الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

قراءة في المجموعة الشعرية “كرم الغزل” للشاعر مفيد نبزو

547398_362921150436050_2043105519_n

 

أعرف الشعر مما يثيره في نفسي من أحاسيس ومشاعر ويفرده أمامها من أبعاد رائعة لا يتسع لها عالم الواقع الحسّي المحاط بالزمان والممسوك بقوانين الطبيعة والمادة، وأعرف الشعرأيضاً من ندائه الإنساني.. الأمر الذي غالباً ما تجبرنا هذه الحياة على تناسيه أو تدخلنا تراكيب مواقفها القاسية

في عملية مساومةعليه، وتحولنا شيئاً فشيئاً إلى كائنات غريبة خالية من الروح..

أو على الأقل تصلب هذه الروح في داخلنا وتحولها إلى حجر..

وتلك هي النسخة الأكثر تواجداً منا في هذا الزمان الذي يملك الكثير من الريبة والشك وحتى الاعتراض على كل ما هو إنساني.. ولكن الشعر يأتي ليؤكد بأننا لم نخسر المعركة بعد ويقاوم على كافة الجبهات، فيمحو الأوضاع الزائفة ويعيدنا إلى حقيقتنا السامية وإلى دفء الروح والعواطف والمشاعرالنبيلة، وكل ما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش، وهذا بعض مما فعله بي الشاعر مفيد نبزو بمجموعته الجميلة “كرم الغزل”.

إن هذه الباقة من القصائد الرومانسية القصيرة البديعة التي جاءت باللغة المحكية عالم سحري زاخر بالصور والخيالات زاخر بأحلام الشباب، وبنقاء وبراءة الطفولة وبالأمنيات الكبيرة والحنين إلى ما هو في صميم الحياة وربما كان هذا أول ما يستوقف فيها:

الاحتفاء بالحياة كما منحت لنا في حقيقتها النهائية وليس كما اعتدنا على تداولها في هذا الزمن المجدب.. فالعالم واسع وجميل وليس قمقماً ولا لوحة سوداء، والأهل والأصحاب والرفاق موجودون حقيقة وليسوا مجرد قيم رمزية تتراءى من جهة الخيال.

والحبيبة واقع أحلى من الحلم! من بسماتها تشرق شمس الصباح ويستيقظ الحب والفرح وعلى لفتاتها تزهر الورود وترتدي الطبيعة ثوب فتنتها وتنهض لاستقبال الفصول في امتداد الحقول والمسافات التي تجتمع كلها لتشكل كرماً للغزل.

تضمنت هذه المجموعة أربعة وخمسين نشيداً.. لوحات بديعة رسمها الشاعر بتقنية وفنية عالية متوخّياً العنصر- برأيي – الأكثر أهمية في العملية الشعرية: إثارة المشاركة الوجدانية لدى المتلقي وشده إلى أعماقه وإيقاظ أحاسيسه النائمة أو المخدرة.. أو المنحسرة بفعل هجمة العالم المعاصر الشرسة بحضارته المتوحشة على كل مواقع إنسانيتنا ودكّها واحداً تلو الآخر.

 

إن هذه القصائدالقصيرة الرقيقة الحالمة ومضات ذكرى ومحطات وقوف مع الذات الحقيقية الموجودة داخلنا والتي لا يصل إلى ذلك المكان البعيد الذي جاءت منه سوى السعر بطاقته الهائلة. لأن البداية نفسها من حيث انبلج كل شيء بقوة قاهرة تتفوق على كل إمكانيات الخيال، تلك البداية النائية بكل أسرارها الغامضة ربما كانت شعراً أو شيئاً أشبه بالشعر وما دام الأمر كذلك، وما دمنا نحب ونأمل ونحنُّ ونؤخذ بالجمال الذي لا يخضع للقوانين والنظريات العلمية، وما دامت الحياة تتقدم عن طريق الحلم وبالحلم في عملية لا نهاية لها، فإن الشعر سيستمر في كونه إحدى أهم حاجاتنا الإنسانية.

ومما يلفت النظر في قصائد كرم الغزل الرِّقّة المتمازجة مع العاطفة الصادقة، والأمثلة كثيرة أذكر منها القصائد الحاملة للعناوين التالية: “بتجنني” و”وسألت عنك” و”يا طير” و”بارك الحلوين”.

وقد نجح الشاعر مفيد نبزو في توظيف طاقاته الإبداعية للتعبير عن خلجات نفسه الهائمة والمتقلبة على جمر الشوق إلى الحبيبة والطبيعة بما تعنيه من نقاء وروحانية وتمازج مع نداء الأبعاد والمسافات وذاك هو السبب في توقفه منذ البداية عند كلمة كرم ليكون عنواناً للمجموعة، وقد اعتنى بتراكيبه ومفرداته منتقيا الأكثر منها اتصالاً بجوهر الشعر، وفي هذا الأمر بالذات تتجلى التقنية العالية ويسقط ذوو المواهب الضحلة الذين يعتقدون أن الإبداع في الإطالة فيثقلون قصائدهم بالكلمات والعبارات، وكل ما يحتاج إلى غربلة مضنية قبل أن يظهر فيه أي بريق شعري.

غريبة هي تلك الوضعية التي تتخذها الكلمات لتتيح للشعر إمكانية الظهور في عالمنا ربما كانت قدرتها على اقتناص تلك التشكيلات الخيالية المدهشة واحدة من أعجب خواصها، فمما لا شك فيه أنها هناك في تلك المناطق النائية لاتتكلم.. بل.. تحلم.. ولا تسير.. بل تشعّ، ونعم إنها تقول دائما أكثر مما نقصد لسعة دلالاتها ولكن الشعر لا يظهر إلا عندما تقوم- وفي ظل رقابة عقلية عليا – بما هو غير متوقع منها، وتكف عن أداء المألوف وتلقي من صناديقها كل أنواع الحمولة الفكرية لتتفرغ للأحاسيس والمشاعر التي يحلق عبرها الشاعر بأجنحة خيالاته إلى فضاء الدهشة، الفضاء الذي يرسمه بأحلامه وأمنياته ومكنونات روحه.

إن الإيحائية وكثافة العبارة وسعة الخيال من أهم المواصفات الفنية لكل شعر جيد، وهي أيضا دليل على أصالة الشاعر وعمق وعيه وبعده الفكري والرؤيوي، هذا بالذات ما يجعله يشعر بالغربة والوحشة والانفصال عن المجتمع والنفور من أفراده الراكضين وراء غايات هزيلة أقنعتهم بأهميتها كل أنواع الأشياء التي شاركت في تسطيح الوعي لفترة طويلة، وبينما يساقون مع التيار يحمل أدواته ويخرج وحيداً للمقاومة كما فعل في قصيدة “مرت سنة” التي يتحدث فيها عن اختلافه، ويدعو إلى تصفية الأرواح كي تكون في مستوى نقاء روح الطبيعة، ونقاء فكرة الوجود، وما يقود إليه تأملها والغوص في عمقها اللانهائي من مشاعر عظيمة، وتلك هي مهمة الأدب: جذب الحياة باتجاه الأسمى عن طريق تعرية النواقص والإغراء بمحاولة تجاوز الذات، والأنا الضيقة المسدودة على عقدها وأمراضها النفسية.. البراءة الطفولية والقدرة المذهلة على الحب وموهبة بذل الذات بالكلية في سبيل الحبيبة، وكل ما يصيب الآخرين بالحيرة تلك هي بضاعة الشاعر وأملاكه، ومن هو؟.. تاجر؟ رجل أعمال؟ أمير نفط؟ ثري حرب؟ مالك لعدد من مناجم الذهب؟ كلا 00 كلا00 إنه عطر في نسيم الحقول وشعاع حر يعانق الأبعاد، ومغامر يتحدى المستحيل، ومبدع يصوغ العالم خمائل من الأحلام الوردية، وإذا أردته فابحث عنه هناك.. ولا يفوت الشاعر مفيد نبزو التأكيد على هذا الأمر كما فعل في قصيدة “مش معقول” التي اختصر فيها دنيا الشاعر كلها بعبارات بسيطة وجميلة، وما أريد قوله أخيراً: إن هذه القصائد الرقيقة في مجموعة – كرم الغزل- برأيي الشخصي لا تقل في جماليتها وتقنيتها عن الفريد الشارد من الشعر اللبناني باللغة المحكية ، وربما زاحمت إنتاج الرحابنة في بعض مقاطعها، وفي كل الأحوال تدل على تمتع صاحبها الشاعر مفيد نبزو بصفات فنية يفتقر إليها الكثير من أصحاب الأسماء المشهورة في الوسط الأدبي والثقافي.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *