الهروب من الحقيقة لمحاورة الأطياف ..قراءة في رواية حين مات النهد لحنا مينه

by wisam-mo | 21 يناير, 2020 12:11 ص

لم أبحر سابقاً في بحر ربان الرواية العربية, وبذلك ينطبق عليّ القول أني متأخراً في تعلم العوم في المياه المالحة, فما بالك إذا كانت السباحة في هذه المياه لا تحتاج للتعلّم, فبمجرد أن تطأ شاطئها حتى تغدو كائناً بحرياً من كائنات الماء, ولا يهمّ نوع المكان الذي تسبح فيه, أكان بحراً أم محيط, فكلها تستحيل بقدرةٍ غريبةٍ إلى بحيرةٍ لطيفة الأمواج حلوة المياه, ترى فيه كل ما تحب عينيك أن تراه, وتشعر بجمال أخاذ يفتن الألباب, إنك حينها.. تعرف أنك سبّاح ماهر وفي بحر ربان الرواية العربية, روائي الفرح والكفاح الإنسانيين, روائي البحر… حنا مينه.

 

 


جمعتني الصدفة مع حنا مينه عبر كتاب ورقي, فكانت أول قراءاتي له هذه الرواية (حين مات .. النهد) رواية جميلة يمزج فيها الكاتب بين الخيال والحقيقة لينتج فضاءً سريالياً مميزاً ليعالج حدثاً متكرراً بشكل دائم وهو علاقة الرجل بالمرأة والفرق بينها وبين علاقة الذكر والأنثى.
كامل البهاء هو بطل الرواية رجل أقنع نفسه بضرورة إخراج المرأة من رأسه, فاتخذ العزلة طريقاً, والغابة مستقراً, بعد أن اتخذ قراره الغريب, يدخل الغابة الأولى متوهماً الوصول لوحدته, لكن أطياف النساء التي عرفهن يلاحقنه, فيخرجن من جوف أشجار الصنوبر ليعاتبنه على الجفاء والقرار الخاطئ, ينصب كامل ميزان العدالة في رأسه وينصب نفسه خصماً وقاضياً, ليقنع نفسه بأحقيته في إخراج من يشاء من رأسه, لكنه يفشل في الوصول إلى حقيقة الطبيعة والحياة, ينتقل من غابة إلى غابة علّه يحقق مبتغاه لكنه يفشل مراراً وتكراراً , وأخيراً يختار غابة جميلة فيستعين بشاب قروي ليكن له معيناً, ويرسم في مخيلته الصورة الكاملة للمرأة التي يحب ويرغب, يصف المرأة بكل تكويناتها ومكوناتها, ويسميها جنيّة الغابة, ويطمح أن يسعد بها في النهاية, يبوح لحارسه بأوصافها, فتبدأ رحلة أخرى من محاولة الحارس إغراق كامل في حلم جنيّة الغابة طمعاً باستغلاله, لكنه عندما ييأس من عدم قدومها إليه يصاب بالقنوط, وعندها تظهر سليمى الحبيبة القديمة, والتي كانت الأكثر محاورة له ونقداً لمحاولته طرد المرأة من حياته, ليصل إلى قناعة الحقيقة, وهي أن الحياة نصفها المرأة, ولا يمكن أن يكون هناك ظلام لا يعقبه نور, ولا شمس دون قمر, ولا عقل دون قلب, ولا ذكر بلا أنثى.
باختصار كانت الرواية هي رحلة البحث عن الحقيقة, رحلة الخطاب العبثي في كشف الأخطاء, ونسب الفضيلة إلى النفس دون الآخرين, من الخاطئ؟, وما الخطيئة؟, كثيرة هي الإجابات, و قليلة هي القناعات المنصفة.
رواية جميلة بفضاء غرائبي سريالي جميل أتقن كاتب البحر رسم شخصياته القليلة بدقة, وأجاد بأسلوبه المتقن في خلق عنصر التشويق في الرواية, عبر فكرة قديمة بقالب فريد ومميز, فكانت رحلة جميلة وشيقة
حنا مينه هو روائي الفقراء والبحر في سوريا, عاش طفولة قاسية جداً, فبرزت وأثرت في كتاباته, كتب عدد كبيراً من الروايات, وتحولت معظمها إلى أعمال فنية, تربع على عرش الرواية السورية لفترة طويلة, قبل أن يترجل في 22\ 8 \ 2018 عن عمر ناهز السادسة والتسعين عاماً, أثرى خلالها المكتبة العربية بأجمل الأعمال وأروعها.
اقتباسات:
1- فالحب في كل حالاته, يكون للذات أولاً, ثم يكون لسبب فيزداد الحب بسببه. \ صفحة 28
2- كل إنسان يحب ذاته من خلال الآخر, وهذا ينطبق عليّ وعليك وعلى الجميع. \ صفحة 28
3- نخدع أنفسنا إذا كنّا نحسبها مجرّدة من كلّ أنانيّة, وفي الحب خصوصاً. \ صفحة 28
4- حتى الحب الذي نحسبه نقياً, فيه مقدار من عدم النقاء, ومن الوهم, وخدعة الإخلاص. \ صفحة 28
5- تصوّري حال الإنسان لو لم يكن قادراً على النسيان. \ صفحة 29
6- لا يمكن تغطية فوهة البئر بورق التين. \ صفحة 30
7- الأشياء في هذا الوجود نسبية, فمن أنكر النسبية أنكر الحقيقة, هناك وفاء نسبي, وهناك عدم وفاء نسبي.هناك قبول نسبي, وهناك رفض نسبي, فإذا كان القبول مطلقاً..فأين نسبية الحقيقة في هذا؟!. \صفحة57-58
8- حين ينكشف الوهم, يكون صاحبه أمام مفترق: العقل أو الجنون. \ صفحة 79
9- ولأن الوهم, حين يتمكن من صاحبه, يغدو حقيقة, أو مماثلاً لها تقريباً, فقد انقلب ما هو خيالي إلى واقع.\ صفحة 88
10- فالجحود نكران, ومن ينكر غيره ينكر نفسه, ومن يسلم قياده إلى الشيطان يقوده الشيطان إلى جهنم!. \ صفحة124
11- أن التوبة حتى النصوح منها, لا تصح معها تلاوة فعل الندامة فقط, بل الاتعاظ بما جرى, كي لا تقع في الخطأ, أو تكرره, في الذي يجري. \ صفحة125
12- أن نهدر الوقت, في طلب المحال, فتلك الخطيئة الكبرى. نتعزّى بما نخترع, بينما الذي اخترعته الأرض, أمّنا, في المتناول, ونشيح بوجهنا عنه؟ نخرجه من رأسنا, لمجرّد نزعة مبهمة, كانت في رأسنا؟!. \ صفحة 132
13- إذن كلّ منّا يلعب دوره لحسابه.. هذه هي الحياة, فما الجديد, أو الغريب فيها؟. \ صفحة 136
14- لماذا نخاف الجنس؟ نلفّه بصرة الزاد, ونخاف الحديث عن هذا الزاد؟ الجنس زادنا الآخر, منه نعمة الحياة, لذتها, خصبها, ديمومتها ..لم لا نخرجه إلى العلن ليكون صحّياً, بدل أن ندسه بين جلدنا والعظم؟. \صفحة148
15- لماذا علينا أن نعيش دائماً في عادية الأشياء؟ لا بدّ, لأجل تجدّدنا, من رؤى فانتازيّة, هي التهاويل الملونة التي تزوق رتابة حياتنا. \ صفحة 151
16- الوهم أحياناً, سباحة في بحر أحلام ليست من هذا العالم العتيق, البليد إلى درجة الإملال.. \ صفحة 151
17- أن تكون المرأة حبيبة أفضل من أن تكون ملكة!. \ صفحة163
18- ما من إنسان عاقل بقادر أن يعيش بمفرده, إلاّ أن يكون ناسكاً ..والنسك, بدوره هرب, \ صفحة 164
قراءة ممتعة .. كفاح رزوق

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/11919