الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

ماذا سيبقى من شعرنا الحديث؟

jawdat-fakhrdeen

 

 

هل سيبقى الكثير من شعرنا العربي الحديث؟ هل سيكتب – ولو للقليل منه – ان يشكل حلقة سياسية في سلسلة التطور التاريخي للشعر العربي؟ هل وصلت تجربة الحداثة الشعرية العربية الى نهاياتها؟ هل حان الوقت لطرح مثل هذه الاسئلة؟ وهل هنالك من يستطيع التصدي لها؟

في هذه المقالة ملامسة للاسئلة الآنفة الذكر، وفي البداية أقول ان الكميات الهائلة من الكتابات التي ظهرت باسم الشعر الحديث، على مدى اكثر من نصف قرن مضى، لا تتناسب أبداً مع النوعيات الجيدة القليلة جداً. بل النادرة. فكيف نبحث عن ذلك الجيد النادر؟

وهل نجد في الدراسات النقدية والمقالات والتنظيرات التي واكبت شعرنا الحديث عونا لنا في ذلك البحث؟

أظن ان المهمة صعبة للغاية، فالمقاييس التي من شأنها ان تساعد على التمييز بين الجيد والرديء شبه غائبة، هناك حالة من الفوضى والاختلاط والتشوش، وقارئ الشعر لا يجد ما يجذبه او يضيء امامه الطريق، ولهذا، فإن هذا القارئ شبه غائب هو الآخر، أين ذلك الجيد النادر في شعرنا العربي الحديث؟ هل هو مطموس او غير ملحوظ؟ كيف نستطيع ان نضعه في الواجهة. وفي متناول القراء؟ من جهتي، أميل الى القول ان ذلك الجيد النادر طغت عليه ظاهرتان، جعلتاه كالمطموس، او تركتاه مختلطاً بالرديء او العادي من الشعر، بحيث لا يستطيع القارئ ان يتبينه، وان يهتدي الى مزاياه، وسوف أتكلم في ما سيأتي عن هاتين الظاهرتين:

الظاهرة الأولى تتمثل بالتعاظم (الكمي) في كتابة الشعر، او بالاحرى في الكتابة باسم الشعر، فليس هنالك اكثر من الذرائع التي يتخذها الكتاب للانخراط في ميدان الكتابة الشعرية والكثيرون من هؤلاء الكتاب يحسبون ان التحلي بمقومات معينة ليس ضروريا، وانما التخلي عن بعض هذه المقومات هو الضروري، كثيرون من كتاب الشعر عندنا يعرفون مدى ضعفهم في اللغة، ولا يجدون ضيراً في ذلك، بل يتباهون به أحيانا وكثيرون منهم لا يعرفون شيئاً عن أوزان الشعر العربية، ولا يجيدون حتى قراءة الشعر الموزون ثم لا يجدون ضيراً في ذلك، وانما قد يعدونه مظهراً من مظاهر التغيير او التجاوز.

بسبب مما تقدم، تكاثرت الادعاءات وانكمشت الكفاءات، وانعدمت الضوابط الفنية، واصبحت كتابة الشعر في غاية السهولة، خصوصا لدى المدعين او المتطفلين، وما اكثرهم هنا، لا أريد ان يفهم قارئ هذه المقالة انني ادعو الى وضع حدود او مقاييس نهائية للشعر، لا أريد ذلك، وانما أرمي الى القول ان كتاب الشعر ينبغي لهم ان ينطلقوا من امتلاك واضح لأدوات التعبير، ومن استيعاب عميق للتراث لكي يستطيعوا – بعد ذلك – ان يغيروا وان يرتادوا آفاقا جديدة، وان يبتكروا طرقا جديدة، وذلك بحرية كاملة.

في هذا الوضع، الذي تسوده الفوضى، وتطغى عليه الرداءة والادعاء والتطفل والاستسهال، كيف يمكن للجيد النادر من الشعر ان يشق طريقه لكي يتصدر المشهد؟

الظاهرة الثانية تتمثل بالتعاظم “الكمي” في كتابة النقد، او بالاحرى بالكتابة باسم النقد، فليس أكثر من الدراسات النقدية التي تناولت هذا الشاعر او ذاك، مدعية الاخذ بمنهج او بآخر، الا ان هذه الدراسات لم تسهم – في الغالب – في ايضاح المشهد الشعري، بقد ما ساهمت في تشويشه، لأنها هي في ذاتها مشوشة او ضائعة، لقد قامت الحركة النقدية التي واكبت شعرنا العربي الحديث في الخمسين سنة الماضية على النقل والاقتباس في أحسن الأحوال، قامت على الاقتداء بنظريات ومناهج غربية، وافتقرت الى الرهافة والقدرة على النفاذ في تناولها للنصوص الشعرية.

لقد كان التنظير النقدي، في جانب كبير منه، نوعا من الهذر او العبث، فهو تنظير للشعر لا يستند الى تحقق شعري، وكثير من الكتاب كتاب الشعر حسبوا انهم يحققون الشعر اذا ما حاولوا (ترجمة) النظريات في نصوصهم، اي اذا ما حاولوا الاقتداء في كتاباتهم بهذه النظرية او تلك، فجاءت النتائج هجينة او رديئة او مضحكة. ولما كانت الحركة النقدية ضعيفة او قاصرة فإنها لم تهتد الى التمييز بين الحقيقي والمفتعل، وأهدرت الجهود في الكلام على  مستويات “ثانوية” في النصوص الشعرية، فقد انصبت معظم الجهود النقدية على استنطاق الشعر، أي على استخراج ما يقوله، على مواضيعه، وليس (الكيفيات) او (الطرائق) التي تناول بها تلك المواضيع، وقد حدث في مجال النقد ما حدث في مجال الشعر، من دخول الكثيرين ممن لا يملكون الحد الادنى من المقومات الضرورية للمهمات التي يتصدون لها.

هاتان الظاهرتان اللتان توقفنا عندهما، واللتان ترتبطان بوضع ثقافي عربي شامل، يعاني من مختلف انواع المشاكل، ساهمتا الى حد بعيد في طمس الجيد القليل جدا، او النادر، في شعرنا العربي الحديث، هذا الشعر الذي كان لابد له من الظهور، تعبيرا عن الرغبة في التغيير، وفي توسيع آفاق القول والفكر، إذن، سيبقى شيء من شعرنا الحديث، وان كان هذا الشيء قليلا او نادراً، ولكن لا يكفي ان نقول ذلك، علينا ان نجترح الوسائل الكفيلة بالكشف عنه، وبتحريره من طغيان الرداءة والفوضى.

جريدةالخليج 9/11/2005  -الامارات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *