصدّين لمثل هذه الاُمور ، ولا يمكن حمل آثار الصحّة من دون حمل عمل الغير على الصحّة . فالزوج ـ مثلاً ـ يبني على قول وكيله بإيقاع الطلاق لزوجته مع أنّه يحتمل كذبه أو اشتباهه أو عدم إيقاعه الطلاق بشكل صحيح ، وهكذا بالنسبة للزوج الآخر الذي يريد العقد على هذه المرأة يصدّق بصحّة ذلك مع احتمال الكذب أو النسيان أو عدم العلم والإلمام أو الغفلة في حقّ زوجها الأوّل أو وكيله . فالمسلمون طوال هذه الأزمنة يحملون آثار الصحّة على مثل هذا الطلاق أو على الزواج والحريّة والبيع والشراء في مواردها ، فهل يمكن القول بحصول العلم والاطمئنان من مثل هذه الموارد للمسلمين بالصحّة طوال الأزمنة السابقة؟ لا شكّ ولا ريب في أنّ مثل هذا الكلام ليس إلا جزافاً لا يمكن قبوله . وعليه ، فالصحيح أنّ مثل هذه السيرة بما أنّها سيرة ثابتة وقطعية فهي غير قابلة للإنكار والمناقشة ، وبما أنّ الأئمة(عليهم ‏السلام) لم يردعوا عنها ، بل ثمّة روايات في موارد عدّة تؤيّدها وتعضدها ، فلابدّ من القول بأنّ أصالة الصحّة هي أصل شرعي يجري عند الشكّ في صحّة أو بطلان العمل الصادر من الغير وترتيب آثار الصحّة عليه .
النقطة الثانية ـ ما المراد بالصحّة؟
هل المراد بالصحّة في هذه القاعدة الصحّة الواقعيّة أو الصحّة عند من يصدر منه العمل؟ ذهب المحقّق القمّي إلى الثاني ، وهذا كما هو واضح هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه أوّل البحث لأصالة الصحّة والذي قلنا إنّه خارج عن محلّ الكلام .
وذهب غيره إلى أنّ المراد هو الأوّل أي الصحّة الواقعية ؛ لما تقدّم من أنّ بناء السيرة على ترتيب الآثار الواقعيّة ؛ وإلا فلا معنى لترتيب جميع الآثار . وعليه ، فبما أنّ السيرة قائمة على ترتيب الآثار الواقعيّة لا ترتيب آثار الصحّة عند صاحب العمل ، إلا أنّ القدر المتيقّن من هذه السيرة عندنا هو الموارد التي لا يختلف فيها الحامل لعمل الغير على الصحّة مع من يصدر منه العمل ؛ بأن يرى ـ إمّا تقليداً أو اجتهاداً ـ صحّة عمل الغير ، أو بألا يكون له رأي معيّن في الموضوع ، فإذا لم يكن الأمر كذلك بأن كان يرى ـ إمّا تقليداً أو اجتهاداً ـ بطلان عمل الغير ، فلا يُعلم حينئذٍ كون بناء السيرة الحمل على الصحّة ، كما لو عُلم عدم اطّلاع صاحب العمل على شروطه وكيفيّته شرعاً فأتى به جهلاً ، فإنّ من البعيد في مثل هذه الحال الحمل على الصحّة أيضاً ، فلو علم المكلّف بتصدّي الجاهل لتجهيز الميّت وتكفينه فليس من المعلوم حينئذٍ الاكتفاء بعمله وحمله على الصحّة وعدم استئناف تجهيزه من قِبله .
إذاً ، المراد بقاعدة الصحّة وإن كان هو الصحّة الواقعيّة إلا أنّ القدر المتيقّن من دليلها الوحيد ـ وهو السيرة ـ الموارد التی يجهل فيها كيفيّة عمل الغير أو يعلم أنّه يأتي بالعمل عن علم ومعرفة ، كما يلزم ألا يخالف رأي الحامل رأي العامل .
النقطة الثالثة ـ عدم جريان أصالة الصحّة لو كان الشكّ في قابليّة القابل أو المورد :
لو شككنا في صحّة عمل الغير أو بطلانه من جهة الشكّ في فقدانه لجزء أو شرط أو وجود مانع يوجب فساد العمل ، فلا شكّ هنا في جريان أصالة الصحّة ، وأمّا إذا كان منشأ الشكّ من جهة قابليّة الفاعل أو قابليّة المورد فلا يمكن جريان هذه القاعدة . فلو شُكَّ ـ مثلاً ـ في صحّة عقد من جهة الشكّ في بلوغ المتعاقدين أو أحدهما أو من جهة الشكّ في مملوكيّة العين وكونها قابلة للنقل أو لا لم تجرِ قاعدة أصالة الصحّة هنا لتصحيح العقد ؛ وذلك لأنّ المتيقّن من السيرة ـ وهو الدليل المعتبر الوحيد ـ غير هذه الموارد . ومن الغريب إجراء الشيخ الأنصاري(1)لها في هذين الموردين ؛ لتصوّره جريان سيرة المتشرّعة فيهما وترتيبهم آثار المعاملة عليها مع شكّهم في مالكيّة البائع واحتمال أنّه غاصب ، ففي مثل هذه الموارد التي يشكّ فيها في قابليّة الفاعل والمورد تجري السيرة المتشرّعيّة ويحمل عمل الغير على الصحّة .
ووجه الغرابة في كلامه من جهة أنّ السيرة دليل لبّي لا إطلاق فيه ؛ ولذا لا يمكن إثبات إطلاقه وشموله لمثل هذه الموارد ، فلابدّ من التوقّف عند القدر المتيقّن . وأمّا ترتيب المسلمين آثار العقد عليه فهو أوّلاً : قد يكون لحصول الاطمئنان بالمالكية والبلوغ . وثانياً : أنّه قد يكون من جهة قاعدة اليد لا أصالة الصحّة . وعليه ، فلا يمكن إجراء أصالة الصحّة في مثل هذه الموارد بمعنى ترتيب الآثار الجارية عليه .
النقطة الرابعة ـ انحصار ترتّب الأثر بجريان أصالة الصحّة في خصوص الشيء المشكوك فيه دون ما عداه :
وينبغي الالتفات هنا في هذه النقطة إلى أنّ أثر الحكم بالصحّة في كلّ شيء إنّما يترتّب على نفس ذلك الشيء ، فلا يُتعدّى في ترتيب الأثر إلى أكثر من ذلك فأثر الحكم بصحّة الإيجاب ـ مثلاً ـ يترتّب على نفس الإيجاب لا على العقد الذي هو عبارة عن مجموع الإيجاب والقبول . وعليه ، فلو شككنا في صحّة الإيجاب رتّبنا أثر الصحّة على الإيجاب خاصّة من خلال إجراء أصالة الصحّة ، والأثر الوحيد

(1) فرائد الاُصول ( قاعدة أصالة الصحة ) : 724 . فما بعد ، ط ـ جماعة المدرسين

الذي يمكن ترتيبه على ذلك هو أنّه لو ضممنا إلى جانب الإيجاب القبول الصحيح وتوفّرت سائر الشروط الاُخرى المؤثّرة في العقد سواء ثبتت بالأصل أو الوجدان ـ أمكن ترتيب آثار العقد الصحيح على ذلك ، لا أنّه تترتّب آثار المعاملة بمجرّد جريان أصالة الصحّة في الإيجاب ؛ لأنّ آثار المعاملة إنّما تترتّب عليها إذا كانت المعاملة واجدة لجميع شروط العقد المؤثّر ، وجريان أصالة الصحّة في الإيجاب إنّما تحرز أحد تلك الشروط لا جميعها كما لا يخفى .
ومثال آخر يمكن توضيح المسألة من خلاله أكثر وتسليط الضوء على الخطأ الذي وقع فيه كثير من الفقهاء ، وهو : أنّ الراهن قد يقوم ببيع العين المرهونة ويدّعي إذن الراهن له بذلك ، ولكن الراهن يدّعي رجوعه عن إذنه بعد صدوره عنه وأنّ البيع وقع بعد رجوعه عن الإذن وقد ذهب بعض الفقهاء في هذه المسألة إلى إجراء أصالة الصحّة في الإذن لتصحيح بيع الراهن ، فيما ذهب آخرون إلى أنّ جريان أصالة الصحّة في الرجوع يوجب فساد المعاملة . إلا أنّ كلا هذين القولين غير سديد ؛ وذلك لأنّ أثر صحّة الرجوع هو أنّ البيع لو وقع بعده لكان فاسداً ، لا أنّ الرجوع لو كان صحيحاً لكان البيع واقعاً بعده بالضرورة ؛ بمعنى أنّ وقوع البيع بعد الرجوع الذي يعني فساد البيع ليس أثراً للرجوع حتّى يكون جريان أصالة الصحّة في الرجوع موجباً لفساد البيع كما توهّمه بعض الفقهاء ، بل إنّ جريان أصالة الصحّة في الرجوع يترتّب عليها أثرها نفسه الذي أشرنا إليه ، كما أنّ أثر صحّة الإذن هو ترتّب آثار البيع على عقده بعد وقوعه فيما لو كان جامعاً لتمام الشروط ، لا أنّه يترتّب وقوع البيع بعد ذلك على الإذن الصحيح كما توهّمه البعض ؛ وذلك لما أشرنا إليه من أنّ صحّة كلّ شيء إنّما تستلزم ترتّب آثاره هو لا أكثر ، ووقوع البيع بعد الإذن ليس أثراً للإذن الصحيح حتّى يترتّب من خلال جريان أصالة الصحّة .
هذا تمام الكلام في أصالة الصحّة في الرجوع بناءً على أنّ الإذن في البيع لا يوجب سقوط حقّ المرتهن ، وإلا لم تجرِ أصالة الصحّة في الرجوع ؛ لأنّ منشأ الشكّ في الصحّة إنّما هو عدم قابليّته للصحّة بعد سقوط حقّ المرتهن بالنسبة إلى الرهن . كما أنّها لا تجري في أصل البيع أيضاً ؛ لأنّ منشأ الشكّ في الصحّة هو في قابليّة البائع حال البيع ، وإن كان يحتمل تحقّق رجوع المرتهن قبل المعاملة وعدم كون البائع مأذوناً ، وقد مضى عدم جريان أصالة الصحّة حال كون الشكّ في قابليّة البائع أو المورد . وعليه ، فلا تجري أصالة الصحّة إذا كان الشكّ في البائع والفاعل .
النقطة الخامسة ـ عدم جريان أصالة الصحّة فيما لو كان عمل الغير قصديّاً :
ذكرنا فيما سبق أنّه لابدّ في جريان أصالة الصحّة من إحراز عمل الغير أوّلاً ثمّ الشك في صحّته ، فنجري أصالة الصحّة والتعبّد بالخروج من حالة الشكّ ، فإذا كان العمل المشكوك فيه من الأعمال القصديّة ( وهي التي لا تقع ما لم تقصد بعنوانها ) كالغسل والصوم ونحوهما ، فإنّ من المستبعد جريان أصالة الصحّة فيها ، فإذا علمنا ـ مثلاً ـ أنّ الشخص الكذائي لم يتناول شيئاً في شهر رمضان ولكن لم نعلم أنّه هل نوى الصوم وقصده أو لا؟ لم تجرِ أصالة الصحّة ؛ إذ ما لم يقصد الصوم فلا تحقّق له ؛ بمعنى عدم إحراز أصل العمل ، وقد ذكرنا أنّه ما لم يحرَز أصل العمل لا يمكن جريان أصل الصحّة ؛ إذ مع الشكّ وعدم إحراز قصد العنوان في مثل هذا العمل فإنّ مرجع الشكّ إلى نوع من الشكّ في أصل تحقّق العمل ، وقد تقدّم أنّ مجرى أصالة الصحّة مع فرض إحراز أصل العمل ، ونحن وإن كنّا نتمسّك في مثل هذه الموارد بإطلاق روايات قاعدة الفراغ ، إلا أنّ القدر المتيقّن من السيرة في قاعدة أصالة الصحّة هو غير هذه الموارد كما لا يخفى .
هذا كلّه فيما لو كان العمل من الأعمال القصديّة التي يتوقّف تحقّقها على قصد عنوان خاصّ ، وأمّا في سائر الأعمال الاُخرى التي لا يتوقّف تحقّقها على قصد
عنوانها ـ كما في غسل الثوب النجس ـ فإنّ الظاهر عدم توقّف تحقّقه على قصد عنوان الغَسل ، فإذا رأينا من يطهّر ثوبه من النجاسة ـ مثلاً ـ أمكن حمل فعله على الصحّة ولو لم نحرز أنّه قصد التطهير أو لا ؛ وذلك لأنّ تطهير الثوب من النجاسة لا يتوقّف على الطهارة وإزالة النجاسة ؛ ومن هنا يمكن بعد إحراز أصل العمل ـ وهو الغَسل ـ إجراء أصالة الصحّة وحمل آثار الطهارة عليه .
لذا فإنّ من الغريب إلحاق السيّد الخوئي(2)هذه الصورة بالصورة السابقة في عدم جريان أصالة الصحّة من دون أدنى إشارة في كلامه إلى تعليل ذلك وبيان الدليل فيه . ومثله ما صدر عن الشيخ الأنصاري(3)من كلام غريب مماثل في جريان أصالة الصحّة ، حيث ذكر أنّه لو استأجر وليّ الميّت أو وصيّه من يقضي عنه صلاته وصومه ولم يعلم أنّ الأجير قصد النيابة في عمله أو لا لم يمكنه إجراء أصالة الصحّة والحكم ببراءة ذمّة المّيت ؛ لأنّ مفاد أصالة الصحّة في العمل الذي يقوم به النائب هو الصحّة ، بيد أنّ صحّة عمله لا تثبت أنّه قصد النيابة ؛ لأنّ الفعل النيابي فعل قصدي ، وحيث إنّه لم يحرز قصد العنوان فإنّ مرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في تحقّق أصل وجود العمل النيابي ، والسيرة غير ثابتة في هذه الحالات .
ولكن يمكن القول : إنّ جريان أصالة الصحّة في عمل النائب لمّا كان من جهة أنّه عمله ومتعلّق به أمكن القول حينئذٍ باستحقاقه الاُجرة ؛ وذلك لصحّة العمل المستأجر عليه ، وإحراز عمل النائب بالوجدان ، وإحراز صحّته بأصالة الصحّة ، فلا وجه عندئذ في عدم استحقاقه الاُجرة .
وغرابة كلامه تكمن فيما جاء في آخره ؛ لأنّ مورد الإجارة ليس هو قيام النائب بعمل صحيح سواء عن المنوب أو لنفسه أو لآخر ، وإنّما موردها العمل الصحيح عن المنوب عنه وبقصد النيابة ، وبما أنّ مثل هذا العمل غير محرز وذمّة الميّت لم تفرغ بعدُ ـ كما اعترف به هو ـ فكيف يمكن الحكم حينئذٍ باستحقاق النائب الاُجرة ؟ .

(2) مصباح الاُصول 3 : 332 .
(3) فرائد الاُصول : 727 ، مصباح الاُصول 3 : 332 .
أليس هذا حكماً ظالماً ؟ ! أليس أخذ الاُجرة أكلاً للمال بالباطل مع عدم فراغ ذمّة الأجير بحسب الظاهر من العمل الذي أخذ بإزائه ما لم يقم به؟! لا شكّ أنّ الشيخ قد وقع في سهو واضح ، ولو أنّه كان قد جدّد النظر فيما ذكر لعدل عنه .
النقطة السادسة ـ هل أصالة الصحّة أمارة أم أصل ؟ :
قد تقدّم أنّ أصالة الصحّة ليست أمارة كاشفة عن الواقع ، بل هي أصل تعبّدي يجب العمل به بمقتضى السيرة المتشرّعيّة ، وعليه فلا يمكن ترتيب لوازمها العقليّة والعاديّة كما هو الحال في جميع الاُصول العمليّة . ولكن حتّى على فرض كونها أمارة فإنّه لا يمكن الالتزام بلوازمها العقليّة والعاديّة ؛ لأنّ دليلها هو السيرة المتشرّعيّة والإجماع القطعي ، ومعلوم أنّ القدر المتيقّن من الدليل اللبّي غير هذه الموارد ؛ بمعنى أنّه لم يحرز قيام السيرة على جريان أصالة الصحة في اللوازم العقليّة والعاديّة لمجراها ، بل القدر المتيقّن من ذلك ترتيب آثارها الشرعيّة ، وعليه فلا ثمرة عمليّة تترتّب على البحث في كون أصالة الصحّة أصلاً عملياً تعبّدياً أو أمارة عقلائية كاشفة وإن كان الظاهر أنّها أصل تعبّدي كما تقدّم .
ونشير هاهنا إلى بعض الأمثلة الواردة في كلام الشيخ الأنصاري وغيره :
1 ـ المثال الأوّل : إذا شككنا في معاملة وقعت من المكلّف أنّها تمّت على عين مملوكة أو على عين غير مملوكة كالخمر والخنزير ، ثمّ خرجت هذه العين عن ملكه ، فإنّه لا يمكن إجراء أصالة الصحّة للحكم بخروج تلك العين من ملكه ، وإذا مات لم يكن لورثته التصرّف فيه ؛ لأنّ اللازم العقلي لصحّة المعاملة هو خروج تلك العين من ملكه ، وأصالة الصحّة كما ذكرنا ـ لا تثبت اللوازم العقليّة لها .
إلا أنّ المشكلة في هذا المثال عدم جريان أصالة الصحّة في هذه المعاملة ؛ لما تقدّم من أنّ أصالة الصحّة لا تجري في الموارد التي لا يحرز فيها قابلية الفاعل والمورد ، وفي هذا المثال لا يحرز قابليّة المورد كما هو واضح ؛ لاحتمال وقوع المعاملة على ما لم يملك ممّا لا يمكن مبادلته شرعاً بالبيع والشراء .
ولكن يحتمل في كلام الشيخ أن يريد أنّه بناءً على صحّة جريان أصالة الصحّة في هذه المعاملة فإنّها لا تثبت اللازم العقلي فيها ، ولا بأس بالتمثيل إذا كان يراد به بيان الحكم الكلّي أو كان مبنيّاً على الفرض .
2 ـ المثال الثاني : ما ورد في كلام الشيخ الأنصاري وإن كان قد نقله عن العلامة وهو : إذا اختلف المؤجر والمستأجر فقال الأوّل : آجرته بكذا إلى شهر ، وقال الثاني إلى سنة ، فلا يمكن إجراء أصالة الصحّة من طرف المستأجر والقول بأنّ المعاملة صحيحة وترتيب آثار الصحّة عليها وامتلاك المنافع إلى سنة ؛ وذلك لعدم إحراز قابليّة المورد ؛ إذ لم يحرز وقوع المعاملة إلى سنة ، فلا تجري أصالة الصحّة في عقد الإجارة إلى سنة كما يدّعي المستأجر . نعم ، يمكن جريانها في أصل عقد الإجارة ، ولكن هذا لا يثبت لازمها العقلي وهو كونها إلى سنة ؛ لأنّه أصل مثبت .
والصحيح عدم جريان أصالة الصحّة في المقام ؛ لأنّها إنّما تجري ـ كما اُشير إليه ـ فيما لو كان المورد محرز القابليّة ، وليس المقام كذلك ؛ لاحتمال عدم وقوع عقد الإجارة على سنة ، ولا معنى محصّل لجريانها إجمالاً كما ورد في كلمات البعض وأشرنا إليه في تقرير هذا المثال ؛ وذلك :
أوّلاً : لعدم ترتّب الأثر على جريانه ، والأصل العملي إنّما يجري إذا كان يترتّب عليه أثر . وثانياً : إنّ جريانها في الإجارة إجمالاً هو من الموارد التي لم يحرز فيها القابليّة ، وليس من المعلوم إرادة الشيخ لهذا المعنى ، وليس في كلامه ما يشير إلى ذلك ، وعليه فهذا المثال مناقش فيه ، إلا أن يقال إنّه مجرّد افتراض لا غير .
3 ـ المثال الثالث الذي نقله الشيخ الأنصاري عن العلامة الحلّي(4): ما إذا اختلف المؤجر والمستأجر في تعيين الاُجرة أو المدّة وعدم تعيينهما ، فالمؤجر
(4) المصدر السابق .
ينكر التعيين فيكون مدّعياً لفساد الإجارة ، والمستأجر يدّعي التعيين فهو مدّع للصحّة ، وفي مثل المورد يقدّم قول المستأجر إذا لم يتضمّن أمراً زائداً . هذا ما نُسب إلى العلامة . وجاء في توضيحه : أنّه إذا ادّعى المستأجر التعيين باُجرة المثل أو أكثر ، فإنّ ادعاءه لا يتضمّن هنا شيئاً زائداً على أصل صحّة الإجارة ؛ ولذا يقدّم قوله بمقتضى أصالة الصحّة ، وهذا بعكس ما لو كان ادّعاؤه التعيين بأقلّ من اُجرة المثل ؛ فإنّ دعواه حينئذٍ قد تضمّنت أمراً زائداً على اُجرة المثل ممّا يوجب دخول الضرر على المؤجر ؛ ولذا لا وجه لتقديم قوله ، وأصالة الصحّة تجري ولكن لا تثبت الزائد ؛ باعتباره من لوازم الإجارة الصحيحة ؛ لعدم حجّيّة الأصل المثبت .
وهذا المثال مخدوش فيه أيضاً ؛ لأنّ القدر المتيقّن من السيرة المتشرّعيّة هو العمل بأصالة الصحّة في غير هذه الموارد المتنازع فيها والتي يكون فيها أحدهما منكراً والآخر مدّعياً أو كلٌّ منهما يدّعي شيئاً معيّناً ، وعليه فإذا لم تقطع بعدم جريان السيرة في هذه الموارد بل يرجع المتشرّعة إلى القضاء فلا أقلّ من الشكّ في وجود هكذا سيرة . فالنتيجة : هي عدم خلوّ المثال الثالث أيضاً من المناقشة .
النقطة السابعة ـ في التعارض بين أصالة الصحّة والاستصحاب :
وقع خلاف كبير بين الاُصوليّين في تقديم الاستصحاب أو أصالة الصحّة فيما لو تعارضا ، ولا داعي لنقل كلامهم ومناقشته في المقام ؛ وذلك لوضوح تقدّم أصالة الصحّة باعتبارها أصلاً موضوعيّاً في قبال الاستصحاب الحكمي ، فتتقدّم أصالة الصُحّة ـ مثلاً ـ في معاملة ما على استصحاب عدم النقل وأصالة الفساد ؛ وإلا كان تشريعها لغواً . وبعبارة اُخرى : إنّ الحكم بصحّة هذه المعاملة مبنيّ على أنّ أصالة الصحّة تنفي تعبّداً موضوع الاستصحاب بعدم النقل وأصالة الفساد ، كما أنّه لو لم تتقدّم أصالة الصحّة فإنّ موارد الابتلاء بذلك قليلة . والحاصل : فإنّ العمل في مثل هذه الموارد هو تقديم أصالة الصحّة على أصالة الفساد كما لا يخفى .
وأمّا إذا تعارض الاستصحاب الموضوعي مع أصالة الصحّة فالظاهر تقدّمه عليها ؛ لأنّه مع جريان الاستصحاب يزول الشكّ في الصحّة والبطلان ـ الذي هو مورد أصالة الصحّة ـ تعبّداً ، وليس من الواضح وجود السيرة على العمل بأصالة الصحّة في مثل هذه الموارد ، وهذا بخلاف دليل الاستصحاب ؛ فإنّه دليل لفظي له عموم وإطلاق ، ومن المعلوم عدم الفرق بينهما حينئذٍ سواء كانا أمارتين أو أصلين ، أو أحدهما أمارة والآخر أصلاً عمليّاً . فإذا وقعت معاملة ـ مثلاً ـ على مائع كان خمراً ، وشككنا الآن أنّه تحوّل خلا حتّى تصحّ المعاملة ، أو لا فلا تصحّ ؟ فإنّ أصالة الصحّة هنا تحكم بالصحّة ، والاستصحاب يثبت خمريّة المائع ، فتكون المعاملة باطلة . ومن الواضح جريان الاستصحاب هنا والحكم بخمريّة المائع وفساد البيع ؛ وذلك لعدم معلوميّة جريان أصالة الصحّة في مثل هذه الموارد ، الأمر الذي يعني نفي التعارض من الأصل ، هذا أوّلاً . وثانياً : لزوال الشكّ في صحّة المعاملة بجريان الاستصحاب ، فلا تصل النوبة إلى إجراء أصالة الصحّة .
وبالطبع ، فإنّ هذا المثال فرضيّ أيضاً ؛ لعدم جريان أصالة الصحّة في مثل هذه الموارد التي لا يحرز فيها قابليّة المورد

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/11100