كوليت خوري الأديبة التي تنبض إنسانية

by tone | 27 فبراير, 2014 8:53 م

5352220[1]

 

حين تلتقي الأديبة كوليت خوري تنفتح أمامك آفاق عالم رحب، هو عالم الأمومة، إذ تتجلى أمامنا روح مرهفة ألفت المحبة والعطاء حتى تآلفا معها! وباتا جزءا من ملامحها وطبيعتها! لهذا حين تستقبلك بابتسامتها، التي تسع الكون بأكمله، لابد أن تحس وقد ضمتك ذراعا الأمومة، فيغمرك الحنان، وتمتلئ بعبق السمو، فتزدهر الحياة في نفسك، وتنتعش أرفع المعاني، عندئذ تحس بروعة العلاقات الإنسانية ودفئها!

مع كوليت خوري تصر الكلمة الأدبية أن تكون أنثى، فتتجلى لنا وقد اختزنت كنوز المحبة والعطاء، لهذا لن نستغرب أن تجعل «الكلمة الأنثى» عنوانا لإحدى قصصها، وبما أنها تؤمن بهذه المقولة، نجدها تسعى الى تعميمها فلا تكتفي بأن تكون عنوانا لقصة واحدة، بل تراها جديرة بأن تكون عنوان مجموعتها القصصية بأكملها، لعلها تستطيع أن تجعل «الكلمة الأنثى» خير مجسد للتلاحم بين الأدب والحياة بأرقى صوره! ‏

لذلك يلاحظ المتأمل أن الكلمة تكتسي بفضل كوليت خوري رقة الأنثى وعطاء الأمومة،فنتساءل: هل الأدب هو الذي منحها كل هذه الرهافة وهذا الحنو؟ أم هي التي منحت الأدب رقة الأنثى ونبض الأمومة؟ ‏

أعتقد أننا مع كوليت خوري نعايش امتزاج الأدب بنبض الانسان، فيصعب علينا فصل الكتابة الإبداعية عن المبدع، كما تقتضي الأساليب النقدية الحديثة! ‏

حين تلتقي بكوليت خوري، حفيدة المناضل فارس الخوري، تشعر بشموخ المرأة المثقفة وعراقة الكبرياء، التي تصنع امرأة شرقية متميزة، استطاعت أن تأخذ من الغرب أروع مافيه ( العلم والثقافة) وتأخذ من الشرق أروع مافيه (حرارة المشاعر والكبرياء). ‏

قد يرى البعض أنني في هذا الكلام أغرق في عالم نظري تجريدي، يقوم على التأمل لاعلى المعايشة اليومية! لهذا سأروي حادثتين اقتربت فيهما من الأديبة كوليت خوري بشكل حميمي. ‏

في المرة الأولى التقيتها في الغربة، حيث يتجلى المرء بأصدق حالاته ، في مؤتمر القاهرة ( المرأة والإبداع عام 2002) كنت حزينة في ذكرى وفاة أخي الشاب، وفاقم حزني إحساسي بالغربة، لاأدري كيف أحست بي، كأنها تحمل في داخلها ميزانا خاصا يشع اهتماما وإنسانية! ماإن رأتني في المطار حتى حضنتني ابتسامتها، وفتحت لي ذراع أمومتها! لايمكن أن أنسى يدها المرحبة بي، وأنا التائهة في غربة السفر! فأفسحت لي مكانا إلى جانبها، عندئذ أحسست بأنها تفسح لي مكانا في قلبها! ‏

أتساءل الآن: كيف استطاعت أن تحس بي؟ هل هي غريزة الأمومة التي يشمل حنوها الكون؟ هل هي رهافة حس الأديبة التي تنأى بالإنسان عن الأنانية؟ هل هي العراقة الإنسانية التي لن يكتسبها المرء إلا عبر سنين طويلة من الكفاح مع الذات للرقي بها؟ أم ذلك كله؟ ‏

في الحادثة الثانية أدهشتني كوليت خوري أيضاً بعطائها الذي لايعرف الحدود، فهي تمد ظلال أمومتها الوارفة على الجميع، فقد لاحظت ذلك حين زرتها في بيتها (صيف 2005) مع طالبة لي سعودية (أصبحت الآن صحفية) ولاأشيع سرا حين أقول بأنها كانت المرة الأولى في حياتها تقابل امرأة من غير دينها! فكان لقاء رائعا أسبغت عليه كوليت خوري رقتها وأمومتها، فاتسع صدرها لأسئلة صحفية مبتدئة، بل اتسع قلبها لتصرفاتها الطفولية (جلست الصحفية وراء مكتب كوليت وطلبت تصويرها، في حين كانت الكاميرا تعاند). ‏

في هاتين الحادثتين عايشت مع كوليت خوري تعاليم السيد المسيح عليه السلام، فلمست حب الإنسان لأخيه الإنسان أيا كان! فعايشت بفضلها كيف يكون الانفتاح على الإنسان بغض النظر عن دينه أو بلده أو عرقه! لعل روعة المثقف تتجلى حين يستطيع عبر حياته اليومية وعلاقاته الاجتماعية أن يجسد مثلا أعلى آمن به، كما حاول أن يجسده في أدبه، ولكن كم مثقف عربي يستطيع ذلك؟!

حين تقترب من الأديبة كوليت خوري تتأكد أنها خير ممثل لروح حضارتنا، التي تكره التعصب، وأروع مجسد للمسيحية، التي شوهها بعض الغربيين ، كما شوه الإسلام بعض المسلمين! ‏

حين تقرأ أدب كوليت خوري تحس بأنها أسبغت روحها المنفتحة على المكان والإنسان، حتى إن دمشق امتزجت ملامحها بها، فكانت بيتها الكبير ومكانها الأثير، لكنها حين تلاحظ تشوهها، تتألم كأم رؤوم تخشى أن تتحول مدينتها الى سور دون أبواب مفتوحة ، لهذا تذكرنا بصورتها في الماضي «كانت دمشق محاطة بسور، وكان ‏

لها سبعة أبواب، حاليا كبرت دمشق كما ترى وكبر السور.. «لكن الابواب بدأت تضيع، لذلك نجدها خائفة على مدينتها من الانغلاق ورفض الآخر، كماتخاف على ابنائها ان تغزو رؤوسهم الافكار العنصرية، فيفقدون هويتهم الحضارية!

إنهاتحلم بأن يتحرر ابناؤها واحفادها من قبضة الفكر المغلق الذي يقتل روح الابداع لدى الانسان، ويدمر ملامح غد أجمل،وهي دائمة تحلم بتدمير الاسوار التي تخنق مدينتها وبتجديد الابواب الدمشقية التي تنفتح بإرادة الانسان (في وجه الاصدقاء) وتنغلق بإرادته (في وجه الاعداء)! ‏

حين تقترب من كوليت خوري الانسانة والاديبة تحس بأنهامن اولئك الحالمين بتحويل السجون في مدينتها الى قاعات للموسيقا ومسارح الفن، فالمكان المنفتح على الفنون الراقية لابد ان يصنع انساناً منفتحاً على اخيه الانسان!

تسبغ كوليت خوري مشاعر امومتهاعلى الوطن، فيتحول ابناؤه الى ابناء لها، فنجد قلبها الرؤوم يخاف عليهم الضياع، ويريد ان يحميهم من الاحزان، لهذاتخاطبهم بصفتهم اصدقاء لها، معلنة هذه الحقيقة «العينان اللتان نملكهما للبكاء.. يلزمنا.. عينان لنرى». ‏

إنها الام المتأملة والحانية تمسك بيدا تقيل عثراتنا تزيح الغمامة السوداء عن اعيننا لذلك يهمهاان تنبه ابناءها إلى أنهم يعيشون حياة مشوهة تثقلها الاحزان، وتذكرهم بأن ثمة جاًنبا مشرقاً للحياة لن تراه العيون الدامعة! ‏

من هنا منحت الكلمة الانثى قدسيتها فهي ترفض ان تنتهكها الألسن والايدي فالادب روح تعلو فوق المتاجرة والنفاق وهو تماما كالمرأة الحرة التي ترفض ان تكون سلعة تتداولها الايدي! وكماتغمر القداسة الامومة في مجتمعنا، تسعى الاديبة ان تغمرالكلمة ايضا، فتنأى بها عن المهانة والمتاجرة والنفاق! ‏

وهكذا شكلت كوليت خوري ظاهرة مدهشة فلمسنا لديها كيف يمتح الادب من معين الامومة، كما تتسع فضاءات الامومة بفضل الادب! ‏

كل ذلك اتاح لها ان تتجلى امامنا مثلا اعلى للانفتاح على الجمال وعلى الانسان! ‏

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/5352220.jpg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/6717