الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

سواحل …. عن التاريخ وصناعة النشر

f3de81548b8c94fc75956850d7edaffe

هل ثمة تاريخ مكتوب لصناعة النشر العربية يجلو آثارها على تحولات الثقافة العربية، ويضع اليد على الانعطافات الجذرية التي طرأت على الفكر العربي المعاصر بتأثير الكلمة المطبوعة والانتقال من عصر الخطابة والشفوية الى عالم الحروف السحري الذي يجعل الكلام المطبوع أقرب الى المقدس منه الى الكلام اليومي الذي يذهب في الأثير ويتبخر حال النطق به؟

ذلك قطاع من التاريخ، والتسجيل التاريخي أو ما يدعى في علم التاريخ Historiography، شديد الأهمية ولكنه، كما يبدو، شبه مهمل، أو أنه ربما غير معترف به في أقسام التاريخ في الجامعات العربية المشغولة بأشكال من المعرفة التاريخية يشوبها النقص والتقليد واغفال حراك المجتمع وطبقاته وشرائحه المختلفة لمصلحة تاريخ رسمي جامد ومحتشد أحيانا بالنفاق وممالأة الحاكم.

ما لفت انتباهي هو أن صناعة النشر في العالم، وتاريخ أصحاب دور النشر، والعاملين في تلك الصناعة من محررين ومصممي أغلفة وحتى مبتدعي الحروف بأشكالها وأحجامها المختلفة، هي الآن مدار قراءة وتوثيق، وموضوع بحث العديد من الكتب التي تلقى رواجا واهتماما واضحين في الغرب. ميزة بعض هذه الكتب أنها، فيما هي تؤرخ لصناعة النشر الغربية وتكتب سير الناشرين وترصد مسارات عملهم، تؤرخ للثقافة والتحولات المجتمعية وعلاقة البيئة السياسية الاجتماعية بانعطافات الفكر وطرق عيش الناس وهمومهم في حقبة من الحقب. ليست صناعة الكتب، في هذه الحالة، مجرد عمل يبغي الربح ومراكمة الثروة فقط، بل هي مرتبطة بمشاريع ثقافية، والتزامات سياسية وفكرية، وطموحات لاشاعة أشكال من التفكير وطرق العيش والأيديولوجيات الكبرى.

كتابان اثنان صدرا قبل أيام كلاهما يتناول سيرة حياة ألين لين Allen Lane منشئ دار بنغوين البريطانية الشهيرة، الأول منهما بعنوان “حياة ألين لين وأزمانه” لجيريمي لويس، والثاني بعنوان “بنغوين وتصاميمها” لفيل بينز. وهما كتابان طريفان بالفعل لأنهما يؤرخان لتحولات الثقافة في المملكة المتحدة من خلال دار نشر، وطموحات رائد في صناعة النشر البريطانية وربما العالمية. والمثير في الكتابين هو رصدهما لبعض التفاصيل الخاصة بحياة ألين لين وخياراته في النشر، واهتمامه بتطوير صناعة النشر في العالم الناطق بالانجليزية وصولا الى تصميم الأغلفة و”أبناط” الحروف وأشكال ظهورها على الصفحة المطبوعة؛ وهو ما جعل دار بنغوين الشهيرة بطبعاتها الورقية الموجهة للقارئ المحدود الدخل وخياراتها النشرية الواسعة المتشعبة واحدة من أهم دور النشر في العالم.

أتذكر في هذه السياق أن كتابا آخر صدر عام 2002 يؤرخ لمائة عام من حياة ملحق التايمز الأدبي، الذي يعد أهم صحيفة لعروض الكتب، لا في بريطانيا وحدها، بل في العالم كله. وقد قرأ كتاب “الأوقات الحرجة: تاريخ ملحق التايمز الأدبي”، الذي أعده ديرويت ماي، لا تاريخ الملحق الشهير فقط بل التاريخ السري للثقافة البريطانية، خصوصا أن اثنين من أهم كتاب بريطانيا المعاصرين، وهما ت. س. اليوت وفرجينيا وولف، كانا من بين كتابه الأساسيين الذين كتبوا بعض ما كتبوه فيه دون أسماء؛ وقد قام مؤلف الكتاب بالتعرف إلى موادهم المنشورة في سنوات العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي استنادا الى الأرشيف الذي احتفظ به ملحق التايمز الأدبي. من هنا فإن النسخة الالكترونية من الملحق المنشورة على الانترنت تعيد تثبيت الأسماء المغفلة على المقالات المنشورة ما بين عامي 1902 ،1972 وهي الفترة التي كان ناشرو ملحق التايمز الأدبي يحذفون أسماء كتاب المراجعات ويحرصون على كون المقالات مغفلة التوقيع. والمدهش هو أن يتمكن محررو الملحق بعد مرور مائة عام من التعرف إلى أسماء معظم الكتاب ويستعيدوهم من النسيان.

تلك بلا شك دلالة فعلية على أن فكرة الأرشيف، التي تقوم عليها الحضارة الغربية المعاصرة (كما يؤكد المفكر الفرنسي ميشيل فوكو)، تقع في أساس عملية التسجيل التاريخي التي تبدو ضعيفة في الثقافة العربية الراهنة، باستثناءات قليلة موجودة هنا وهناك ولا تشكل تحولا فعليا في مسار الكتابات التاريخية سواء داخل المؤسسة الأكاديمية العربية أو خارجها.

ليس التأريخ لصناعة النشر العربية هو الغائب والوحيد، كما يبدو لي، بل ان المعرفة التاريخية، بفروعها المختلفة ورؤاها المتعددة للتاريخ وصيغ كتابته، هي الغائبة أولاً وأخيراً. 2005-10-03 –الخليج

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *