أورهان باموك تخلى عن الهندسة من أجل الكلمات ليقطف نوبل

by tone | 31 أغسطس, 2013 10:54 م

يسلسلسي[1]

 

 

 

لا أحد بعد استطاع رسم ملامح ذاك الروائي التركي الذي غادر الهندسة المعمارية الى الكلمات، أو (فن الخيبة) حسب رولاند بارت، لحظة تلقيه نبأ انضمامه الى عظماء نوبل أمس الاول.

 

على الاقل ماذا قال لابنته الوحيدة في شقتهما بعد أن نزل عليه الخبر أشهى من عصير رمان منعش، هو الذي واجه الصدمات تلو الصدمات بثقة الذي لايغادر مكانه، منذ أن وقف بجرأة ضد فتوى الموت التي اصدرها الخميني على الروائي سلمان رشدي، وحتى جرأته بانتقاد أتاتورك (المقدس في بلاده)!

 

لهذا السبب لم تترجم أعماله الى الفارسية، كما يقول( لقد حدثني ايراني متزوج من سيدة تركية ان رواياته على منضدة أعلى رقيب في الحكومة الايرانية وهي ممنوعة اسوة بروائيين أموات)

 

وحدها صحيفة سفينسكا داجبلات السويدية نقلت عنه كلاماً اشبه بتحصيل حاصل يعبر فيه عن سعادته بنيل جائزة نوبل، محاولاً (التعافي من هذه الصدمة) يعني صدمة الحصول على أكثر من مليون دولار!!!

 

أورهان باموك سيحضر حفل توزيع الجوائز، على عكس الشيخ النوبلي الرائع والمخلص لقناعاته هارولد بينتر العام الماضي، الذي فضل ارسال كلمة متلفزة فضح فيها العمق الآسن لعالم يجمع الحرب والحرية في موقع واحد كما يحدث الان في العراق.

 

باموك لم يغادراسطنبوله، الا نادراً، هو البرجوازي، الذي عاش حياته مع ام مطلقة ، درس في مدرسة علمانية امريكية في مدينته وانطلق الى الجامعة ، بعد ثلاثة اعوام من دراسة الهندسة المعمارية كانت الاحلام تسيطر عليه بأن يصبح ممثلا، دار قوس أتجاه حياته باصرار صوب الكلمات، الكلمات وحدها، ومن شقته الاسطنبولية كتب رواياته.

 

الاكاديمية السويدية في اعلانها، كما جرت العادة كل عام ، انتقت نصها باستعارة ايحائية لفائز يستحق الجائزة بقناعة النقاد على الاقل لانه متسق مع ذاته ، قالت عن الروائي التركي في بحثه عن روح مدينته الحزينة اكتشف باموك رموزاً جديدة لتصادم وتضافر الحضارات .

 

وأضافت الاكاديمية ان اروع اعماله هي كتابه الثالث (القلعة البيضاء) وهي قصة تاريخية تدور حول العلاقة بين عبد من مدينة البندقية والسيد الشاب الذي اشتراه والتشوش التدريجي لهويتيهما.

مؤكدة ان باموك في كتاباته غالبا ما يتعامل مع فكرة الذات والثنائيات وهو ما ظهر في في عمل اخر وهو (الكتاب الاسود) وفيه تفتش الشخصية الرئيسية اسطنبول بحثا عن زوجته واخيها نصف الشقيق الذي سوف يتبادل هويته معه في وقت لاحق.

 

ويركز باموك الذي كانت افضل رواياته مبيعا هي (اسمي أحمر) و(ثلج) في عمله على الصدام بين الماضي والحاضر والشرق والغرب والعلمانية والاسلام وهي مشاكل على قدر كبير من الاهمية في مسيرة تركيا نحو التطور.

 

عائلة تشبه رواياته

 

ولدَ أورهان باموك عام 1952 وكَبرَ في عائلة مشابهة لتلك التي يَصِفُها في رواية (جودت بك واولاده) أو(الكتاب الأسود) في أحدى الضواحي الارستفراطية العتيقة من اسطنبول .

 

منذ طفولتِه حتى عُمرِ 22 عاماً كرّسَ حياته بشكل كبير لصِباغَة حُلِمَ أن يُصبحُ فناناً. بعد التَخَرُّج مِنْ المدرسة الامريكية في إسطنبول، دَرسَ الهندسة المعماريةَ في جامعةِ إسطنبول لثلاث سَنَواتِ، لكنه فضل التَخلّى عن طموحَه أَنْ يُصبحَ مهندساً معمارياً. ليكمل دراسته في الصحافةِ مِنْ الجامعةِ نفسها .

 

وعمل باموك في الصحافة منذ أن كان عمره 23 عاماً، بعدها اتخذ القرار الذي اوصله الى مجد نوبل عندما تخلى عن كل شئ من أجل الكلمات ، فصار مكانه المفضل شقته حيث يبدا العمل منذ العاشرة صباحاً وحتى السابعة مساء كل يوم.

 

وكما توقع يوناس اكلسون الناشر لدى دار بونييه، احدى ابرز دور النشر في السويد، ان الشيء الوحيد الواضح جدا هو ان ادب الشهادة الواقعية يلاقي نجاحا كبيرا.

 

لكن بالنسبة اليه فان الشاعر السوري ادونيس والتركي اورهان باموك هما من الاوفر حظا ايضا معبرا ايضا عن رغبته في ان ينال الياباني هاروكي موراكامي الجائزة.

وقال لوكالة الصحافة الفرنسية قبل يوم من اعلان الجائزة غالبا ما نعتقد ان الكتاب القادمين من مختلف المناطق التي تشهد حروبا يمكن ان ينالوا الجائزة مشيرا الى ان الاسرائيلي عاموس عوز يبدو هذه السنة مناسباً جداً.

ويقول هذا الناشر ان منح الجائزة للمجري ايمري كيرتيس عام 2002 ثم للجنوب افريقي جي.ام. كويتزي عام 2003 يكشف اهتمام الاكاديمية وخصوصا سكرتيرها الدائم هوراس انغدال بهذا النوع من الادب الذي يشهد على الواقع.

 

لكن الجائزة توجهت أخيرا للكاتب الذي أجبر على كبح الذكريات ليظل ثمة ما يطفو منها.

 

صدرت روايه أورهان باموك الاولي (جودت بك واولاده) عام 1982 تلتها عام 1985 روايته التاريخية (القلعة البيضاء) ثم (الكتاب اسود) وهي الرواية الاكثر رواجا له في تركيا يصف فيها رجلا يبحث بلا هوادة عن زوجته طوال اسبوع في اسطنبول المكسوة بالثلج والوحول.

 

ومن رواياته (اسمي احمر) التي تتضمن تأملا مرهفا في المواجهة بين الغرب والشرق داخل الامبراطورية العثمانية في نهاية القرن السادس عشر وقد ترجمت هذه الرواية الى الفرنسية وصدرت مثل سائر رواياته الاخرى في فرنسا عن دار غاليمار وحصلت على جائزة افضل كتاب اجنبي في فرنسا عام 2001.

 

واصدر اورهان مؤلفات اخرى مثل (منزل الصمت 1983) و(الحياة الجديدة 1994) التي باعت 200 الف نسخة في بلده، وروايته (ثلج 2002) تتناول التعصب الديني في المجتمع التركي .

 

أما كتاب الأحدث (إسطنبول) فهو عمل شاعري يصعب تصنيفه يَدْمجُ مذكراتَ المُؤلفَ المبكّرةَ حتى عُمرِ 22 عاما، مع كتابات استطلاعية حول مدينةِ إسطنبول، وصور مِنْ ألبومِه الخاصِ، ثم لوحات للمستشرقين والمصورين الأتراكِ.

 

باموك مخلص لمدينته

 

باستثناء ثلاث سَنَواتِ عاشها في نيويورك، قضى أورهان باموك كُلّ حياته في الشوارعِ نفسها التي ولد فيها وشقته التي يكتب فيها منذ ثلاثين عاما جعلت رواياته تترجم الى أربعين لغة.

 

يساله المحرر الادبي في صحيفة الغارديان أن كانت تزعجه أو تغريه المقارنة أو التأثر الى حد ما ببورخيس؟

 

يبتسم التركي ذو القامة الفارعة وكأنه أحد اعمدة اسطنبول الرومانية (بالطبع، في وقتٍ ما يُنزعجُ أيّ كاتب عندما َيُقَارنُ بكاتبِ آخرِ ، لكن هناك بَعْض الحقائق في المقارناتِ لاتصل الى حد التماهي).

 

يَقُول أورهان باموك ُ بأنّه كَانَ المدافعَ الأولَ عن رواية (آيات شيطانيةِ) لسلمان رشدي في بلد أسلامي، لكنه يَعترفُ بأنّ قضيةَ سلمان رشدي رُبَما أَثّرتْ على ايقاظ دوافع اجتماعية في البلدان الاسلامية. ( ثمة العديد غير رشدي في أجزاء من العالمِ، هناك من يعيش التهديد نفسه الذي يلاقيه رشدي في بعض الولايات التركية ، أنها إحدى أكبر المنتهكين لحريةِ التعبير، كما في نايجيريا أَو الصين).

 

يعترف باموك بأن القيود السياسية على الرواية بسيطة في بلاده، ولايمكن أن تصل كما كانت في الاتحاد السوفيتي مثلاً، فالروائي لا يستطيعُ إنتِقاد الجيشِ التركيِ أَو أتاتورك، أو أن يتناول حياة المعتقليين السياسيين بشكل واضح.

 

إنّ الحياةَ الجديدةَ في تركيا نوع من الرواية عند أورهان باموك كما هو الحال مع بطل أحدى رواياته الذي يصطحب محبوبَته (جنان) عبرالاقاليم التركية لنكتشف أن باعةَ اللبنِ ينافسون أكشاكِ باعة الكوكا كولا!

 

واجه الروائي التركي الذي نال جائزة السلام قبل جائزة نوبل التي يقدمها اتحاد الناشرين الالمان كل سنة، غضب القوميين الاتراك لدفاعه عن القضيتين الارمنية والكردية في بلاده.

 

وقال الكاتب المولود في عائلة بورجوازية مؤيدة للثقافة الفرنسية ، حين نحاول كبح الذكريات، ثمة على الدوم ظل منها يعود ويطفو، انني ذاك الظل الذي يعود.

 

ولم يغادر الكاتب فعليا الحي الذي امضي فيه طفولته في قلب اسطنبول القديمة الا للقيام برحلتين طويلتين الي الولايات المتحدة.

 

واعتبر اتحاد الناشرين الالمان الذي يكرم كل سنة كاتباً من العالم ملتزما بالسلام انه من خلال اورهان باموك، تكرم الجائزة كاتبا يقتفي اكثر من أي شاعر معاصر اخر آثار الغرب التاريخية في الشرق واثار الشرق التاريخية في الغرب.

 

ولم يوارب اورخان باموك اطلاقاً في مقابلة اجرتها معه صحيفة تاغزانتسايغر السويسرية في شباط (فبراير) 2005 وقال بوضوح قتل ثلاثون الف كردي ومليون ارمني في تركيا. لا احد تقريبا يجرؤ على التحدث عن الامر باستثنائي انا، والقوميون يكرهونني من اجل ذلك.

 

ورد مسؤول في الشرطة علي هذا التصريح باصدار امر بمصادرة كتبه واتلافها.

 

وعلق فاروق سن مدير مركز الابحاث التركية في ايسن (المانيا) لدى اعلان فوز باموك بجائزة السلام في 22 حزيران(يونيو) الماضي يمكن ان يكون هناك اختلاف في وجهات النظر، لكن الجميع في تركيا يقرأون رواياته.

 

واعتبر انها جائزة حساسة ستكون لها اصداء قوية.

 

دعوة الى الحرية والانفتاح

 

وباموك من كبار الداعين الي انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي.

 

وقال انه بالرغم من كل الانتقادات الموجة لتركيا، فانني اؤيد انضماما تاما الى الاتحاد الاوروبي.

 

وسبق لاورهان باموك أن دافع في موسكو عن حرية التعبير في تركيا حول ملف الابادة التي ارتكبت بحق الارمن في عهد الامبراطورية العثمانية، داعيا بلاده الى مزيد من الحرية والانفتاح.

وقال الروائي خلال مؤتمر صحافي: علينا نحن الاتراك ان نكون قادرين على التحدث في كل ما حصل للارمن في عهد الامبراطورية العثمانية، انها مشكلة تركية بالمقام الاول اكثر من كونها مشكلة دولية، انها مشكلة تتعلق بحرية التعبير والديموقراطية والمجتمع الليبرالي.

 

واضاف باموك الذي زار روسيا للمرة الاولى للترويج لكتابه الاخير (اسطنبول، الذكريات والمدينة) الصادر اخيرا بترجمة روسية آمل ان تصبح بلادي اكثر حرية وانفتاحا لتتمكن من التحدث بدون خوف عن هذا الملف.

وكان الاديب الحائز جائزة ميديسيس الادبية الفرنسية للاجانب عام 2005 عن كتابه (ثلج) والعديد من الجوائز الدولية الاخرى معرضا لعقوبة السجن لمدة تتراوح بين ستة اشهر وثلاث سنوات بتهمة اهانة الامة التركية.

وباشر القضاء التركي ملاحقات بحقه بسبب تصريحات ادلى بها حول مجازر الارمن، غير انه عاد وتخلى عنها فيما بعد.

 

وقرر القضاء التركي عدم محاكمة باموك على تصريحاته بشان المذابح التي تعرض لها الارمن في عهد الامبراطورية العثمانية، متراجعا بذلك عن محاكمة كان يمكن ان تسبب احراجا للحكومة وتنسف تطلعات تركيا للانضمام الى الاتحاد الاوروبي.

 

ورحبت بروكسل على الفور بهذا القرار.

وقررت المحكمة الجنائية في اسطنبول المكلفة محاكمة باموك عدم ملاحقته في غياب اذن صريح من وزارة العدل اعتبرته ضروريا.

 

واعتبرت وزارة العدل في رسالة وجهتها الى المحكمة ان الامر يعود اليها في ان تقرر ما اذا كانت تريد محاكمة المتهم معتبرة بذلك عدم وجود داع لمحاكمة باموك.

 

واعتبر المفوض الاوروبي لتوسيع الاتحاد اولي ريهن ان المحاكمة ستكون بمثابة الاختبار لتركيا.

وهدد النواب الاوروبيون الذين حضروا في اسطنبول اول جلسة من هذه المحاكمة بوقف المفاوضات بشان انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي.

 

واتسمت الجلسة الاولى بالصخب وتعرض خلالها الاديب الى السب من طرف متظاهرين من

اليمين المتطرف وصلوا حتى باب قاعة المحكمة واتهموه بخيانة الامة التركية.

 

وكان الاعلان عن ملاحقة الكاتب جاء اثر شكوى رفعتها مجموعة من المحامين القوميين امام محكمة اسطنبول.

 

هل يأتي يوم يتفرغ فيه الكاتب لكتابته أم هو موعد لا يأتي أبداً؟

 

الفرنسي بيار بونار (1867 1947)

ما هو بالنسبة لكلّ كاتب الحلم البعيد، الذي لكثرة جماله يبدو مستحيلاً؟

لا مجال للخيارات. إنه حلم التفرّغ للكتابة.

معظم من تسمعهم وتراهم يتحدّثون عن هذا الحلم وينتظرون موعده، تلمح في عيونهم ظلّي أمل براحة أبدية وفرح خالد، لا يخلوان من تنهيدة أسى تظهر أن ذاك الموعد، لكثرة جماله، قد لا يأتي أبداً.

 

يقول أحد رواد قصيدة النثر، متحفظاً على ذكر اسمه، بينما هو يرتخي في مقعده، مستدعياً النوم ليخطفه إلى حلمه. لكنه يستدرك أن عليه العمل من دون كلل لتحقيق هذا المسعى. هكذا يكون الثمن أغلى مما نخمّن. شقاء العمر لأجل سنوات أو شهور أخيرة نتفرّغ فيها لهوايتنا وشغفنا ونحن لا نضمن أصلاً إن كنا سنحصل على هذه الشهور والسنوات من جهة، أو إن كنّا سنحتفظ، من جهة أخرى، بالتعلّق ذاته بهذا الشغف.

 

وإن كنا لا نضمن لون ومستوى الكتابة التي سنكتب، حينها، ولا نعرف إن كان نبع قلمنا سيجفّ أم لا، وهذا ما لا نعترف غالباً به إن حدث، فإننا لا نتنازل عن حلمنا وكأنه خلاصنا والهدية السماوية.. لكن على الكتّاب أن يسألوا عن موقع ما كتبه أسلافهم في مراحل تقاعدهم بين مجمل انتاجهم، هل كان دوماً انتاج مرحلة التفرّغ أفضل ما انتجوه؟ سؤال قد لا يعني الكثيرين الذين يستعيضون عنه بأسئلة الانتظار والتخطيط وفبركة الأحلام وهي أكثر ما يجيدون.

 

إن سألنا عن مرحلة تقاعد الكاتب، تصوّره لها وأين يفكّر أن يقضيها، يقفز شعور بالفزع الى عيني سامع السؤال، فكلمة تقاعد بحدّ ذاتها كلمة مفزعة، توحي مباشرة بالشيخوخة وأمراضها وكآبتها، لكن برغم فزعه منها يقول الروائي السوري خليل صويلح: >.

 

أما الشاعرة اللبنانية جمانة حداد فلا يسعها أن ترى نفسها <> عندما تفكّر في نفسها بعد ثلاثين أو أربعين عاماً، أي داخل الإطار التقليدي الذي يرافق فكرة التقاعد: جالسةً في سكينة الظل على مقعد خشبي ما في حديقة ما تطعم العصافير وتقصّ على أحفادها حكايات حالمة، <>.

 

أول ما يخطر للشاعر المصري أشرف أبو اليزيد هو التوقف عند المفردة بذاتها: <>.

تقاعد مبكر

للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت حكاية أخرى مع الإبداع، تختلف قليلاً عن السائد: <<بدأتُ التقاعدَ بالفعل منذ نحو خمس سنوات وأنا في قمة عملي الوظيفي وعلى شفا اعتلاء إحدى الدرجات العليا وظيفيّاً وأنا بعد في الثلاثينات من عمري. تفرغّت تفرغاً تاماً دون أي ارتباط مهنيّ أو حياتيّ أو إنسانيّ حتى أنجزت حتى الآن سبعةَ كتبٍ بين الشعر والترجمة والنقد. بدأتُ كتابة الشعر منذ صباي الأول ولم يكن مسموحًا لي، بمعرفة العائلة البطريركية، بأن أنشر كتاباتي، أو حتى أن أقرأ في شيء خارج نطاق الكتب المدرسية، لكنني كنت أقرأ رغم هذا. ووقتها، للأمانة، أنا أيضاً لم أكن أفهم ما معنى أن يكتبَ المرءُ شعراً ثم يعرضه على الآخرين.

 

لذا كنتُ أكتب وأمزّق ما أكتب. كان مفهومي عن الحياة أكثر صرامةً وأحاديةً وتوحّداً للحدّ الذي لم أر الحياة إلا من ثقب الاستذكار والتفوق الدراسيّ ثم العمل وحسب. استغرقتني الدراسة الصعبة الشاقة في كلية الهندسة، ثم استلبني العمل مهندسة معمارية في أحد أكبر المكاتب الاستشارية بمصر. إلى أن أفقتُ ذات صباح لأشعر بأنني أسير في طريق لم أختره، بل اختير لي، وأنني أركض في سباق لن أفرح بكأس تنتظرني في نهايته الخ. وكان القرار العاصف الذي أطاح بأشياء كثيرة. تفرّغت كليّةً للأدب وأنشأتُ أطبع ما تراكم من قصائد وترجمات. لهذا فإن الخطّ البياني لحياتي الأدبية معكوسٌ مقارنةً بنظرائي من الكتّاب الذين بدأوا النشر في مقتبل حيواتهم. لهذا فأنا بالفعل أحيا مرحلة تقاعدي وتفرّغي التامّ للشعر. لا أفعل شيئاً سوى القراءة والكتابة والتأمّل. أشتغل على عقلي لأعيد بناء النصفِ الأدبي فيه، الذي كان طمرَه وحاول محوَه النصفُ العلميّ الناتج عن دراستي العملية. لذلك فأنا أشهدُ تجربةً طريفة وممتعة نتيجة الجدل والسجال القائم في عقلي طوال الوقت بين <> و<>. وتجلى ذلك بالفعل في أشعاري كما لاحظ النقّاد>>.

 

بينما يستعدّ الصحافي راجح خوري لإصدار ديوانه الشعري الأول وهو ما قد يفاجئ قراءه الذين اعتادوا مقالاته السياسية يجد في السؤال عن <> مناسبة ليعترف بأن آخر ما قد يقوم به في تقاعده هو الكتابة السياسية: <<أعتقد أننا نقنع أنفسنا دوماً بأن من المبكر الحديث عن هذا الأمر. أما وقد سئلت عنه فأرى وأنا الفلاح المقتنع بأن الحقيقة الأساسية هي <> وأنها أمنا الحقيقية، وأنا ابن الجنوب والكفير، أحنّ الى ضيعتي كثيراً وأتمنى أن أمضي مرحلة تقاعدي فيها، أن أقترب من الطبيعة، من الزراعة والزهور لأسباب صحية، وأتفرغ للكتابة والصيد وتجديد الذكريات. وقد أذهب أكثر الى اللون وأخرج لوحاتي الى النور، فبالرغم من أن للكلمة ترجيعاً هائلاً لا يحدّ الا أن للون فصاحة فظيعة. في تقاعدي سأرسم وأنظم وأزرع ولكني أبداً لن أكتب في السياسة، أنا أؤمن بأن ما نكتبه في السياسة اليومية لا يبقى منه شيء>>.

 

يتجاذب حداد شعوران متناقضان حين تفكّر في التفرّغ للشعر دون الصحافة والترجمة: <>.

 

وهم الانتقام

هل يلجأ المبدع المضطر الى الوظيفة لتأمين عيشه بعد تخلّصه منها الى الانتقام مما حرمته منه؟ قد تكون العبارة غير دقيقة وقد لا يرتاح الموظف السابق الى فعل الانتقام لكنه بلا شكّ يهتمّ بالتعويض، وبينما يشكّل تعويض نهاية الخدمة (المادي) مقصد الموظفين فهو لا يكفي المبدع بل يضيف إليه التعويض الابداعي والكتابي. بهذا المعنى يقول أبو اليزيد: <>.

 

كذلك تتألم حداد لأن ثمة أفكارا تفور أحيانا من رأسها ولا تجد الوقت لوضعها على الورق، لكنها تستدرك سريعاً وتنتبه الى أن هذه الشكوى محض وهم: <<فعندما تختمر القصيدة أو القصّة فيّ، وتنضج الفكرة أو التجربة وتصبح جاهزة لكي تولد ككلمات، أترك كل ما عداها لأتفرّغ لها. لا أتخيّل نفسي إذاً بالضرورة أكثر <> إذا ما تفرّغت لاهتمام واحد، ولكن ما يشغلني فعلاً هو أن أصل الى مرحلة، هي صعبة التحقيق في عالمنا العربي، تصبح الكتابة الابداعية فيها مصدر مدخول مادي محترم، وهو أمر من المسلّمات بالنسبة الى عدد كبير من كتّاب العالم الغربي، طبعاً شرط ألا يتدخّل المعيار التجاري أو التسويقي في نوعية النص ومجانية الكتابة ومستواها الأدبي>>.

ويبدو صويلح مسكوناً بفكرة التفرغ ونفض الدماغ دفعة واحدة، من الكتابة الصحافية المضجرة، خصوصاً بالنسبة للصحافي السوري، وفق تعبيره، الذي يعمل في المربع الأول للسجال فحسب.

 

وهو يسترجع ما خسره بسبب الوظيفة قائلاً: <<أعتقد أنني فقدت أفكاراً لروايات كان بالإمكان كتابتها، لو كنت متفرغاً، ففي غمرة الانشغال في كتابة العيش، تاهت في الزحام لحظة الإبداع المشتهاة، حتى إن النصوص التي أنجزتها فعلاً، أعتقد أنها نصوص ناقصة وعجلى، خصوصاً حين استعيد ظروف كتابتها (أكتب في المطبخ)، وأحياناً أتوقّف عن العمل لكتابة عمود في الصحيفة التي أعمل بها، لا بضغط من قرائي الافتراضيين، وإنما كعقوبة تدعى (حجم العمل)، كما تنتابني حالة الشعور بالذنب، لأن كل ما يدخل في خانة الإبداع، هو عمل شبه مجاني (كانت أول مكافأة عن رواية مطبوعة 50دولاراً، والثانية 300 دولار، أما أكبر صفقة فكانت 2000 دولار عن كتابي <>، وهو تحرير حوارات مع محمد الماغوط، لكن بهجتي لم تكتمل، إذ أعلن الناشر إفلاسه بعد عدة أشهر من طباعة الكتاب ولم أقبض ليرة واحدة).

 

بالتأكيد لدي مشاريع مؤجلة، وهي تشغلني منذ فترة طويلة، وأوّلها يتعلّق بكتابة رواية مرتجلة، من دون خوف رقابي، أو اجتماعي (البعض حرّض زوجتي على قراءة روايتي ورّاق الحب، نظراً لما تحتويه من مكاشفة ايروتيكية، على اعتبار أن الراوي هو المؤلف ذاته)، اليوم أعتقد أن لدي جرأة لمقاربة سرد بصري أعمق، وأفكر بتاريخ الصورة على نحو خاص، وربما تكون محور عملي الروائي المقبل>>.

 

أين؟

بدأ مشروع تفرّغ ناعوت قبل أوانه، برغم أنها تسافر إلى أميركا أوائل العام المقبل للعمل، إلا أنها هذه المرة اختارت العملَ الأقرب لوجدانها، وفق قولها: <<أظنه سيكون جزءاً رئيساً من مشروعي الإبداعيّ، إذ سأقوم بتدريس اللغة العربية، التي أعشقُها، في إحدى جامعات أميركا. وهل أجمل من أن يمضي المرءُ جلَّ وقته بين الكتب والقراءة والتأمل! أما عن خطتي القادمة فأطمح في التوفّر على ترجمة بقية أعمال فرجينيا وولف التي لم يتم نقلها إلى العربية بعد كي أضيفها إلى كتابي عنها الذي صدر حديثا بعنوان <>. ومن قبل ومن بعد، أَخْلُصُ لتاج الكلمة، الشعر، الملك، الذي لا يقبلُ أن يشاركَه شيءٌ أو أحد>>.

 

الحديث عن أحلام التقاعد وأرض تحقيق هذه الأحلام، وبينما تتوجّه ناعوت الى أميركا ويحلم أبو اليزيد بمصر بعد سنوات العمل في عمان وألمانيا والكويت، ويتوق خوري الى الكفير، وتصرّ حداد على التمسك بأطراف بساطها السحري الجوّال، فإن غصّة ترافق صويلح وهو يسأل: أين نكتب الآن وأين سنكتب غداً؟ اذ يدفعه الحديث عن الشقّ الأوّل من السؤال إلى اليأس من البحث عن إجابة القسم الثاني: <>.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/يسلسلسي.jpg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/5115