الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

حكاية الإبداع.. وأصوله

543456546354535433

عندما استيقظ رأى نفسه على رمال الشاطئ، كانت الشمس طفلة شقراء والبحر رضيع يشكو الفطام ويتماوج مشتاقاً إلى صدر أمه، وشعر النائم الذي استيقظ بأنه يشعر فكانت الدهشة، وحين رأى الكون أحس بالجمال، فسرّه الجمال وعندما جاء الظلام متوجساً بعصاه حاملاً سراجه، شاهد الإنسان الطفل خلف النجوم صانع النجوم، فتمطى بدلال وراح يحاكي صنع خالقه على الرمال كان خالق الجمال يفترش الأزل ويزدان بتفرده ووحدانيته، لكن الإنسان الطفل يذكر أنه كان ينام فوق رمال الحداثة ويعرف كثرة أشباهه من حوله، فمن أين يأتي بفراش الأزل وجمال التفرد! ورأى في البحر
صورة البحر وفي الشمس صورة الشمس، فهل يستطيع أن يخلق الشيء مثالاً لصورته فالشمس لم تكن شديدة الضياء على يديه، ولم يكن البحر يملك الزرقة والصفاء، وكان ضوء الشمس على يد خالقه نابعاً من الشمس وموج البحر من مياهه، وعبير الأزهار من أكمامها، وصداح الطيور من حناجرها- فهل يستطيع أن يكون صادقاً مثل خالقه؟.‏
من حكاية الإبداع تتكشف لنا أصول الإبداع، فقد يئس الفنان من البحث عن فراش الأزل، لأنه ولد فوق رمل الحداثة فراح يبحث عن حيلة تعوضه عن الأزل، وتمنحه الشعور بالقدم عند أشباهه فكانت معرفة التاريخ وادعاؤه بالانفعال لمجرياته إيهاماً لجمهوره يأنه يحياها، ولهذا نرى اتكاء الفنون على الحدث التاريخي وإسقاطاته، والإشارة بطريق خفي إلى ماهو تقليدي عبر محاولة التجديد والاعتماد على الأساطير والأديان القديمة، كل ذلك لايهامنا بأنه يملك خلاصة التاريخ والوجود وبهذا وجد منفذاً نحو القدم، فكيف يثبت لنا الوحدانية والتفرد، وليس باستطاعته تغيير ملامحه كي يغدو غريباً عن أشباهه؟ كانت المحاولة ساذجة في بدايتها، فالهالة التي صنعها من لبدة الشعر وحمرة العيون وانتفاخ الأوداج والسلوك المعتوه ليست مقنعة بتفرد الفنان- فرأى أن التفرد يجب أن يكون في العمل الفني وليس في شخصه فراح يقتنص الصورة المغايرة لأعمال أقرانه، فغدا التجديد أصلاً من أصول الإبداع- كالأصالة المعبر عنها بمعايشة الماضي، وفي اجتماع الأصالة والجدة نشاهد ميل الفنان نحو البيئة القريبة- فالمحلية طريق العالمية- ومنها تستمد الأصالة والجدة.‏
وكان الوضوح سبيلاً لكي يظهر الشيء مثالاً لصورته- ففي الغموض يختبئ الضعف المناقض للقوة الكامنة خلف جمال الكون، وفي الوضوح تكون الشمس أكثر ضياء والبحر أكثر زرقة وصفاء، أو تكون الشمس شمساً والبحر بحراً، إلا أن رغبة الفنان بالتفرد حتى عن معلمه الأزلي جعلته يشرع في خلق الصورة الجديدة وفي إكساب العمل الفني بعداً أكبر من المحاكاة، إلا أن الشمس الجديدة يجب أن تكون شمساً، فالوضوح أصل من أصول الإبداع، فإن كبر الفن عن محاكاة الطبيعة فإنه لن يكبر عن محاكاة الإبداع، فيظل مقلداً في هذه النقطة على الأقل وفي محاولة الفنان لبعث الدهشة والإعجاب في جمهوره، مثلما بعث الله الدهشة في قلبه كان لابد من الوضوح- فكيف أضحك أو أبكي إذا لم أفهم- ثم إن الوضوح برهان قدرة الفنان على الفهم، فالقدرة على التعليم دليل على امتلاك العلم.‏
ثم يأتي الصدق أصلاً آخر من أصول الإبداع ، فلأننا نحب أن نرى في الشيء ذاته ومثاله، على الفنان أن يقنعنا بأنه قديم متفرد قادر على الإفهام، عالم ببواطن الأمور ولكي نصدقه عليه أن لايتجرأ ويبالغ كثيراً فيخسر اللعبة كلها، فمن يشير إلى عصفور قائلاً لك -هذه حمامة- هو أقرب إلى إقناعك ممن يقول: «هذه بقرة» والصدق أو الحقيقة في العمل الفني لايعنيان الحقيقة الوجودية بل يعنيان مايجعلنا نشعر بالصدق والحقيقة.‏
فالصدق والحقيقة قدرة على الإقناع، ومن هنا يتفرع موضوع كبير حول اتفاق سلوك الفنان واللوحة الفنية أو الازدواجية بين السلوك والعمل الفني- فسلوك الفنان إذا غاير طرحه -واكتشفنا ذلك- كان احتقارنا لصوته شبيهاً بانزعاج سامع لصوت بلبل اكتشف أنه يصدر عن بوق سيارة عابرة.‏
– نشرت في 21-7-1983 -الفداء‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *