من ذاكرة القلب

by tone | 31 أكتوبر, 2013 8:44 م

images[1]

 

على ميناء الانطلاق :

فيما كانت أحلام مزركشة بصور زاهية لغد ٍ مُشرق تتلمَّس ملامح دروبها في قلوب أشخاص فتحوا فضاءات وجودهم على المدى ، و نسجوا منها أفقاً جديداً يملك القدرة الدائمة المتجددة على الاتِّساع … و من بين خيوط الواقع بتداخلاتها و تشابكها و ضياع حدودها و بداياتها و نهاياتها .. من بينها تسرَّبت تحديات و مواجهات و معوقات أرادت أن تخنق طموحاتهم ، فانتفضت خيول إرادة دفينة تجسّدت في أعمالهم .. في أقوالهم .. في رغباتهم .. في انكساراتهم و انتصاراتهم .. في كبواتهم و وقفاتهم أمام هجوم الضياع و سيل التيه في زمن يحتاج لفرسان يولـَدون من عمق الطهر الأبيض لصد أشباح الظلام .

أفراد ..؟.. أشخاص .. ؟ كهنة ..؟ رهبان ..؟ راهبات ..؟ علمانيون ..؟ مع اختلاف التسمية و اختلاف النظرة و تعدد المسارات اجتمعوا .. أفكارهم توحَّدت مع إرادة بحّار عنيد يواجه أمواج المسيرة الطويلة بإيمان القلب النقي بالبرِّ الآمن الأمين .. ذاك الذي ينتظر على حافة الرجاء .. و فيما كان أولئك الحالمون يفتحون أشرعتهم البيضاء على ظهر سفينة التعليم المسيحي في المنطقة الوسطى .. فيما كانوا يطلقون صفارات السير نحو فضاء النوارس ، و يغذّون السير إلى ملء قامة الحلم .. إلى ملء قامة الإنسان .. ملء قامة المسيح …

الكاهن المَعلـَم و المعلِّم :

في وسط هذا البحر .. و في جزيرة وادعة تدعى قرية زيدل .. و في كنيسة تفوح بالوعود و الآمال و الأعمال .. و في لقاءات تبوح بالترقب و الرجاء .. التقيته .. التقيته رأساً و رئيساً لهذا الفريق الحالم الذي يُدعى ” لجنة التعليم المسيحي في المنطقة الوسطى ” .. التقيته كاهناً أسمر الطلة .. حازم النظرة .. سخيّ الابتسامة .. واضح النبرة في كلمات ممتلئة وعداً ووعيداً ليضبط الأمور على نغمة النظام و على إبرة بوصلة الهدف في اللقاءات و الدورات .. تخرج من قامته القصيرة قامةٌ طويلة شامخة تطاول في طموحها و أحلامها نجوم السماء .. يشبك كفيه عقدة بحار للإصغاء حين يصمت .. و تغفو يديه على بعضهما غفوة اليتامى حين يصلي .. بينما يطلقهما رماحاً تشق نسيج الفضاء حوله ، و يرسم بواسطتهما شبكة من الإشارات و الحركات حين يتكلّم .. بل يمسك بيده حين يتحدث ذراع الشخص الأقرب له، و يجذب انتباه كلّ السامعين بجذبه يد ذاك الشخص في حضور لافت و مميز .. و عند السؤال عنه .. يأتي الجواب : إنّه ” أبونا جورج ” .. الأب الذي يسعى ، و يعمل أن تستقر ، و تثبت دعائم لجنة التعليم التي تعاون مع مجموعة من الكهنة و الرهبان و الراهبات أصحاب الرؤية و الإرادة من حمص على تأسيسها لتكون في خدمة البشرى السارة لأجل أطفال المنطقة الوسطى التي تتناثر مراكز التعليم فيها على رقعة جغرافية واسعة ، و تتوزّع بين البادية و الجبل و السهل والجرد و وادي العاصي ..قرى اختارتها الجهات الأربع سفراء لها .. أبناؤها ينتظرون مَن يعمل بصبر و رجاء .. مَن يعلم بفرح و عطاء لتصل إليهم كلمة الرب .. الأب جورج تجاوب مع انتظارات هذه المراكز لمعلمي تعليم مسيحي ينالون تأهيلاً مناسباً لهذه الرسالة من خلال دورات و محاضرات و لقاءات ، فكانت الدورات التكوينية لمعلمي هذه المراكز ، دورات لطالما عمل على إنجاحها من خلال استقباله لها في قريته التي جعلها الفضاء الأرحب في زمن الضيق .. في الكنيسة التي يخدمها و يعمل على اتِّساعها لتكون حضناً حنوناً لهذه الدورات .. من خلال إدارة حكيمة للمكان و سعي دائم لتوفير مستلزمات النجاح التي تبرز عاماً بعد عام و دورة إثر دورة ، و تتوضَّح عمراناً و تحسينات و خدمات .. و لأنَّ يد الخير تطول و لأنّه يؤمن بأنَّ الله يسخّر كلَّ شيء لخير الذين يحبّونه .. امتدت خدمته ليُشرك فيها ما استطاع و ما لزم لإنجاح الدورات .. فمع سخاء شخصي مقترن بإرادة قوية لإنجاح العمل ، كان يسعى لتأمين معظم المستلزمات سواء من ماله الشخصي أو من محصول و نتاج أهله و أقربائه و أصدقائه و أهل قريته .. و بقناعة لا حياد عنها بأنَّ الطلب لأجل الكنيسة و مسيرة التعليم يتجاوز الحياء الفردي إلى ما هو أسمى و أعلى .. فطلب الدعم و المساعدة من أي إنسان لأجل الخير العام لا يُنقص من كرامة الكاهن طالما يطلب للبنيان و ليس لمنفعة شخصية أو فردية مهما اشتدّت هي أصغر من مصلحة الكنيسة و خير أبنائها المؤتمَن عليها الكاهن .. و هي قيمة رافقته كاهناً و أسقفاً و امتدت لتصير قيمة عند كل الكهنة المحيطين به و الذين مع الوقت تصيبهم عدوى السعي للغير و الغيرة على بنيان جسد المسيح … و تمرُّ السنون ، و تتعدد الدورات و تتبلور الصورة .. بل تتبلور العلاقة ، و يتسع الجسر بيننا .. أحببته ، و أعجبت به و بمحبته للتعليم و بسعيه الأمين بكل طاقته لإنجاح .. فرحت بتلك الثقة التي كان يمنحني إياها يوماً بعد يوم .. فمرّة يكلفني بتحضير مسرحية دينية أو مشهد إيمائي .. و مرّة بقيادة مجموعة في رسالة مميزة .. و مرة في إدارة حلقة حوار ..و مرة يضمني إلى فريق العمل و التحضير للدورات .. و مرّة .. و مرّة ..مشروع هنا و تجربة هناك .. و لا أنسى ذلك اليوم حين استدعاني ليلة تحضير إحدى الدورات إلى شرفة الخورنية في زيدل بحضور الأب بسام آشجي من حلب الصديق و شريك الرسالة و الغيرة الرسولية .. و بدون مقدمات ناولني كتابين قائلاً : خذ هذين الكتابين عن القديس كيرّلس الأورشليمي .. ادرسهما جيداً و استخرج منها عبرة و معلومات تقدمها لنا عملاً في نهاية الدورة .. أريد منك أن تعرّف الجميع عن هذا القديس بالشكل الذي تراه مناسباً .. مسرحية . رقصة.. إيماء .. خيال ظل .. افعل ما شئت من الحركات التي تتميز بها .. افعل ما تشاء .. حاولت التعبير عن حجم المسؤولية الفكرية و التعليمية التي يضعها على عاتقي .. أظهرت مخاوفي و رهبتي أمام هذه الثقة و ذاك التكليف .. أظهرت بأنَّ رهبتي أمام عظمة المهمة تفوقت على فرحتي الكبيرة بثقته .. فأجابني مبتسماً مشجعاً : أنا أثق بك و بقدراتك .. و غمز بإشارة دافئة و حنونة و شد على كتفي : شو يا أبونا بسام .. اسكندر قدّا أم لا ..؟ و لو أنت أبونا تقريباً .. هل يهرب الأبونا من مسؤوليته .. ( و كأنّه كان يرى بعين بصيرته و بإلهام الرب ما سأكون عليه مستقبلاً و بأنَّ الرب سيدعوني لأكون خادماً في حقل الرب بل و خادماً أكثر في مجال التعليم المسيحي على مثال الأب كسّاب ) و أكد الأب بسام التشجيع و التأكيد على ملامح الدعوة للكهنوت التي يراها تتوضَّح في داخلي ( و كانت إشارة تلاقت مع إشارات من الأب ميدع و من الأب ميشيل نعمان الذي كان يهمس في أذني : شو يا دكتور .. أليس الأحلى: يا أبونا .. اسمع ما أردده أنا و زوجتي ” فينا ” دائماً [ الشعب يريد إذاً الله يريد .. و الله يريدك كاهناً ] كلمات و عبارات مشجعة استخدمها الرب يسوع ليهيئني لسماع النداء ووضع اليد على المحراث دون النظر إلى الوراء ) و أقولها صراحة بأنَّ الأب كسّاب كان أحد القنوات الهامة لتصلني من خلالها الدعوة لأكون خادماً على مذبح الرب.. أحببته ..أحببت ذاك الرجل الذي كان يحب صيد العصافير ليأكلها ، فاختاره الرب يسوع ليصير صياداً للبشر ليؤكل تضحية و خدمة و تفان .. مع يسوع تحوَّل من صياد يأكل إلى صياد بشر يُؤكـَل … أعجبت برسالته ، و لم يخطر في بالي يوماً بأنّه سيرمي بردائه إليَّ ، ليحمّلني شرف هذه الرسالة و أخلفه في لجنة التعليم المسيحي في المنطقة الوسطى حين يتسلم عصا الرعاية الأسقفية لأبرشيتنا التي صرت فيها و لها كاهناً … وللحقيقة فإنَّ أسلوبه في التشجيع و منح الثقة بعد دراسة متأنّية للشخص لطالما كان حديث مربّي التعليم .. فهو يحب توزيع المهام على الأشخاص و العمل بطريقة جماعية و السعي للمؤسساتية في العمل .. هذا الأسلوب الذي أصبح نهجاً في إدارته لشؤون الأبرشية .. و كذلك في إدارته للجنة المركزية للتعليم المسيحي في سورية التي كلفه برئاستها مجلس أساقفة سورية الكاثوليك .. و أيضاً اختارني رسولاً في هذه اللجنة فكلفني بأمانة السر فيها ..و كما في إدارة المنطقة الوسطى كذلك في اللجنة المركزية .. احترام لكل ممثلي المناطق في سورية .. توازن في العلاقات من خلال مسافة واحدة من الجميع .. مسافة من المحبّة و الدفء و وحدة الهدف …

رجل المواقف و الإيمان :

ليس من منطلق سياسي كان يقول : ” الحياة وقفة و موقف ” و ليس من شكل إعلامي أو إطار اجتماعي كان يتحدّث عن ضرورة اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب .. بل من الضروري موقف العز و الكرامة في كل الظروف .. شدَّد و يشدد دائماً بأنَّه علينا أن نعمل بشرف و نزاهة .. و نطلب لأجل الخير من موقف الكرامة و السمو .. و برأيه مَن يفقد مصداقيته في الطلب و أمانته في الإدارة و سموّه في التعامل و سخاءه في الاستقبال ووفاءه في العلاقات يفقد كرامته .. حتى في التعامل مع المؤسسات الكنسية إن لم يكن الصدق و الوضوح و الشفافية هي سمات هذا التعامل فلن تكون علاقة سليمة و دائمة .. لأّنَّ هذه العناصر هي أساس الديمومة .. و هذا ليس شعار بل نهج و خط عمل اختبره كل الذين أحاطوا به ، و عرفوا تفكيره وأسلوب حياته .. و كل المؤسسات في الداخل و الخارج عرفت عنه هذه المصداقية فصارت أكثر ثقة ليس به فحسب بل بكل ما يحيط به أو يتصل معه .. من الضروري أن نطلب لأجل كنيستنا و مشاريعنا الخيرية و الكنسية ، ولكن علينا أن نحس و نشعر بهؤلاء الذين ساعدونا و أرسلوا لنا المعونة و الدعم سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات .. و لطالما روى لنا المواقف و المشاهد التي رآها من هؤلاء الخيّرين في بلادهم و الساعين لإيصال الخير لنا ، و ما يعانون لكي تصلنا مساعدة من هنا أو معونة من هناك .. و هذا الشعور يجعل كل كاهن بل كل مؤمن في هذا الشرق يقدِّر معنى هذا العطاء و قيمته ، و بالتالي يكون أميناً في الطلب وحكيماً في الصرف و الإدارة .

و على ذكر المواقف ووقفة العز التي عبّر عنها مراراً مؤكداً بأنَّ للمواقف ثمن ، و ” مَن أراد أن يكون جمّالاً فليرفع باب بيته ” .. فالكبير ( يُرجى لفظ الكـَبير بفتح الكاف بشكل واضح على طريقة المطران كسّاب ) لكي يكون كبيراً عليه ألآّ يخشى دفع الثمن مهما كان غالياً و مهما تطلبت من تضحية و سخاء .. ففي مدينة النبك و كنت قد تركتها منتقلاً إلى حماة ، و لكني كنت شاهداً و مرافقاً له حين تدخَّل لحل مشكلة كبيرة ، فما ما كان منه – و لأجل الوفاق و السلم و الإخاء .. و لأنّه كبير في هذه القيم – إلا أن حلَّ المشكلة التي تطلبت دفع مبلغ كبير من المال في الوقت الذي كانت الأبرشية تمر بضائقة مالية ، لكنّه و لأجل كرامة الأبرشية ، و كِبَر راعيها ، و إكراماً لمن ينتمي لها ، أخذ الموقف المناسب و دون تردد .. ذاك الموقف الذي سجلته له القلوب و العقول و الأفئدة في النبك و خارجها .. مسلمين و مسيحيين .. أفراداً و جهات رسمية و دينية .. و هذا ليس بجديد منه ، خاصة بما عرف عنه من روح مسكونية مُحِبّة لكل أبناء الكنيسة في كل مكان و بروح إخاء و احترام لكل الأديان و الأطياف الفكرية و المذهبية .. فالمسيحي الذي يُحب .. يحب كلَّ إنسان… فكم من مرة وقف مشجعاً كلَّ لقاء مسكوني داخل الكنيسة .. و كل لقاء إنساني ووطني دخل الوطن و العالم … فحين دار الحديث عن وحدة العيد كان من أول المشجعين و المناصرين لهذه الوحدة رغم كل العقبات و أمام كل الآراء المختلفة معه .. و حين تطلب الوطن تعبيراً عن وحدة أبنائه مسيحيين و مسلمين وقف مع سماحة مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون معبّراً عن روح الأخوّة و الإخلاص و الإنسانية التي تجمع أبناء الوطن الإخوة في الوطن، والأخوة في الإيمان.. فالإيمان برأيه – و قد عبّر عن هذا الرأي بعبارات متعددة و في مناسبات كثيرة – ” هوالإيمان الذي يغفر ويسامح ولا يحكم ويدين…الإيمان الذي يقبل ولا يرفض…الإيمان الذي يحب ولا يكره ولا يكفِّر…”

و الوطنية برأيه – و قد اشتهر بحبّه لوطنه سورية – هي مسؤولية وواجب بل كما يقول : ” من أقدس مسؤولياتنا… ومن أقدس واجباتنا الروحيّة والوطنية أن نجعل من بلدنا وطناً للتسامح الإنساني و الإيمان الإلهي… وطن الإيمان المنفتح الذي تترسخ أساساته لا على التعصب الطائفي الذي هو أحطّ وأخطر مظاهر التديّن، بل على الإيمان بالله وبالإنسان الحر والكريم والمحبّ..علينا أن نبدع وطناً يكون نموذجاً للخير الروحي لا للخيرات الزمنية وحدها…

وطناً يكون لا مزرعةً للطوائف بل مختبراً للإنسان المؤمن بالله، وطناً يُقال فيه كلما ذُكر اسمُه في الأوطان: وأحسن الدين والدنيا هناك… في سورية…وطناً يتماسك فيه الدين والدنيا، فيصبح أقرب مواقع الأرض من السماء ” .. فسورية في عيني سيادته هي : ” سورية التاريخ … هي سورية اليوم… هي سورية أمس واليوم وغداً وبعد غد… إنها رسالة حب وسلام ورحمة إلى العالم… وهي رسالة إخوة في الوطن… وإخوة في الإيمان وقد عاش أبناء سورية في كل العهود أسمى معاني الأخّوة في الوطن… ولقد عاش أبناء سورية الأخوّة في الإيمان… الواعي والناضج والمنفتح… فهي الأرض التي أشرقت منها المعرفة، ومنها رسم المنطق البشري الحرف، وتكونت الكلمة، ولولا الكلمة لما كان حوار السماء مع الأرض. فالكلمة أصبحت إنجيلاً في المسيحية، وقرآناً في الإسلام..

فلا عجب إذا كانت سورية سبّاقة في الإخاء و السلام و احترام الآخر نهجاً روحياً واجتماعياً وقومياً وإنسانياً .. نهجاً اختارته شعباً و قيادة و عملت به و له على مرِّ الزمان ، وتاريخنا يشهد بأننا على أرض مقدّسة هي موقع لتجلي الله، فهي مهبط الوحي، ومهد الديانات السماوية… كأنما الله اصطفاها ليّحل فيها العقل والحق والحياة والحب والجمال.” .

رجل الطيبة و الإدارة :

يا شعبنا الطيب .. تلك عبارته الشهيرة التي يخاطب بها أبناءه في معظم المناسبات و في أغلب الرعايا .. و الطيبة في أقواله و أفعاله تتجلى في نظرته للآخرين .. و في ثقته بالآخرين .. فهو يرى الطيبة الأمانة و الإخلاص في كل أعضاء المجالس الرعوية في رعايا الأبرشية .. و يراها في كلِّ الناس الذين يتعامل معهم .. و غالباً ما كان يركّز على أن التعامل الطيب داخل الجان و المؤسسات و حتى في التعليم يجب أن يغلب العلم و المحاضرات و الخطط و النظريات .. فما يمكن تحقيقه في مائدة محبة بين أشخاص طيبين أعظم بكير مما تنجزه النظريات و الاختصاصات – دون أن يقلل من احترام الاختصاص و صاحب الاختصاص – .. و كما يقول مار بولس بأنَّ المحبة تصذّق كل شيء فهو – و رغم ذكائه و حنكته و قدراته و مواهبه في العمران و البناء مثلاً – تراه يعتبر كل إنسان صادق و طيب حتى يثبت العكس ، و إذا كانت النباهة و الحكمة و الوعي تتطلب تدقيقاً و تمحيصاً للأمور و لكن هذا ليس مبرراً للشك و الخبث و التذاكي .. و كم كنا نضحك حين نراه يحاور مهندساً و صاحب حرفة في مجال البناء و الإكساء . و بعد حوار طويل و أرقام و دقة و حسابات على أعلى المستويات و كأنَّ مهندساً يحاور مهندساً أو طيّاناً يحاور طيّاناً .. بعد كل هذا يقول لمحاوره : يا ابني أنت صاحب الاختصاص و أنت الذي لدي العلم و الخبرة أما إنا فقد درست اللاهوت لذلك أترك المسؤولية عليك و الأمر لك .. فيضحك المحاور و الحاضرون .. و على مستوى الإدارة و العمران .. فانطلاقاً من تاريخه الرائع في رعيته زيدل و ما أنجز فيها من موقعه كاهناً لها على مدى ربع قرن ، تابع هذا النهج في رعايته للأبرشية أسقفاً .. ففي بداية إدارته للأبرشية رسم الخطوط العريضة على المستوى المالي و العمراني و الخدمي .. أشرك الكهنة و المجالس في المسؤولية للخروج من الوضع المالي المتدني في بداية أسقفيته .. حدد بوضوح مسيرة العمل – رغم ما اعترضه من عدم الفهم حيناً و سوء الفهم أحياناً ، من بطء الفهم مرة أو اختلاف التفكير مرّات إلى أن أثبت سداد نظرته و صوابية رؤيته بتعاونه مع معاونين آمنوا معه و عملوا معه بإخلاص إلى أن خرجت الأبرشية من الضائقة و بدأت مسيرة الكفاية و الاعتماد على الذات و عدم العيشة الحائرة المتقلبة المتكلة فقط على الحسنات و الهبات الخارجية و الداخلية دون أن نقلل من أهميتها و قيمتها و دورها و لكن في الدعم و رفع المستوى و ليس في أساس العيش و الحياة.. احتاج الأمر منه تغيير ذهنية في مجالس الرعايا ، و تعديل صيغة تعامل في الشؤون المالية و الرعوية عند الكهنة .. و توضيح الهدف عند معاونيه و أمام شعب الأبرشية الطيب .. و ..و .. و لكن بنعمة الرب و بهمة و بإخلاص كهنته و معاونيه تجاوزت الأبرشية حالتها السابقة .

و هو رجل إدارة بامتياز .. و صاحب ” كاريزما ” في هذا المجال ، فقد استطاع توحيد الرؤى و تقريب القلوب عند الكهنة و المؤسسات في فترة زمنية قصيرة بعد مرحلة حرجة سابقة .. و استطاع تعزيز قيمة الكاهن و حضوره في رعيته و توفير السبل لإنجاح مهمته كوكيل للأسقف في الأبرشية دون أن يُبخس العلمانيين حقهم ، فهو مع العلاقة السليمة بين الكاهن و الرعية .. و بميزان الذهب ضبط العلاقات بين الإكليروس و العلمانيين و مهمة و دور كل مؤمن في تسيير أمور الكنيسة .. و سعى ما أمكنه توفير جو المؤسساتية و الحوار البّناء لمصلحة البنيان العام .. لم يسمح بكسر هيبة الكاهن ، كما لم يقبل بتمييع دور العلماني .. و تشهد له أغلب الرعايا مواقف كبيرة شكلت مفصلاً هاماً في مسيرة الكاهن و الشعب في الرعية ، و هذا ما كان لولا محبّته و حنكته الإدارية و موهبته .. فلا أنسَ يوم وقف مؤازراً لمسيرة النادي الصيفي بحماة في بدايتها و التي لم يكن يراها – في ذلك الوقت إلاّ الكاهن و المطران – و فعلاً نجحت التجربة و دخل المعارضون أو غير المهتمين في المسيرة بعد ذلك دون مشكلات و دون تقليل من كرامة أحد أو رأي أحد .. حتى في توزيع المهام بين الكهنة ، فقد أعطى لكل كاهن مهمة بحسب موهبته و قدراته ، بل و زرع في عقولهم فكرة جميلة هي : ( لا أحد يأخذ من درب أحد و لا شخص يأخذ مكان شخص لأنَّ لكل كاهن موهبته الخاصة التي وهبها الله له ، و لكل موهبة مخلصة توضع في خدمة الله مكانة لا يسلبها إنسان ) و بما غاية الجميع هي خدمة الرب فلا خوف من الأنا و الصراع بل ما أحلى التنافس في الخدمة و الصالحات كما يقول مار بولس .. حتى في علاقاته مع أقرانه الأساقفة فقد أبدع في أن يكون رجل الوفاق و التوازن و المحبة ، و ساهم مع رؤساء الكنائس الأرثوذكسية و الإنجيلية و الكاثوليكية في حمص في عيش ( شهر عسل ) كما يقول سيادته من خلال لقاءات محبة و طيبة و تعاون لخير جسد المسيح المنظور .

أليست الطيبة هي الترفع عن الصغائر و السمو عن المنفعة الشخصية ..؟ لطالما أكد قولاً و فعلاً ترفـَّعه عن الأرباح الدنيوية طلباً لمكافأة ينالها من داخله و أمام نفسه و أمام ربِّه … حتى في علاقته مع المسؤولين الزمنيين يدأب أن تكون علاقة شركاء الخدمة في الوطن لكل أبناء هذا الوطن .. لا يعمل على رفع مستوى هذه العلاقة إلى أكثر من المستوى الذي يحفظ لهذه العلاقات سموّها و تجرِّدها عن أي منفعة أو مصلحة غير المصلحة العامة ..

ختام :

في بداية أي شهادة حياة يبرز السؤال : لماذا تبدو شهادات الحياة و كأنّها تعداد للمناقب و الخصال المميزة عند الشخص ..؟ لماذا يصل تصويرنا لمَن نحب إلى مستوى القداسة ..؟ هل عين الحب لا ترى المعايبَ كما يقول الشاعر ..؟ أما أنَّ الحبَّ حين يرفرف في سماء التعبير يستعير أجنحة الخيال فتصبح المشاعر و العلاقات و التعابير أقرب إلى الخيال و الأسطورة ..؟ كلُّ هذه الأسئلة تسقط حين يبوح القلب بجمان أحاسيسه ، و يستخرج من ذاكرة الروح حكايات حبٍ و دفء ٍ و فرح … و إذا كان كلام القلب إلى القلب يصل .. فكلام القلب الممتلىء حباً لا بدَّ أن يتوهج بعطر السمو إلى المستوى التقديس .. و لا بدَّ أن يحلِّق متجاوزاً حدود اللغة و التفكير و المنطق ..

و أخيراً أسأل نفسي : لماذا يشعر كلُّ إنسان بعد أن يختم كلامه عمَّن يحب بأنّه قصَّر في حقه و لم يفِهِ قدر قيمته و حضوره المطبوع في ذاكرة القلب ..؟ بهذا السؤال أختم بأنّي في الحقيقة اكتشفت بأنَّ الزمان و التعبير و الكلمات رغم عظمتها كجسور تواصل و لقاء هي عاجزة فعلاً حين يكون الحب بحجم الحب الذي أحمله في قلبي .. و أكثر عجزاً حين يكون الشخص الذي أتحدّث عنه هو بقدر سيادة المطران جورج كسّاب حفظه الله و أدامه شاهداً و مثالاً للحب و العطاء و الخدمة ..

و لأنَّ الحياة موقف .. و الموقف يصنعه شخص .. أقول دمت لنا شخصاً و موقفاً و رسالة و راعياً أمينا ً.. لك كلّ الحب .. و كلَّ الوفاء .. و كلّ الدعاء .. ونعمة الرب تظللك دائماً .

 

ملاحظة:( هذه الشهادة منذ أربعة أعوام من الأب اسكندر بديع الترك طلبها

 

الأديب الشاعر سلوم درغام سلوم الذي ألَّف كتاباً عن حياة المطران الراحل جورج كساب ومازال الكتاب على المخطوط ولم يطبع بعد)

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/images27.jpg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/5722