الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

رحل الباحث أ. أديب قوندراق ابن السقيلبية رحمه الله

كتب الفنان التشكيلي والكاتب غيث العبدالله :(ورحل أستاذي.. رحل كشجرة السنديان، قوياً.. صلباً.. و خالداً. غارساً جذوره الفكرية ، المعرفية ، الأدبية، في حياتنا بكل ثبات وأصالة.

 

رحل أستاذنا الذي أسس لميادين واسعة من الثقافة والفكر في السقيلبية.
رحل أستاذي اليوم بهدوء لكنه باقٍ في الذاكرة والوجدان و خالداً كأحد أهم وأبرز المثقفين الكبار في مدينتنا ومنطقتنا ومحافظتنا.
هكذا الأشجار تموت واقفة.
——–
غيث العبدالله
السقيلبية
١٨-٦-٢٠١٩
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن مقالات الراحل على صفحته :
ســفر الأحــزان لــدى أبناء الســـقيلبية

بقلم الراحل الكبير الباحث أ. أديب قوندراق من كتابه(السقيلبية تاريخ وذاكرة)

الحياة وارثة الموت ، والحزن موروث المحبة ، والدمع هو الإنسان. كم من بعيدٍ وافاهُ بارقٌ ينبئه عن وفاة عزيزٍغالٍ ، فيهيمُ مُسرعاً للّحاق بموكب الوداع قبل أن يوارى الجثمان في القبر وكم من بعيدٍ بعيد ، وافاه النبأ فغاضت الدمعةُ وهامت الروح لهفةْ لمعانقة موكب المشيعين وملامسة النعش قبل أن يوارى.
نعم ، اللحاق بموكب الوداع ..ملامسة النعش…إلقاء النظرة الأخيرة. ولعمري أن لصورة موكب المشيعين مكاناً يتصدر الذاكرة لدى أبناء السقيلبية ، ولعمري أن لقبورهم موقعاً مميزاً في نفوسهم مثلما هو على الطبيعة.
فكم من حبيبةٍ أنَّا عليها السير في موكب الوداع فراحت ترمقُ من على سطحِ علّيةٍ ذلك النعش المبتعد سابحاً في عينيها عميقاً نحو القلب إلى أن تخبو صورةُ نعش الحبيب في أدمعها :

يَأَهْـــلَ الشّـــعْرقولــــوا الشـــعر وَقْفُـــــون
القـــــوافي عَ اللّــــي راحوا بعيد وَقْفـــــون
أَمانَـــهْ يَلْ تْشِـــــــيلوا النعش وَقْفُــــــــــون
جايـــــــي بَّالنا نْبــــــــوْس الخَشَـــــــــــبْ

لدهـــر ما نكَــــب غيري ولا لام وعجـــب ما جمَّـع بشــملي ولا لَـــــــم
يتيـــــــــم صبـــحت لا بيــاً ولا لام حــــزين ودمعـــة عيـــوني ســــــكاب

تُعـــد مآتـــم الوفيات من أكثــر مظاهر الحــزن في المجتمع الســقيلباوي ، فللمــوت في الســقيلبية مراســم تكاد تتشابه مع العديد من الشعوب ، فرحيل عزيز أو شــاب أو زوجــة تركت وراءها أطفالاً كزغب القطــا يتامى ، أو موت أب يترك وراءه أرملــة وحفنة من صغــار فقدوا المعيل ، كان يُعَبَرُ عن ذلك بعويل تتقطع لهوله القلوب ، ونحيــب مؤثر ونثر للشعور وتمزيق للملابس ولـــطم على الخدود وخمشها بالأظافر التي تُحدث أخاديد دامية ورش التراب فوق الرؤوس ، وصــراخ يشق عنان الســماء ، ينطوي على العتاب الموجه إلى سُكان الســماء لاختطافهم الحبيب الراحل دون ســابق إنذار.
يُعـرف عن أبناء الســقيلبية تطــرفهم الشديد بالتعبير عن الحــزن خاصة إذا كان الفقيــد شاباً.
يُسجى الجثمان فوق ســرير في وســط ساحة الدار وقد سُــبل الزراعان فوق الصــدر، ويُحاط الرأس بشتى أنواع الزهر والورود وتجلس النسوة بشكل دائري حول الجثمان قُرب آل الفقيد
ينحبن بالبكاء وســط دق الصدور براحات الأكف وشد الشعور وعويل يقطعه بين الحين والآخر صوت غناء حزين تؤديه بعض الناحبات اللاتي عُرفنّ بأصواتهن المؤثرة في تعميق الحزن ، وكلمات الرثاء المعبرة عن هول المَصاب ، وعبارات تؤجج النحيب والبكاء كلما شارف على الهدوء ، وتَكثُر حالات الإغماء وغياب الوعي إلى أن يُرد برشقة ماء بارد على وجه المغمى عليها 0
يجلس الرجال في غرف مع ذوي وأقارب الفقيد يتداولون الحديث وقصص الموت وقدر الإنسان وكيف أن لكل إنسان ساعة آتية لا محالة : (كاس على كل الناس ) ، قدر لا يملك أحد القدرة على منعه أو رده ، وأن قدر كل إنسان مكتوب على جبينه منذ ساعة ميلاده :
( والمكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين ) ويروي آخرون قصصاً عن الصبر الجميل مع سرد الأمثلة الدينية التي فيها العذاء والتصبر ، وبعد انقضاء ســاعات طويلة على تلك الحال يُحَضَرُ الكفن ليكفن به جثمان الميت ولا يُستَخدم مقص ولا إبرة ولا خيط في إعداده إنما يُستخدم الموسى ومزق ثخينه من قماش الكفن للربط تعبيراً عن الزهد بالدنيا ونكران معطياتها يوضـــــــع الجثمان في نعش خشبي ( التابوت ) ويوضع فوقه غطاءه وقد ثُبت عليه مجسم للصليب الذي يحمل جثمان المسيح المُخَلص ، وعلى كل زاوية من زوايا التابوت مجسم لصورة ملاك مُجنح

وعندما تزف ساعة الرحيل ويُقبل الرجال والشباب نحو النعش لنقله – هنا يبلغ الحزن أشده إذ تتمسك النساء بأطراف التابوت لاستبقائه فترة أطول ، مع هدير مفزع من البكاء والعويل والصخب والأنين ، وتنتصر إرادة الرجال ويُحمل التابوت فوق الأكف ويخرجونه من وسط زحام وعويل النساء ، ويتشكل الموكب خارج الدار بأن يتقدمه حملة الصلبان ثم حملة الصور والأكاليل والجوقة الموسيقية ، ووراءهم الكاهــن وبيده آنية البخور وعلى جانبيه وخلفه يسير المشاركون ، ووراء هؤلاء جميعا تتحرك النسوة بتثاقل وكأنهنّ موجة بحرية عاتية ســوداء ينشدنّ بصوت جماعــي أغنية الوداع بنغمة ينكسر لها الفؤاد :

اللـــه معاكـــــــم يا رفاقــــــي يلــــــي نطحتـــوا المقبـــره
إنتــــــو الســـباق وحنا اللحاق يلـــي نطحتـــــوا المقبرة

عند مرور موكب المشيعين بطريقه إلى الكنيسة تُغلق جميع المحال التجارية على طرفي الشارع وينضم أصحابها إلى موكب المشيعين ، بينما يرتل الكاهن صفحات من الإنجيل المقدس ، وعند الوصول إلى الكنيسة يُسجى النعش على طاولة أمام هيكل الرب وتبدأ المراسم والطقوس الدينية الجنائزية :

( تبارك الله إلهنا كل حين الآن وكل أوان وإلى دهر الداهــرين……..)

أيها المخلص أرح نفــس عبدك مع أرواح الصَديقين الراقدين واحفظها للحياة السعيدة التي لديك يا محباً للبشــــر وأيضاً نطلب من أجل راحة نفس عبدك ( فلان ) هذا الراقد ومن أجل غفران جميع خطاياه الطوعية والكرهية لكي يرتب الرب الإله نفسه حيث الصديقون يستريحون

يا من في القديم من العدم جبلتني وبصورتك الإلهية أكرمتني . ولما تجاوزت وصيتك أعدتني أيضاً إلى الأرض التي منها أُخذت .أعدني أيضاً إلى مثالك لتتجدد فيَّ صورة الجمال القديم . مبارك أنت يا رب علمني حقوقك ، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين

أفرحي أيتها الطاهرة يا من ولَدت الإله بالجسد لخلاص الجميع التي بها جنس البشر وقد وجد الخلاص. فليتنا نجد الفردوس بك يا والدة الإله النقية المباركة .

أي نعيم ثَبُت في الدنيا بدون أن يخالطه حزن ؟ ! أي مجــد استقام على الأرض من غير انتقال الكل أضعف من الظل ، الكل أخدع من المنام ، لحظة واحـــدة وجميع هذه الأشياء يعقبها الموت.

فيا أيها المســـــيح أرح الذي اخترته في نور وجهك وحلاوة بهائك ، بما أنك مُحـــب للبشر.

كل الأشياء البشرية التي لا تبقى بعد الموت هي باطلة فلا الغنــى يثبـــت ولا المجــد يصحب صاحبه ، لأنه إذا أتى الموت فهذا كله يفنى ويُباد فلذلك نصــرخ للمسيح الملك الذي لايمــوت

( أَهِلْ يا رب المنتقل عنا لخيراتك الأبدية وأرحه في الغبطة التي لا تشيخ )

هلموا يا إخــوة نعطي هذا الميت القبلة الأخيرة شاكرين اللــه فإنه قد ترك أنسباءه ويذهب إلى القبر عاجلاً غير مهتم بعد الآن بأباطيل الجســد الكثير الأتعاب

فأيــن هم الآن الأقارب والأصــدقاء ها إننا نفتــرق فلنطلب إلى الرب أن يريحه متى شاهدتموني أيها الاخوة والأحباء والمعارف والأقرباء مُلقى ، عادم الصوت وفاقــد النسمة فابكوا عليَّ جميعكم لأنـي كنت في الأمـــس معكم فداهمتني بغتة ســاعة الموت المخيفة . لكن تعالوا يا جميع مُحبيَّ وقبلوني القبلة الأخيرة لأني لم أعد فيما بعد أذهب معكم ولا أخاطبكم بل أنا ماض إلى الديَّان الذي ليــس عنده محاباة حيث يقف العبد والســـيد ، الملك
والجنــدي ، الغنـــي والفقيـــر في رتبة متســاوية ، فيتمجـد كل واحد أو يُخزى بحســب أعماله الشخصية .

لهذا أطلــب إليكم جميعاً متوســلاً أن تبتهلوا بغير فتــور إلى المســـيح الإله من أجلــي كيلا يرتبني بسبب خطاياي في مكان العذاب ، بل يرتبني حيث نور الحياة )

وبعد الانتهاء من مراسم التشييع الجنائزي جرت العادة أن يقف الكاهن قرب النعش ليلقي كلمة تأبينية يذكر فيها مناقب الراحل ويثني على إتمامه رسالته – أو رسالتها – على الأرض بعد تأدية جميع الواجبات تجاه الكنيسة والأسرة وتجاه أبناء مجتمعه ووطنه.

تُلقى نظرة الوداع الأخيرة من قبل ذوي الفقيد على جثمان الفقيد ويختتم الكاهــن قائلاً :
((اللـــه يرحمو ويعوضنا به بســـلامتكم وســلامة الجميع وليكن ذكــره مؤبــدا ))

يُحمل النعش من قبل المشيعين ويمضي الموكــب ( ذكوراً وإناثاً ) وعلى رأسهم الكاهن ليواروا الجثمان في قبره ، وفي السنوات القليلة الماضية طرأ تغير على هذه العادة واقتصرت مرافقة الجثمان على الذكور فقط أما النساء فيرجعن من الكنيسة إلى بيت الفقيد مباشرة دون أن يصطحبن الموكب إلى مثواه الأخير.
وبعد الدفــن يصطف أقرباء الفقيد متجانبين ليتقبلوا تعازي المعزين ، والتعزية تكون مصافحة باليد مع ترديد عبارات منها : الله يرحمو – العوض بسلامتكم – البقية بحياتكم – العوض بسلامة أبنائه وإخوانه وأهله – الله يجعلها خاتمة لأحزانكم

بعد الانتهاء من تلقي العزاء ، يذهب الكاهن وجمع غفير من المشيعين إلى دار الفقيد حيث يصلي الكاهن على المكان الذي كان يُسجى فوقه جثمان الراحل.

أبناء الســقيلبية متضامنون متعاونون على الشــدائد ومتحابون عند المصائب ، وكتعبير عن صدق المشاركة يأتي الأصدقاء والمقربون بوجبات الطعام إلى أهل الفقيد ولمدة ثلاثة أيام متتالية ، ويبقى الناس يترددون إلى بيت أهل الفقيد ليخففوا عنهم مرارة الفراق ، ويشاركونهم المصاب الأليم ويسهرون عندهم حتى ساعات متأخرة من الليل.

وعند بزوغ فجر اليوم التالي تمضي النســوة بأعداد كبيرة يحملن البخور والورود لزيارة قبر الفقيد ، وهناك تغني النساء الأناشيد الحزينة ويتبادلنَّ أطراف الحديث عن مكانة المرحوم في المجتمع وعن محبة الجميع له ، ويذكرون فضائله وحسن خصاله وخلود ذكراه وتعود النسوة من زيارة الضريح قبل شروق الشمس وتستمر زيارة الضريح وإيقاد البخور بجانبه مدة ثلاثة أيام . وفي ذكرى الأربعين ( انقضاء أربعين يوماً على غياب الفقيد ) تُـلصق الدعوات المطبوعة وعليها صورة للمتوفى تدعو إلى المشاركة بالقداس الإلهي المقام من أجل راحة نفس الفقيد.
في الموعد المحدد يجتمع الناس في بيت المرحوم – المرحومة – وتلتف النساء حول صورة للراحل يندبنّ صاحبها ويكثرنّ من ذكر جوانب حياته وآخر أيامه وقد يتحدثنَّ عن مناماتهنَّ ( الأحلام ) وعن رؤياهنَّ كنزير لموت الفقيد وإلى ما هنالك من حكايات تُخفف الشعور بالحزن ، وبعدئذ تحمل النسوة أطباق القُداس – أرغفة سميكة من الخبز المُحلى – وصواني السليقة ( القمح المسلوق ) ويمضين ومعهنَّ جمع كبير من المشاركين إلى الكنيسة ، حيث يستمع المشاركون إلى الصلوات الدينية والابتهالات والدعاء والترحم على روح الفقيد وتخليد ذكراه ، وقد ثلقى بهذه المناسبة كلمات خطابية وقصائد الرثاء وتنتهي المراسم بتوزيع قطع القُداس على جميع الموجودين وكذلك تُوَزع السليقة على الأطفال الأبرياء الذين يُطلَبُ منهم ذكر عبارة :
( اللــه يرحمو أو الله يرحمها ) وعند مرور عام كامل على رحيل الفقيد يُقام قُداس كنسي تُتلى فيه الصلوات والدعاء من أجل راحة نفس المتوفى ، وتنطوي صفحة من ســفر الأحزان لدى أبناء المجتمع السقيلباوي ذلك الســــفر الذي بدأت صفحته الأولى مع هابيل ولن يُغلق ما دامت فوق الأرض تسكن الحياة الموت والحياة ضــدان وكلاهما لازم لأبناء الحياة ونظام الكون.
( كل ابن أُنثــــى وإن طالت ســلامته يوماً على آلـــة حدبــاء محمــــول)

بقلم الراحل الكبير الباحث أ. أديب قوندراق من كتابه (السقيلبية تاريخ وذاكرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *