بــهـجـة الـكـتـاب

by tone | 30 أبريل, 2014 9:23 م

7818_141245042549_4563839_n[1]

هل من ضرورة الآن لتذكير القرّاء بأن من شروط لذائذ نا وحياتنا نفسها ان نظل نمدح القراءة وعائلة الكتاب أجمعين؟ فإذا ليس من سبب محدد فلأن القراءة هي السبب بالذات. وهي السبب الدائم الذي لا يحتاج الى مناسبات، وإن تكن بيروت فتحت بيتها لمعرض الكتاب الفرنسي ابتداء من 12 الجاري، وبعد قليل لمعرض الكتاب العربي، وفي كل آن للكتاب مطلقاً.
نزل الامر الإلهي بالقراءة، واستجابت أمة. وأسرى كل واحد بحرف من حروف اللغة الى مقامات ومنازل عليّة، وناظر البعض بين القراءة والحياة وتنفس من خلال الكلمات.
أوكل سلامة موسى “تربيته” الى الكتب، وجلس بورخيس في متاهته، محاطاً بكتبه في “مكتبة بابل”. وذهب عقل دون كيشوت بسبب قراءاته وكان العلاج حرمانه منها وحرق كتبه. وقتل الراهب في “اسم الوردة” لامبرتو ايكو لتصفحه كتاب أرسطو “الممنوع” الذي يتحدث عن الضحك. كان فرانز كافكا قد دعا عام 1904 الى قراءة الكتاب الذي “يوقظنا بخبطة على جمجمتنا” مضيفاً “اننا نحتاج الى الكتب التي تنزل علينا كالبلية التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، والتي تجعلنا نشعر، كأننا قد طُردنا الى الغابات بعيداً عن الناس، مثل الانتحار. على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا” (“تاريخ القراءة”، البرتو مانغويل، ترجمة سامي شمعون، دار الساقي، ص112).
الفيلسوف الالماني نيتشه يقول في سيرة حياته “هوذا الانسان” إنه يبتعد عن الكتب والمطالعة عندما يكون منغمساً في التأليف والكتابة: “أن يقرأ المرء في الصباح الباكر عندما يكون كالفجر، في قمة قواه ان هذا عمل شرير”. ويقول “ان الذي لا يستطيع التفكير الا اذا كان في يده كتاب يفقد قدرته على التفكير المستقل ويصبح فكره مجرد رد فعل للعوامل والمؤثرات الخارجية”، وينتهي الى القول إن القراءة هي “فن المضغ الذي لا تجيده الا البقرة” (“الجمر والرماد”، هشام شرابي، دار نلسن، ص 158 و163). ويؤكد نيتشه في “العلم الجذل” أنه لا يقرأ كثيراً ولا ينتظر تحريض الكتاب كي تولد فكرته، لكنه يتوصل بسرعة الى “رؤية الكيفية التي توصل بها المؤلف الى فكرته واذا ما بقي جالساً أمام محبرته، بطنه مضغوط ورأسه في الاوراق” (ص226).
ويروي فولكنر انه توقف عن القراءة ما ان انهى كتابه “الصخب والعنف” لأنه فهم معنى القراءة، اذ اكتشف انه استعرض في مؤلفه كل ما قرأه من هنري جيمس الى قصص الجرائم في الصحف مروراً بهانتي من دون تمييز ومن دون أن يهضم شيئاً.
القارئ المكتشف
لم يكن ما نادى به السورياليون “ليسقط لافورغ وليعش رامبو” مجرد شعار، بل برنامجاً للقراءة ورسماً لمشهد جديد. فقد أعادوا خلط أوراق التاريخ الادبي. اذ أصبح رامبو نموذج الشاعر، الشاعر مجرداً، بحسب فيليب بارو.
القارئ هنا هو في موضع المكتشف بالمعنى الحرفي للكلمة. فالتاريخ الأدبي متشكل من مرجعيات ثابتة من خلال الكتب المدرسية. والقراءة تملك امكان احداث حركة مستمرة وفقاً لقدرة القارئ على اكتشاف كاتب مهمل او ساقط من رفوف المكتبات والذاكرة. وعكس ذلك ممكن ايضاً، فالسورياليون بخسوا أناتول فرانس حقه. والامر يمكن أن يجري تبعاً لصيغ السوق: أجواء التاريخ والضرورة التي يمثلها كاتب ما واهتمامات العصر واسئلته التي تجد نفسها في عمل ما.
ومن أواليات التقويم التي يستخدمها القارئ المكتشف بحثه عن أسبقية الكاتب وتجاوزه الزمن. فعلى سبيل المثل أعاد جيمس جويس “اكتشاف” ادوارد دو جوردان، وبين اكتشاف كاتب واغتياله بسبب الحماسة خطوة صغيرة. فالقارئ يمكن أن يتلبس دور القاتل من خلال “تملك” جسد النص وتقطيعه الشديد من طرف صاحب أطروحة او لغوي ألسني. وفي “نار باهتة” يروي نابوكوف بطريقة نموذجية الآثار السيئة للقارئ المترجم المعجب الذي انتهى الى اغتيال كاتبه المفضل.
معلّم ذاته
سيرة معلّم ذاته، هي سيرة ثقافة وقراءة حولت مجرى الحياة. وقد أشار ريشار هوجار في “ثقافة الفقر” الى شخصية معلّم ذاته على انها “منشطرة” بحكم انتمائها الى فئة العمال او تطلعها الى عيش ما تقرأه (قبل انتشار التعليم وتعميمه)، ولا يزال هذا الانقسام مستمراً عند الفئات الفقيرة ولكن المتعلمة، على ما رأى باتريك سينغولاني.
اهتم ستيفان بود في “بلد التعاسة” (لاديكوفرت، 2004) بمسارات أولاد المهاجرين العرب في فرنسا. بطله الرئيسي يونس عمراني، من أصول مغربية، يروي انجذابه الى القراءة، وقد ساعده في ذلك وجود مكتبة قريبة من منزله، بداية بسبب الفضول الذي تحول شغفاً. لكن من الصعب عيش ذلك بالعلاقة مع الحي، لانه يجب امتلاك “صورة” تتوافق مع قيم “الجماعة”. فمكان القراءة كان دائماً ملاذاً، ولكنه خصوصاً مكان فصل وتمييز عن الاخرين الذين هم خاصته. انه مكان يوفر أشياء لا تمتلكها المحاضرات الجافة. انه موقع لانقلاب اجتماعي في عالم يجد صعوبة علائقية في التعامل مع المرأة. اذ يمكن “النقاش مع الفتيات”. ويقول عمراني: “ان المكتبة هي التي انقذتني عندما كنت أعيش أياماً سوداء. ومن دون هذا المورد كنت نهباً للضياع مثل الآخرين”. فاللقاء مع الكتاب يبيّن له ذلك البعد مع الآخر، ويتحدث عن أشياء يرغب في عيشها بقدر ما يحمل تساؤلاً عن الذات وعن النحن.
لماذا القراءة؟
لا شك في ان المدرسة تؤدي دوراً رئيساً في الحض على القراءة، لكن الاسئلة الفعلية هي: ماذا يعني أن نقرأ، وماذا يجب أن نقرأ، ولماذا نقرأ؟ تجري القراءة وفق صيغ عدة: نقرأ مقاطع، مؤلفات كاملة، نقرأ لنحوز مؤهلات، نقرأ للمتعة، لأنفسنا او للتبادل والتداول مع الآخرين، نقرأ لنكتب، نقرأ لنتعلم. والممارسات كثيرة للوصول الى تكريس القراءة من “الحصص” المخصصة لها والمسابقات الى ورش الكتابة ومقابلة الخلاّقين، وجهد الناشرين لطبع الاعمال الكلاسيكية بأسعار زهيدة. بيد انه توجد أمام الشباب خصوصاً عوائق عدة منها عدم اجادة اللغة والعمر، فمن الصعوبة بمكان القول إن القراءة تساعد في “الحلم” وفي بناء عالم مختلف عن الذي نعيشه.
السؤال الفعلي الذي يطرحه نوربرت سارني هو: هل القراءة من أجل “انجاز البرنامج” أم القراءة من أجل فتح الابواب وهز اليقينيات؟
ولماذا القراءة تحتمل إجابات لا تحصى؟ القراءات الحقيقية سرية وخفية وممنوعة!
شهود
يرى كارلو ماريا دومنغيز اننا نقيم عهداً مع الكتب كأنها شهود لحظات من تاريخ حياتنا المدبرة. ونعتقد بامكان حفظها ما بقيت الكتب. فنحن نفضل اضاعة ساعة او خاتم والاحتفاظ بكتاب قد لا نقرأه ولكن في رنة عنوانه تثوي مشاعر قديمة قد لا تعود ابداً.
القراءة النقدية
قد تكون قراءة النصوص المكرسة والمبجلة لكبار الكتاب وسيلة رائعة للتحرر الفردي. فالقراءة تعني عند جورج أرثور غولد شميدت أن نقف على أهبة الاستعداد وامتلاك القدرة على تفعيل النص. وسبق لسبينوزا في “رسالة في اللاهوت والسياسة” ان بين ضرورة القراءة النقدية للكتابات: “على القراءة أن تكون موضحة”. والقراءة في ذاتها مسافة وبعد، وبسبب من الانقطاع الذي تسمح به نتوقف ونعود ونقفز فهي تشجع الروح النقدي وتحفزه بخلاف ما أوصت به الدعاية النازية “لا تفكر بنفسك، فكّر من خلالنا”، لأن التفكير مهمة هتلر.
رؤية العالم
القراءة حين لا تكون مجرد تسلية او “الصلاة اليومية” للصحف، هي في نظر جان لاكوست مواجهة، طويلة ومتطلبة مع كتلة ومع عالم. نظير مواجهة “عوليس” (جويس)، او “الجبل السحري” (توماس مان)، او “الرجل من دون صفات” (موزيل)، او “موبي ديك” (ملفيل). القراءة من هذه الرؤية تفترض جهداً للتكيف مع النص واستحواذه، وحتى تفترض عهداً مع الملل! والتي في المقابل تطبع رؤيتنا للعالم.
واذا ما قرأنا الناقد الفرنسي شارل دوبوس (1882-1939) بدعوة من لاكوست، صديقه، وتوماس مان في “اليوميات”، فأننا نقرأ رواية فعلية حول ممارسة القراءة ومعناها، حول غائية هذا المسار الذي لا يقع ضمن النشاط المفيد (النفعي) او الاكاديمي، ولكنه فعل حيوي و”روحي” وفلسفي وشبه ديني (في اصله).
تدخلنا “يوميات” دوبوس في مختبره الحميم حيث يتشكل القارئ صاحب الحرفة: الناقد. صحيح انه يتحدث عن شخصه، لكن حديث نفسه مخصص كلياً لقراءاته، لمقاربته اعمال الآخرين وتفهمها. وهو يذعر من كلمة “نقد” (النقد الذي رأى جيل لوميتر انه ليس الا فن التلذذ بالكتب) لأنها في جذرها تفصل وتبعد، بينما يريد تلميذ برغسون ايجاد “الوحدة” عند الكاتب، بضع كلمات او استشهادات تعبّر بطريقة ما عن “بؤرة تفكيره”.
البحث عن الفرادة
يتحدث جان كلود بنسون عن قارئ كتبي، لا تلزم القراءة عنده حد عالم الجمال الباحث عن لذات شخصية (بالمعنى الذي قصده بارت في حديثه عن التمتع بالنص). القراءة بالنسبة اليه جزء من ممارسة تسعى وراء فرادة. وهو يبحث عن الاشكال النادرة ويترصد المفاجأة التي تحيّر وتسعد في الوقت نفسه (من مجلة “لا كنزين ليتيرير”، عدد 905).
الدعوة الى القراءة هي دعوة الى “حوار” صامت (او صاخب) مع العالم في ركن منه، تحول “بضع الاوراق الجافة” هذه، كما يعرف سارتر الكتاب، ناراً توقظ الحواس وتدفىء القلب وتنير العقل
ملحق ” النهار ” العدد 714 – الأحد 13 تشرين الثاني 2005

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/7818_141245042549_4563839_n.jpg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/7098