الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

التراث وسبل تحقيقه

 

 

 

يعدّ الشغل على التراث وتحقيقه من أهم الأجناس الأدبية وأخطرها ،لأنه معنيّ بتراث أمة عايشت أحداثاً مختلفة ، أثرت بشكل أو بآخر في أسلوب كتابة تاريخها ، وجمع موروثها الفكري والحياتي ولذلك وحتى ينقل التاريخ إلى الأجيال بشكله المنطقي ، وصورته الحقيقية كان لابدّ أن تتوافر في المشتغل على التراث وتحقيقه جملة من الشروط ،يأتي من أهمها :

1- الإيمان المطلق بأهمية التراث ، وضرورة الشغل على جمعه وتحقيقه، وتقديمه إلى الأجيال التي ابتعدت عن موروثها ،وذلك عن طريق الصورة الصادقة الخالية من الشوائب والدسائس والإضافات التي اشتغل عليها بعض المستشرقين بنوايا سيئة أو مشكوك فيها ،لأنها تحجب كثيراً من الحقائق التاريخية التي تشير إلى عراقة هذا التراث وأصالة الأمة التي أفرزته ،ولا هدف في رؤوسهم غير الإساءة إلى الأمة العربية صاحبة هذا الموروث الحضاري.‏

2- الاطلاع الشامل على موروث الأمة عبر عصورها التاريخية القديمة ،والمعرفة الدقيقة لكل حدث من الأحداث التي مرّت بها الأمة ، وكان لها انعكاس ما على كتابة الموروث.‏

3توافر المرجعية الثقافية الواسعة لكل من يشتغل على جمع التراث وتحقيقه ، مع التأكيد على الاختصاص الأكاديمي الذي يؤهل المشتغل على تحقيق الغريب ، وغربلة الدخيل ،وفرز كل ما ليس له علاقة ما بالحدث الذي اشتغل عليه المستشرقون أو الحاقدون على الأمة .‏

4– لا بدّ للمشتغل على التراث أن يرتكز شغله على مكتبة تراثية شاملة تضم أمهات الكتب لأن توافر المكتبة الثقافية الشاملة تشكل مرجعية على قدر كبير من الأهمية ، تساعد الباحث على تحقيق كل ما وقع فيه شك أو التباس ، وهذا ما يفرض على المشتغل على التراث أن يتمتع بالصبر والأناة أو دقة الملاحظة ، والجلد في التنقيب في بطون الكتب ، حتى يردّ الأصول إلى مكانها ويجتث كل ما هو دخيل أو يحتمل الشك وهذا ما يفرض الأمانة في النقل والبحث والتنقيب والصدق في التحقيق، وهما أهم ركنين في تحقيق التراث ومن يفتح أوراق التاريخ وموروثه ، يلاحظ أن معظم ما أورده مؤلفو هذه الكتب ، يعكس طبيعية المرحلة التي كتب فيها هذا الموروث ،وبالتالي فإنّ المتعمق بالماضي وأحداثه ، يرى نوعاً من التوافق بين الماضي والحاضر ، سواء بالأسباب أم المؤثرات وحتى بالنتائج ، ومن هذا المنطلق فإنّ جسور التواصل بين التراث والمعاصرة لم تنقطع أبداً، فالتراث تاريخ أمة حققت ما حققته ضمن أجوائها التاريخية والحياتية والاجتماعية والسياسية .‏

والمعاصرة معايشة زمانية ومكانية لكل ما يجري على مسرح الواقع ، ومن هنا كان التراث والمعاصرة معادلة تاريخية لها ارتباطها الوثيق والموثق بالواقع ومفرزاته ، لذلك لا يمكن أن يكون التراث غريباً ، أو بعيداً عن الحاضر، الذي يعني الحداثة ، والتطوير ،لذلك كانت معظم كتب التراث المحققة من خلال أساليب التحقيق الأكاديمية مؤهلة للتعبير عن حاجيات العصر لاسيما الكتب الأدبية مثل كتب النحو والصرف ،وتاريخ الشعر ،والتأريخ للشعراء العرب القدامى أما الكتب التاريخية التي أرخت لأحداث معينة في فترة سابقة ، وبالنظر إلى بعض جوانب أسبابها ومفرزاتها ، نلاحظ أنها لا تختلف كثيراً عن افرازات المعاصرة التاريخية ، فالعدو واحد ،والأطماع الأجنبية واحدة ، وتكاد تكون أسباب الحروب واحدة ومن هنا يأتي الإسقاط التاريخي بمثابة العبرة والنقد ، والموعظة ، وإن كان العمل على تحقيق التراث ، ظلّ ولفترة طويلة عملاً فردياً ،نهض به أدباء متمكنون من أدواتهم ومرجعيتهم الفكرية والثقافية إلا أنّه لم يعد كافياً اليوم لحاجتنا إلى ذلك الموروث الحضاري الذي يصون أصالتنا ، ويحصّن أجيالنا ،ويقف بوجهه تيارات العولمة المشكوك بأهدافها وغاياتها ، وصدّ محاولات الغزو الثقافي الأجنبي الذي يصلنا عبر وسائل الاتصال الحديثة بصور متعددة وأشكال مختلفة لا تحمل في عسلها غير السمّ الزعاف الذي يجرف شبابنا عن أصالتهم ،ويبعدهم عن تاريخهم العريق.‏

وهذا ما يفرض عملاً مؤسساتياً يشتغل على التراث وتحقيقه، دون أن نغفل دور مجمع اللغة العربية ،ووزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب أو ننسى دور الجامعات من خلال الدراسات العليا التي تكلّف طلابها بتحقيق بعض جوانب هذا الموروث إلّا أنّ هذا لا يكفي لغنى موروثنا وتعدد مصادره وتنوّع موضوعاته لذلك لابدّ من تأسيس مؤسسة ثقافية رسمية مهمتها تحقيق التراث فقط ، تعتمد على خبرات ثقافية وطنية لها حضورها المتميز في هذا المجال ، لأنّ الشغل على التراث يحتاج بالدرجة الأولى إلى الباحث الأكاديمي المختص القادر على غربلة التراث ، وتفكيك الأحداث وإعادة تركيبها وفق منهج أكاديمي قائم على الصدق والأمانة في البحث والتحقيق والتعليق.‏

ومن هنا كانت عملية الشغل على تحقيق التراث مسؤولية كبيرة يجب أن يؤديها محققو التراث بأمانة وصدق حتى يضعوا أمام أجيالنا موروثها الناصع بالشكل الذي يقدّم إضاءة واقعية لتاريخنا العربي الأصيل الزاخر بكل ما هو جميل ،وممتع ،ومفيد.‏

14-8-2011 عن جريدة العروبة الحمصية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *