الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

رجل المواقف و الإيمان : (3من3) من سيرة سيادة المطران جورج كساب

george_kassab

 

 

ليس من منطلق سياسي كان يقول : ” الحياة وقفة و موقف ” و ليس من شكل إعلامي أو إطار اجتماعي كان يتحدّث عن ضرورة اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب .. بل من الضروري موقف العز و الكرامة في كل الظروف .. شدَّد و يشدد دائماً بأنَّه علينا أن نعمل بشرف و نزاهة .. و نطلب لأجل الخير من موقف الكرامة و السمو .. و برأيه مَن يفقد مصداقيته في الطلب و أمانته في الإدارة و سموّه في التعامل و سخاءه في الاستقبال ووفاءه في العلاقات يفقد كرامته .. حتى في التعامل مع المؤسسات الكنسية إن لم يكن الصدق و الوضوح و الشفافية هي سمات هذا التعامل فلن تكون علاقة سليمة و دائمة .. لأّنَّ هذه العناصر هي أساس الديمومة .. و هذا ليس شعار بل نهج و خط عمل اختبره كل الذين أحاطوا به ، و عرفوا تفكيره وأسلوب حياته .. و كل المؤسسات في الداخل و الخارج عرفت عنه هذه المصداقية فصارت أكثر ثقة ليس به فحسب بل بكل ما يحيط به أو يتصل معه .. من الضروري أن نطلب لأجل كنيستنا و مشاريعنا الخيرية و الكنسية ، ولكن علينا أن نحس و نشعر بهؤلاء الذين ساعدونا و أرسلوا لنا المعونة و الدعم سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات  .. و لطالما روى لنا المواقف و المشاهد التي رآها من هؤلاء الخيّرين في بلادهم و الساعين لإيصال الخير لنا  ، و ما يعانون لكي تصلنا مساعدة من هنا أو معونة من هناك .. و هذا الشعور يجعل كل كاهن بل كل مؤمن في هذا الشرق يقدِّر معنى هذا العطاء و قيمته ، و بالتالي يكون أميناً في الطلب وحكيماً في الصرف و الإدارة .

و على ذكر المواقف ووقفة العز التي عبّر عنها مراراً مؤكداً بأنَّ للمواقف ثمن ، و ” مَن أراد أن يكون جمّالاً فليرفع باب بيته  ” .. فالكبير ( يُرجى لفظ الكـَبير بفتح الكاف بشكل واضح على طريقة المطران كسّاب ) لكي يكون كبيراً عليه ألآّ يخشى دفع الثمن مهما كان غالياً و مهما تطلبت من تضحية و سخاء .. ففي مدينة النبك و كنت قد تركتها منتقلاً إلى حماة ، و لكني كنت شاهداً و مرافقاً له حين تدخَّل لحل مشكلة كبيرة  ، فما ما كان منه – و لأجل الوفاق و السلم و الإخاء .. و لأنّه كبير في هذه القيم  – إلا أن حلَّ المشكلة التي تطلبت دفع مبلغ كبير من المال في الوقت الذي كانت الأبرشية تمر بضائقة مالية ، لكنّه و لأجل كرامة الأبرشية ، و كِبَر راعيها ، و إكراماً لمن ينتمي لها ، أخذ الموقف المناسب و دون تردد .. ذاك الموقف الذي سجلته له القلوب و العقول و الأفئدة في النبك و خارجها .. مسلمين و مسيحيين .. أفراداً و جهات رسمية و دينية .. و هذا ليس بجديد منه ، خاصة بما عرف عنه من روح مسكونية مُحِبّة لكل أبناء الكنيسة في كل مكان و بروح إخاء و احترام لكل الأديان و الأطياف الفكرية و المذهبية .. فالمسيحي الذي يُحب .. يحب كلَّ إنسان… فكم من مرة وقف مشجعاً كلَّ لقاء مسكوني داخل الكنيسة .. و كل لقاء إنساني ووطني دخل الوطن و العالم … فحين دار الحديث عن وحدة العيد كان من أول المشجعين و المناصرين لهذه الوحدة رغم كل العقبات و أمام كل الآراء المختلفة معه .. و حين تطلب الوطن تعبيراً عن وحدة أبنائه مسيحيين و مسلمين وقف مع  سماحة مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون معبّراً عن روح الأخوّة و الإخلاص و الإنسانية التي تجمع أبناء الوطن الإخوة في الوطن، والأخوة في الإيمان.. فالإيمان برأيه – و قد عبّر عن هذا الرأي بعبارات متعددة و في مناسبات كثيرة – ” هوالإيمان الذي يغفر ويسامح ولا يحكم ويدين…الإيمان الذي يقبل ولا يرفض…الإيمان الذي يحب ولا يكره ولا يكفِّر…”

و الوطنية برأيه – و قد اشتهر بحبّه لوطنه سورية – هي مسؤولية وواجب بل كما يقول : ” من أقدس مسؤولياتنا… ومن أقدس واجباتنا الروحيّة والوطنية أن نجعل من بلدنا وطناً للتسامح الإنساني و الإيمان الإلهي… وطن الإيمان المنفتح الذي تترسخ أساساته لا على التعصب الطائفي الذي هو أحطّ وأخطر مظاهر التديّن، بل على الإيمان بالله وبالإنسان الحر والكريم والمحبّ..علينا أن نبدع وطناً يكون نموذجاً للخير الروحي لا للخيرات الزمنية وحدها…

وطناً يكون لا مزرعةً للطوائف بل مختبراً للإنسان المؤمن بالله، وطناً يُقال فيه كلما ذُكر اسمُه في الأوطان: وأحسن الدين والدنيا هناك… في سورية…وطناً يتماسك فيه الدين والدنيا، فيصبح أقرب مواقع الأرض من السماء ” .. فسورية في عيني سيادته هي : ” سورية التاريخ … هي سورية اليوم… هي سورية أمس واليوم وغداً وبعد غد… إنها رسالة حب وسلام ورحمة إلى العالم… وهي رسالة إخوة في الوطن… وإخوة في الإيمان وقد عاش أبناء سورية في كل العهود أسمى معاني الأخّوة في الوطن… ولقد عاش أبناء سورية الأخوّة في الإيمان… الواعي والناضج والمنفتح… فهي الأرض التي أشرقت منها المعرفة، ومنها رسم المنطق البشري الحرف، وتكونت الكلمة، ولولا الكلمة لما كان حوار السماء مع الأرض. فالكلمة أصبحت إنجيلاً في المسيحية، وقرآناً في الإسلام..

 فلا عجب إذا كانت سورية سبّاقة في الإخاء و السلام و احترام الآخر نهجاً روحياً واجتماعياً وقومياً وإنسانياً .. نهجاً اختارته شعباً و قيادة و عملت به و له على مرِّ الزمان ، وتاريخنا يشهد بأننا على أرض مقدّسة هي موقع لتجلي الله، فهي مهبط الوحي، ومهد الديانات السماوية… كأنما الله اصطفاها ليّحل فيها العقل والحق والحياة والحب والجمال.” .

رجل الطيبة و الإدارة  :

 يا شعبنا الطيب .. تلك عبارته الشهيرة التي يخاطب بها أبناءه في معظم المناسبات و في أغلب الرعايا .. و الطيبة في أقواله و أفعاله تتجلى في نظرته للآخرين .. و في ثقته بالآخرين .. فهو يرى الطيبة الأمانة و الإخلاص في كل أعضاء المجالس الرعوية في رعايا الأبرشية .. و يراها في كلِّ الناس الذين يتعامل معهم .. و غالباً ما كان يركّز على أن التعامل الطيب داخل الجان و المؤسسات و حتى في التعليم يجب أن يغلب العلم و المحاضرات و الخطط و النظريات .. فما يمكن تحقيقه في مائدة محبة بين أشخاص طيبين أعظم بكير مما تنجزه النظريات و الاختصاصات – دون أن يقلل من احترام الاختصاص و صاحب الاختصاص –  .. و كما يقول مار بولس بأنَّ المحبة تصذّق كل شيء فهو – و رغم ذكائه و حنكته و قدراته و مواهبه في العمران و البناء مثلاً – تراه يعتبر كل إنسان صادق و طيب حتى يثبت العكس ، و إذا كانت النباهة و الحكمة و الوعي تتطلب تدقيقاً و تمحيصاً للأمور و لكن هذا ليس مبرراً للشك و الخبث و التذاكي .. و كم كنا نضحك حين نراه يحاور مهندساً و صاحب حرفة في مجال البناء و الإكساء . و بعد حوار طويل و أرقام و دقة و حسابات على أعلى المستويات و كأنَّ مهندساً يحاور مهندساً أو طيّاناً يحاور طيّاناً .. بعد كل هذا يقول لمحاوره : يا ابني أنت صاحب الاختصاص و أنت الذي لدي العلم و الخبرة أما إنا فقد درست اللاهوت لذلك أترك المسؤولية عليك و الأمر لك .. فيضحك المحاور و الحاضرون .. و على مستوى الإدارة و العمران .. فانطلاقاً من تاريخه الرائع في رعيته زيدل و ما أنجز فيها من موقعه كاهناً لها على مدى ربع قرن ، تابع هذا النهج في رعايته للأبرشية أسقفاً .. ففي بداية إدارته للأبرشية رسم الخطوط العريضة على المستوى المالي و العمراني و الخدمي .. أشرك الكهنة و المجالس في المسؤولية للخروج من الوضع المالي المتدني في بداية أسقفيته .. حدد بوضوح مسيرة العمل – رغم ما اعترضه من عدم الفهم حيناً و سوء الفهم أحياناً ، من بطء الفهم مرة أو اختلاف التفكير مرّات إلى أن أثبت سداد نظرته و صوابية رؤيته بتعاونه مع معاونين آمنوا معه و عملوا معه بإخلاص إلى أن خرجت الأبرشية من الضائقة و بدأت مسيرة الكفاية و الاعتماد على الذات و عدم العيشة الحائرة المتقلبة المتكلة فقط على الحسنات و الهبات الخارجية و الداخلية دون أن نقلل من أهميتها و قيمتها و دورها و لكن في الدعم و رفع المستوى و ليس في أساس العيش و الحياة.. احتاج الأمر منه تغيير ذهنية في مجالس الرعايا ، و تعديل صيغة تعامل في الشؤون المالية و الرعوية عند الكهنة .. و توضيح الهدف عند معاونيه و أمام شعب الأبرشية الطيب .. و ..و .. و لكن بنعمة الرب و بهمة و بإخلاص كهنته و معاونيه تجاوزت الأبرشية حالتها السابقة .

و هو رجل إدارة بامتياز .. و صاحب ” كاريزما ” في هذا المجال ، فقد استطاع توحيد الرؤى و تقريب القلوب عند الكهنة و المؤسسات في فترة زمنية قصيرة بعد مرحلة حرجة سابقة .. و استطاع تعزيز قيمة الكاهن و حضوره في رعيته و توفير السبل لإنجاح مهمته كوكيل للأسقف في الأبرشية دون أن يُبخس العلمانيين حقهم ، فهو مع العلاقة السليمة بين الكاهن و الرعية .. و بميزان الذهب ضبط العلاقات بين الإكليروس و العلمانيين و مهمة و دور كل مؤمن في تسيير أمور الكنيسة .. و سعى ما أمكنه توفير جو المؤسساتية و الحوار البّناء لمصلحة البنيان العام .. لم يسمح بكسر هيبة الكاهن ، كما لم يقبل بتمييع دور العلماني .. و تشهد له أغلب الرعايا مواقف كبيرة  شكلت مفصلاً هاماً في مسيرة الكاهن و الشعب في الرعية  ، و هذا ما كان لولا محبّته و حنكته الإدارية و موهبته .. فلا أنسَ يوم وقف مؤازراً لمسيرة النادي الصيفي بحماة في بدايتها و التي لم يكن يراها – في ذلك الوقت إلاّ الكاهن و المطران – و فعلاً نجحت التجربة و دخل المعارضون أو غير المهتمين في المسيرة بعد ذلك  دون مشكلات و دون تقليل من كرامة أحد أو رأي أحد .. حتى في توزيع المهام بين الكهنة ، فقد أعطى لكل كاهن مهمة بحسب موهبته و قدراته ، بل و زرع في عقولهم فكرة جميلة هي :  ( لا أحد يأخذ من درب أحد و لا شخص يأخذ مكان شخص لأنَّ لكل كاهن موهبته الخاصة التي وهبها الله له ، و لكل موهبة مخلصة توضع في خدمة الله مكانة لا يسلبها إنسان ) و بما غاية الجميع هي خدمة الرب فلا خوف من الأنا و الصراع بل ما أحلى التنافس في الخدمة و الصالحات كما يقول مار بولس .. حتى في علاقاته مع أقرانه الأساقفة فقد أبدع في أن يكون رجل الوفاق و التوازن و المحبة ، و ساهم مع رؤساء الكنائس الأرثوذكسية و الإنجيلية و الكاثوليكية  في حمص في عيش ( شهر عسل ) كما يقول سيادته من خلال لقاءات محبة و طيبة و تعاون لخير جسد المسيح المنظور .

أليست الطيبة هي الترفع عن الصغائر و السمو عن المنفعة الشخصية ..؟ لطالما أكد قولاً و فعلاً ترفـَّعه عن الأرباح الدنيوية طلباً لمكافأة ينالها من داخله و أمام نفسه و أمام ربِّه … حتى في علاقته مع المسؤولين الزمنيين يدأب أن تكون علاقة شركاء الخدمة في الوطن لكل أبناء هذا الوطن .. لا يعمل على رفع مستوى هذه العلاقة إلى أكثر من المستوى الذي يحفظ لهذه العلاقات سموّها و تجرِّدها عن أي منفعة أو مصلحة غير المصلحة العامة ..

ختام :

في بداية أي شهادة حياة يبرز السؤال : لماذا تبدو شهادات الحياة و كأنّها تعداد للمناقب و الخصال المميزة عند الشخص ..؟ لماذا يصل تصويرنا لمَن نحب إلى مستوى القداسة ..؟ هل عين الحب لا ترى المعايبَ كما يقول الشاعر ..؟ أما أنَّ الحبَّ حين يرفرف في سماء التعبير يستعير أجنحة الخيال فتصبح المشاعر و العلاقات و التعابير أقرب إلى الخيال و الأسطورة ..؟ كلُّ هذه الأسئلة تسقط حين يبوح القلب بجمان أحاسيسه ،  و يستخرج من ذاكرة الروح حكايات حبٍ و دفء ٍ و فرح … و إذا كان كلام القلب إلى القلب يصل .. فكلام القلب الممتلىء حباً لا بدَّ أن يتوهج بعطر السمو إلى المستوى التقديس .. و لا بدَّ أن يحلِّق متجاوزاً حدود اللغة و التفكير و المنطق ..

و أخيراً أسأل نفسي : لماذا يشعر كلُّ إنسان بعد أن يختم كلامه عمَّن يحب بأنّه قصَّر في حقه و لم يفِهِ قدر قيمته و حضوره المطبوع في ذاكرة القلب ..؟ بهذا السؤال أختم بأنّي في الحقيقة اكتشفت بأنَّ الزمان و التعبير و الكلمات رغم عظمتها كجسور تواصل و لقاء هي عاجزة فعلاً حين يكون الحب بحجم الحب الذي أحمله في قلبي .. و أكثر عجزاً حين يكون الشخص الذي أتحدّث عنه هو بقدر سيادة المطران جورج كسّاب حفظه الله و أدامه شاهداً و مثالاً للحب و العطاء و الخدمة ..

و لأنَّ الحياة موقف .. و الموقف يصنعه شخص .. أقول دمت لنا شخصاً و موقفاً و رسالة و راعياً أمينا ً.. لك كلّ الحب .. و كلَّ الوفاء .. و كلّ الدعاء .. ونعمة الرب تظللك دائماً . 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

التعليقات: 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *