حـنا مينــة روائي البحـــر العـــربي..

by tone | 30 أبريل, 2014 10:13 م

3w181007[1]

يقول حنا مينة: «اكتشفت أن البحــر وعالمه مجهولان بالنسبة للقارئ العربـــي»

إن حنا لم يقل هذا الكلام ليبهر القارئ العربي، ولم يقله كذلك دون أن يعي أو يعني ما يقول، ذلك أن هذه الأرض البكر/ البحر على حد تعبيره، بالنسبة للأدب العربي، لم يطرقها إلا القليلون،والحق أن معالجة البحر فنيا قلما تُنبه لها رغم «أن البلاد العربية بمجملها واقعة على أطراف البحار» كما يقول سعيد حورانية في تقديمه لرائعة حنا «الشراع والعاصفة»، فلم يكن الكاتب ليسقط قلمه عن الإحاطة بعالم البحر بعد أن جزم بأن هذا العالم بعيد عن القارئ العربي رغم قرب هذا منه، فكان من إحساسه هذا كتابات كثيرة عن البحر وعالمه حتى باتت من الأهمية بمكان دراسة آثار الروائي المبدع حنا مينة بقصد تبين الوحدة بينها، وتتبع تطور اهتماماته التي غالبا ما تنصب حول عالم عائم بالحركة والتناقض، إلى الحد الذي نقف فيه عند جزئيات كثيرة تخص عالم البحر وعندما يتعلق الأمر بالكتابة عنه فإن لذلك أثره على نفسيتنا كقراء، لأننا لا نقرأ البحر حينئذ كما نعرفه نحن، وإنما نتعرفه من خلال وجهة نظر كاتب كبير وهب نفسه لهذا الأزرق الواسع، وآثر الماء مدادا لقلمه، وبمهارة سبر أغواره، و توغل في الأعماق ليميط اللثام عن أدق التفاصيل.

ولن أجانب الصواب إذا ادعيت أو غيري فعل أننا نستطيع أن نحيط بنظرة حنا مينة للبحر لأن نظرتنا إلى أعماله تكون، عندئذ، أشبه ما تكون بعلاقته بالبحر الذي أولى له كل العناية، ومع ذلك يقر بأن هذا العالم العائم أكبر من أن يُحاط به.

إن دعوة حنا مينة الصريحة لغزو عالم البحر إبداعا، لتقريبه من القارئ العربي في رواياته التي تربو عن أكثر من أربعة وثلاثين عملا، تجعلنا نعترف بموهبة غير عادية لدى الرجل، ومن يقرأ رواية “الشيخ والبحر” لإرنست همنجواي من حقه أن يتغنى بهذا العمل الفذ كما تقول الكاتبة السورية نجاح العطار، ومن يستمتع برائعة هرمان ملفل ” موبي ديك” يرفع يده ويقدم تعظيم سلام للإبداع الراقي، لكن سؤالا بدهيا يفرض نفسه:

هل عندنا روائي عربي أولى للبحر أهمية مثل همنجواي، وهرمان ملفل؟

عندما اكتشف النقاد،الدكتور سهيل ادريس خاصة، أن حنا مينة هو “روائي البحر العربي” دون منازع كفونا عناء البحث، وفي الآن نفسه لفتوا نظرنا إلى أعمال حنا مينة الروائية الجديرة بالقراءة.. ومن يقرأ “الشراع والعاصفة” أو ثلاثية حكاية بحار سيفخر بحنا مينة:مجنون البحر كما أحب أن أسميه؛ والنقاد، في كثير من دراساتهم التي خصوا بها حنا، لم يكن أحد منهم يأخذ مجرى آخر غير عالم البحر وكيفية تناوله.

إن هذا الأزرق الواسع استطاع أن يمتلك حنا مينة امتلاكا بعد معاشرة طويلة، وصداقة حميمة لم تكن من النوع الذي يتعذر على الإنسان، البحار خاصة، نسيانها بسهولة.

صداقة حنا للبحر كفتني، كعاشق للبحر، الاستمرار في البحث عمن كتب عن البحر.. إنه روائي البحـر العربي بدون منازع، وإذا كان يؤكد هو نفسه، ويعتبر نفسه نصف مجنون، ونصف عاقل في روايته “عاهرة ونصف مجنون”، فمن حقي أن أؤكد،إعجابا بالرجل،بأنه مجنون، ومجنون، ومجنون لا نصفا، لكن كليا، وبودرة جنونه مستمدة من ملح البحر الذي أحبَّه وبجنون.

معالجة البحر في الأدب عموما وفي الرواية خاصة

لا أحد يماري في أن الأدب العربي قد عرف تطورا ملحوظا ينسحب على جميع مجالاته، ويعم أشكاله وأنواعه التعبيرية، وبصفة عامة فإن الأدب العربي لم يقصر اهتماماته وتوجهاته على موضوع دون غيره، ولكنه رام في هذه التوجهات، كل الموضوعات الممكنة، بل وتطلع إلى عوالم يخلقها من نسيج الحياة، أو يبتدعها من معطيات الواقع في أدق جوانبه الخفية كما هو الشأن في موضوع المقامات، والرحلات الخيالية عبر ما هو عجائبي( رسالة الغفران- التوابع والزوابع) وهو في ذلك كله ليس بدعا في الآداب العالمية، بيد أن التفاتته إلى عالم البحر كموضوع متميز قائم بذاته أمر لم يتيسر بشكل أكثر اكتمالا ن وأبرز خصوصية إلا مع المبدع حنا مينة في أكثر من رواية… وبالطبع فإن هذا لا يعني إطلاقا أن غيره من الأدباء لم يقتحموا عالم البحر، أو لم يتمرسوا بمخاطره، ينضاف إلى ذلك اختلافهم في طبيعة الرؤية إلى هذا العالم المليء بالتناقضات بحيث إن تعاملهم معه ليس في مستوى واحد، وإنما يتبدى،عندهم، في تجليات كثيرة، ومستويات تختلف باختلاف مشاربهم الاجتماعية، ومرجعياتهم الإيديولوجية، والفنية..

هناك عدة قرائن تؤكد هذه الأهمية القصوى التي تُولى للبحر ولعالم البحارة، من بينها سعته، فهو يحتل مساحة واسعة في مجال/ مكان الوجود، في حين يحتل البر مكانا صغيرا بالقياس إليها، فللبحر نسبة %73 ونصيب البر منها هو 17 فقط%، وهو بذلك يفوز بحصة الأسد فلكأن ذلك نوعا من التحدي من البحر الذي يفرض على الأدباء إعارته كل اهتمامهم.

قد لا يكون من المتيسر دائما استغراق عالم البحر و الإلمام به بشمولية، ذلك لأنه عالم عائم بالحركة، والحيوية، والخطورة، والمفارقات.. لا يستقر على حال أبدا ؛ أشياؤه/ مكوناته: موجه، ريحه، مده، وجزره، عواصفه،… في حركة مستمرة، ولذلك يمكن القول بأن للبحر هيبة تستعصي على الإحاطة بها، وإعطائه ما يستحق من الاعتبار والأهمية فكأن لسان حاله يقول: ” تعالوا اقر أوني”..

ثمة أدباء لبوا دعوة البحر فقرأوه بهدف سبر أغواره، واستجلاء مكامن سره، والقبض على مفتاح سحره، وقد تُفسر هذه القراءة بضروب كثيرة من الوشائج القائمة بينهم، وبين البحر، حتى لكأن تعاملهم يتموضع في مستوى تفكيك وحل ألغازه من أجل إضاءة أغواره لإيجاد صيغة للتعايش بينهم جميعا.. من هذا المنطق جاءت أعمال بعضهم تحمل في ثناياها كثيرا من بذور التعايش سواء على مستوى الالتحام الإيجابي إلى حد الانصهار، أو التباعد السلبي قد يقترب من التنافر والمواجهة العنيفة.
البحر في الفن عامة

قبل التطرق إلى استعراض هذه الفكرة أشير إلى أنني سأركز على معالجة الفن بصفة عامة للبحر، باعتبار أن البحر هو موضوع لا يقل أهمية أو يزيد عنها إلا بحسب تعامل الفن معه، فبمقدار توظيفه في توصيل مضمون ما، بمقدار ما يكتسب الأهمية، وذلك سواء في النثر، أو الشعر،أو السينما، أو الرسم، أو المسرح، إلا أنني لن أتعرض لكل هذه الفنون، وإنما سوف أمثل فقط لبعض الأجناس التعبيرية للبرهنة على أن البحر عولج فيها بطريقة أو بأخرى، قد تتفرد طريقة ما في معالجته، وقد يأتي الحديث عنها عابرا بغرض إيضاح جانب من جوانبه..
البحر في الشعــر

لم يكن البحر لدى بعض الشعراء مستعملا للإحاطة بعالمه، وأشيائه بقدر ما كان مستعملا لخدمة بعض أوجه البلاغة، أو الاستعارة،أو الكناية علما من هؤلاء الشعراء بأن البحر عظيم و فريد، عظمة وفرادة تغدوان تيمتين من تيمات أشعارهم من غير التوغل في عالم البحر لإبراز مكامن عظمته، والشاعر إذا أراد أن يبرهن على عظمة اللغة العربية مثلا يلتفت إلى البحر ليحظى بالصورة المبتغاة، يقول حافظ إبراهيم(شاعــر النيل):

أنا البحر في أحشائه الدر كامن فها سألوا الغواص عن صدفاتي؟

ويقول مادحا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:

فأنت بهم كالشمس بالبحر إنها ترد الأجاج الملح عذبا فيرشف

إن تعامل حافظ إبراهيم مع البحر تعامل لا يضفي أي جديد يمكن ملاحظته في هذا الأزرق العائم بالحركة، وبالتناقضات الكثيرة، فالبحر عند هذا النوع من الشعراء عظيم فقط، عظيم لماذا؟ عظيم بماذا؟ كلها أمور يخلو منها شعرهم، وأكثر من ذلك فإن البحر عند بعضهم مجرد تكئة تصلح لأن يسافر عليها المرء، يقول البحتري:

ولقد ركبت البحر في أمواجـــه
وركبت هول الليل في يباس
وقطعت أطوال البلاد وعرضها
مابين سندان وبين سجنــاس

هذه الرؤية ستختلف عند بعض الشعراء اختلافا كبيرا في تعاملهم مع البحر الذي يحظى عندهم بالبطولة، والدور الرئيس في مجمل أشعارهم، هي عِشرة تغدو والبحر نوعا من المغامرة، ونوعا من الخطورة، تصبح معها كتاباتهم عنه التزاما يتحول معها إلى قضية وشيء غير قابل للهزيمة على حد تعبير المرحوم محمد درويش الذي يضيف إلى هذا ويقول:

” أتأمل البحر، وآمل في أنه ما زال كبيرا، وأزرق، وحيدا ومغلوبا على أمره، جئت من الصحراء وبت أشعر بالجفاء لكل ما كان قريبا مني ذات مرة، لذلك فأنا ذاهب لأتأمل البحر، الزبد الأبيض الطري يشير إلى أطراف الموج ينبئ بأكثر من كل تصريحات القادة، العلم، الوطن، الجريدة، الإذاعة، والتلفزيون،أنا ذاهب لأتأمل البحر… مطر يسقط على الماء، ولا حاجة بي إلى البكاء… البحر دموعي.”

الذهاب إلى البحر إذاً إحياء وانطلاقة بعد أن بات الشاعر يستشعر الجفاء في كل مكان قريب منه،في وقت غدا فيه البحر أكبر نعمة، فلم يكن ليخفف من وحشة الشاعر، في استشعاره بالجفاء وتصور الشقاء الذي ينبع من وضع غير طبيعي لمجتمع تسحقه الهزيمة سوى الذهاب إلى البحر ليصرخ بضرورة صد الظالم؛ والبحر في النهاية رمز للانطلاقة، والانفتاح على واقع جديد أناسه يمتلكون قلوبا تمتلئ بالإيمان، وتخلو من كل حقد وضغينة، لكن سؤالا يفرض نفسه:

هل البحر حقا رمز للانفتاح والانطلاق،
وفي الجواب يقول محمود درويش:
بيروت..لا
ظهري أمام البحر أسوار و… لا
قد أخسر الدنيا.. نعم
قد أخسر الكلمات..
لكني أقول الآن لا..
هي آخر الطلقات.. لا
هي ما تبقى من نشيج الروح.. لا
بيروت..لا.

فلا نملك غير أن نحتار بين وجوه هذا البحر المتعددة، فبعد أن كان رمزا للانفتاح يصبح رمزا للسجن، والمنفى، والبعد..

ما ذنب الإنسان أن يعيش تناقضات البحر؟

وللشاعر خليل الخوري قصيدة جميلة بعنوان ” إلى البحر” وقف فيها عند تعددية البحر في كونه يملك وجوها شتى، كل وجه بألف مسحوق، ومخطئ من يدعي أنه يعرف البحر..

هذا البحر الذي كلما اعتقدنا أننا نعرفه نصطدم بحقيقة جهله، يقول خليل الخوري يصف وجوه البحر:

“عظيم هو البحر، أعظم من كل السلاطين، كل المماليك أعرفه أنــــــــــــا
شاهدته هادئا،أنا شاهدته جيشانا وطوفان موج، إذا راح يعلو، وأفلت من طوقه
ثم أزبد،طارت شرارته، جاوز البحر أعماقه، والتقى سطحه
والهدوء الذي فيه، بالقاع، والغليان الذي فيه، آنئذ تبدأ اللعبة الخطـــرة…”

وكلما واصلنا قراءة القصيدة عثرنا على الوجه الآخر للبحر بعد أن نكون قد استأنسنا بالوجه الأول:

“وخطير هو البحر، أخطر من كل شيء، خطير هو البحر في لحظة الغضب
المتعاظم، أخطر من كل أسواره، من سواحله، حين يرتطم السطح بالعمق، والموج بالصخر،
والصخر بالصخــــر
حين تروح سلالم موج تطول السماء، وحين تروح السماء نزولا إلى البحر في لحظة من عناق
النهايات، في لحظة من عناق البدايات ينشق عنها الزمان الذي يلتقي بالمكان، وتبتدئ اللعبة الخطرة..”

فأي عالم هذا الذي لا نملك إزاءه غير الانبهار والدهشة؟

إنه البحر بكل عجائبه، وتناقضاته، إنه مرآة تعكس واقع الفئات التي تعيش بين مده، وجزره،، فهو ثورة،ورهبة،وفرحة،غير أن فرحته غالبا ما تمحي لتترك المجال واسعا لسلطة غضبه، فلا نملك غير أن نقول ما قاله الشاعر علي الصقلي يصف هذا الواسع:

سماء أنت في الأرض استقرت
تعانق أختها من ألف دهـر
تحاكيها سكــــونا، واضطرابـــا
وفي خير تضاهيها وشـــر

البحر في الشعر العالمي

في الشعر العالمي لن نعدم العثور على أسماء لشعراء كبار اهتموا بالبحر اهتماما بالغا، منهم على سبيل المثال لا الحصر: بابلونيرودا، ناظم حكمت، والت وايتمان، سان جون برس، رفائيل ألبرتي…وغيرهم كثير، من بينهم من فرض نفسه فاشتهر به،ولاسيما ناظم حكمت، والت وايتمان وبابلونيرودا؛ ولِوا يتمان الشاعر الأمريكي الكبير مجموعة من القصائد البحرية مثل ” الإبحار في الميسيسيبي”، وله ديوان مشهور هو “أوراق العشب” الذي يعتبره النقاد أعظم الأعمال الشعرية في أدب البحر، واللجوء إلى الطبيعة في العالم، يقول وايتمان:

إن أردت أن تفهمني، فاذهب إلى الأعالي
أو إلى شاطئ البحر
حيث أقرب بعوضة شرح
وحيث القطرة، وخاصة الموج… مفتاح
وحيث القدوم، والمنشار اليدوي
عون كلماتــــــــــــي
في السفن المبحرة، تبحر كلماتي..
إنني أمضي مع الصيادين، والبحارة…
وأحبهـــــم.

ولقد اهتم وايتمان أكثر بالمعارك البحرية بحيث يسجل في قصائده البحرية رؤيته للمعركة البحرية، كما يعبر عن النهاية المأساوية لهذه المعارك التي تسفر عن جرحى، وضحايا، وموتى، يقول:

متمددا، وساكنا، يرقد منتصف الليل
شبحان عظيمان لسفينتين، بلا حراك، فوق مدد الماء
سفننا المنخورة بالقذائف تغرق شيئا فشيئا
نحن نستعد للانتقال إلى السفينة التي استولينا عليها..
أكداس لا شكل لها من الأجساد
وأجسام منفردة
ومزق من اللحم على الصواري، والأعمدة
حبال مقطعة، وحواجز متدلية..

إلى أن يقول في نفس القصيدة:

اندفاق الدم المنهمر، والصرخة الوحشية القصيرة
ثم الأنين الطويل الكابي
هاهو ذا.. ما لا يُستعاد..

إن مثل هذه المعارك البحرية تحمل من الانطباعات والأحاسيس ما يجعلنا نصغي أكثر إلى همس كلمات “وولت” وسط البحر؛ وفي قصيدته ” معجزات” يقول:

أرى البحر معجزة
الأسماك- الصخور- حركة الأمواج
والسفن ذات الرجال
ترى.. كم من المعجزات هناك؟.

وعن هذا المقطع يعقب الناقد أحمد محمد عطية في مؤلفه “الشعر والبحر”:” فالبحر معجزة مستمرة تحتوي الأمواج، والسفن،والصخور، والأسماك، إنه انطلاق بلا حدود، إلى عالم وايتمان، عالم الخلاص والحرية، والعدالة، والمساواة، والديمقراطية”.

إن قصائد والت وايتمان عن البحر تعكس بوضوح عالم البحر بكل زخمه، وبكل ما فيه من معجزات، والبحر عنده حاضر أبدا بالقدر الذي لا يمكن أن نقرأ قصائده دون أن نلفي أنفسنا أمام عالمه، وسط سفينة عائمة، وغالبا ما تكون في صراع مع البحر، وهي فوق البحر، أو مع سفينة أخرى، والبحر مكترث، لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة في مملكته، يراقب كل حركة وهو مهيب الجانب و يصدر أوامره، إنه يحكم بأمواجه، وعواصفه، ورياحه، ومده، وجزره، وحتى بالبحارة، فهم فوقه في أعماق اللجة، أولاده يناغيهم ويهدهدهم.

أما الشاعر التركي الرائع ناظم حكمت، فله من القصائد الشعرية حول البحر ما نحس معه بالتخمة البحرية إن صح تعبيري، حقيقة له قصائد جميلة ماتعة في أدب البحر، ولعل من أهم قصائده:

“العودة إلى البحر”،و “بحر الخزر”؛ ومن النقاد،أحمد محمد عطية منهم، من يرى أن القصيدتين قد أثرتا تأثيرا حاسما في روائي البحر العربي حنا مينة.

والبحر عند ناظم حكمت حياة وقوة، ونضال، وتحقيق لذات الإنسان، ومجال لإثبات قدرته على مواجهة قوى الطبيعة، ذلك هو نموذج رجل البحر، ولا يغيب عن عارف بالبحر كناظم أن يحذر البحارة من غدر البحر، وألاعيب الأمواج، وعنف الريح..

ففي البحر يجد ناظم حكمت فرصة عمره للإبحار، وسط سفن صنعها الإنسان بموهبته وعلمه، وحمايته في معارك الصراع مع البحر..إنه لا يهاب البحر لأنه يطاوله، ويعرف مفاتيح أسراره، ولا يهاب الموت في البحر لأن الموت قدر أكيد لا مفر منه.

ونلحظ عند رافاييل ألبــرتي بأن البحر حياة وبعث للأصوات الميتة على الأرض، فأنْ يمت صوت الشاعر على الأرض لا يعني البتة أنه لن يرتفع صوته بالمطالبة بكل شيء فيه نقد بناء للمجتمع خاصة إذا كان البحر كما يراه رافاييل فرصة سانحة لإعادة هذه الأصوات التي تستمد قوتها من عالم البحر،وكذا من أريحية الربان المتجلية في قوة الشخصية، وعلى إنسان الأرض أن يبدو كما الفارس المغوار، فوق ظهر البحر، وسط اللجة.
يقول الشاعر:

أن يمت صوتي على الأرض
فخذوه إلى مستوى البحر
واتركوه على الشاطئ
خذوه إلى مستوى البحر
واجعلوه ربانا..
لسفينة حربية بيضاء
آه صوتي نزيه
شارات الملاح
على القلب مرساة
وعلى المرساة نجمة
وعلى النجمة ريح
وعلى الريح شراع..

وهذا سان جون برس الشاعر الفرنسي الذي عاشر البحر منذ حداثته يعبر في قصيدة له عن التوتر والقلق، والرتابة التي تواجه الإنسان في مختلف المهن دون أن ينسى معاناة البحارة الذين ينفذ صبرهم إزاء ضيق الدنيا ورتابتها:

نفاذ الصبر، ما يزال يحيط من كل
الجهات: والرجل الغريب، في كل
ناحية يرفع رأسه لكل ذلك الرجل
الفارس في بلاد عارية
…في انفجار على أشرعته.

أما “مغني آلام أمريكا” بابلو نير ودا فقد شغفه البحر، وسكن منه القلب والأهداب، فلم يكن ليعزف عن الكتابة عن عالم البحر، له من القصائد ما يعكس هذه العناية، فهو يعايش الأشياء من الداخل، ويخصها لشعره، ولا شيء يبقى خارجا عن مجال الشعر،لا السماء،ولا الأرض، ولا الحجر، ولا الإنسان ولا الحب…

هكذا يصبح البحر في أعمال هؤلاء الشعراء ملحمة، وعنصرا بارزا له من الخصوصيات ما ينفرد به كل واحد، أمور تحتم على هؤلاء الشعراء/ البحارة، الوقوف على البحر كما وقف الشاعر الجاهلي على الأطلال، لا للبكاء، أو التحسر،وإنما لتبين أسرار هذا العالم وترويضه قصد إحداث حالة من التآلف، والانسجام..

و الباحث عن شعر” البحر” في الأدب العالمي لن يعدم وسيلة، حسبه أن يستقري دواوينهم ليقف على درر بحرية تمنحنا تأشيرة الإبحار في عالم جميل، يغري بتأبط الحقائب من أجل السفر لمعرفة هذا الأزرق الواسع.
البحـر في الرســـــــــم

إن الفن عموما يهدف إلى البحث في غمرة الواقع المليء بالتناقضات عن حياة جديدة فيها كل طموحات الفرد و أماليه.. هذه الحياة الجديدة أبرزها الفنُ عموما في نماذج مختلفة وكانت،في الغالب،المعين على وضع اليد على أهمية البحر كجزء من الطبيعة طالما حاول المرء، منذ فجر التاريخ، السيطرة عليها قصد ترويضها واستخدامها لصالح البشرية.

في فن الرسم مثلا نعثر على لوحات حية تحمل في طياتها صورا مختلفة لعالم البحر لما فيه من حركة وحيوية، والرسم أصلا يحتاج هذه الحركة لأن البحر يسعف الفنان، فضلا عن لمسته الموحية المنتقاة منه، و البحر، عند الرسامين على اختلافهم، قد أملى عليهم نوعا من الدقة في معالجته كتيمة مطروحة في اللوحات، فهو يفترض قدرا كبيرا من الصحو، ودقة الملاحظة، باعتبارهما عنصرين أساسيين يمكنان من محاكاة الواقع وإيضاحه فيما يسهل الفهم والتأثر والمشاركة الوجدانية.

الرسام المصري سيف وانلي أنجز ما يقرب من ثلاثة ألاف لوحة زيتية، لوحات منها خصها لعالم البحر الذي ظل قريبا إلى قلبه حتى الصداقة الغامرة، لقد كانت المراكب، والسفن الذاهبة إلى بعيد هي إلهامه الحزين، وهو إلهام ينطبق على لوحته الخالدة التي أسماها ” البتاتيك” أو “السيمفونية الصادقة الحزينة” برزت فيها وحدة المثلث بما يجعل ناقدا شهيرا مثل فؤاد سليم يقول بأنها، ربما أمواج البحر، وربما أشرعة المراكب المسافرة..ولأن البحر كان هو إلهامه الذي سيطر علي تفكيره، فقد أنجز سيف مجموعات متكاملة تدور في موضوع متحد، (الإنسان والبحر)، و(الإنسان والفناء) و (الإنسان والصحراء).. وهي عناوين تنم عن اهتمام واضح وبالغ بالطبيعة، والعودة إلى سبر أغوارها الدفينة كما تؤكد على مدى معاشرة سيف وانلي للبحر.

وجعل أحد رسامي القرن التاسع عشر الأمريكيين ونسلوهومر البحر تيمته الرئيسة في أعماله الفنية، من ذلك رسمه رجالا أبطالا وهم يضعون قوتهم وذكاءهم في تجربة تحدٍ تجاه البحر، ومن لوحاته التي انفردت بعالم البحر:” خط الحياة، و” تحذير الضباب”.

ويعتبر الفنان جي.م. ديليوتيريز الإنجليزي من أعظم رسامي منظر الطبيعة الأرضية، وتميز بعد ذلك بالرسوم البحرية، ولعل عناوين لوحاته التالية تؤكد ذلك: “تحطم سفينة”، “حطام سفينة شحن”، “سفينة العبيد”، و” السلام: دفن في البحر”.

ومع أن البحر حاضر في ورقة صغيرة بين أيدي هؤلاء الرسامين، فهو مع ذلك يتبدى بكل زخمه، ليعرض من خلاله الرسام عوالم إن لم تستمل المتأمل فقد تلفت انتباهه إلى ما حوله من “ماء”، وإن كان في مجرد لوحة، إنه يغدو عالما من الجمال، والحيوية، وبحرا من المتناقضات..
البحر في السينما..

لم تكن السينما لتغفل موضوع البحر فيما عالجته من قضايا وأطروحات، خاصة وأنها تجمع بين الصوت والصورة، ففي السينما العربية يتصدر الفيلم الكويتي ” بس يا بحــر”[ سنة إنتاج الفيلم 1971، المدة الأصلية للعرض 90 دقيقة.. فاز الفيلم بجائزة النقاد في مهرجان البندقية لسنة 1972].. آثر مخرجه خالد الصديق أن يكون” البحر” هو تيمته الرئيسة كما يدل على ذلك عنوانه،والفيلم يروي قصة جانب من جوانب الحياة في الكويت قبل اكتشاف النفط، ويصور في بساطة، ودقة الكفاح من أجل العيش، والكفاح بين الإنسان والطبيعة المتمثلة في البحر وأخطاره؛ بطل الفيلم يدعى مساعد، شاب يافع يتطلع إلى البحر أملا في الحصول على لؤلؤة تنقذ عائلته من الفقر، وتحقق له أمنية الزواج من محبوبته، لكن أباه شيخ الغطاسين فيما مضى والذي هاجمه سمك القرش وأصابه بشلل نصفي يعترض سبيله لأنه لا يريد أن يذهب ضحية البحر القاسي، ورغم ذلك يصر مساعد على قراره في النزول إلى البحر وهو في أمس الحاجة إلى عطاء البحر، فدامت رحلة مساعد لأربعة شهور بحثا عن اللؤلؤة في قاع البحر، وهي “كنز” تتوقف عليه حياة أسرة، مساعد خاصة..غير أن مساعدا أبحر ولم يعد، فكان هو اللؤلؤة المنشودة التي يطالها البحر.

وبعد هذا المشهد الأليم لنا أن نتصور أمه الثكلى وهي تهيل على رأسها التراب، وفي الوقت الذي يأتيها صديق ابنها باللؤلؤة العجيبة، فما أن تراها حتى تقذف بها إلى البحر وهي تصيح ” بس يا بحر”.

أما فيلم ” تيتاينك” الفائز بجائزة الأوسكار فقد أبهر العالم بمشاهد رائعة عن البحر، لعب فيه المخرج على نقل صور يتبدى فيه البحر قُلب المزاج كاشفا عن وجهه الآخر حين يكشر عن أنيابه..وكل الأعمال الروائية الجميلة التي اتخذت من البحر تيمتها الأساس قد أنتجت سينمائيا مثل ” الشيخ والبحر” الذي أخرجه جون ستورجرز John sturges، أما “موبي ديك” لهرمان ملفل فهي ملحمة بحرية بكل المقاييس زادتها السينما حياة أخرى.و يصف برنارد شو رائعة ملفل قائلا:” منذ عرف الإنسان كيف يكتب لم يوجد قط كتاب مثل هذا، وعقل الإنسان أضعف من أن ينتج كتابا مثله، وإني أضع مؤلفه في مصاف مؤلفات رابله، وسويفت وشكسبير.”

إن الغرض من انتقاء هذه الأمثلة عن البحر وعالمه هو تبيان مدى أهمية البحر في الفن عموما والأدب خاصة، ولقد تجلى البحر فيما سلف بحضور و هيبة، الأمر الذي يدعو إلى الوقوف عند موضوعه، وهو في تداعياته يستدعي تفقد رجل البحر في صراعه مع الطبيعة المتمثلة في البحر: موجه، حوته، ريحه، مده، وجزره،عواصفه..كل ذلك لوضع اليد على الحقيقة المرة في معانقة إنسان البحر لهذا العالم رغم ما يواجهه من أخطار، وكل ذلك من أجل أن يعيش، وأن يعرف المحيط الذي ينتمي إليه، وأكثر من ذلك فصراع رجل البحر مع هذا الأخير نموذج الرجل القوي الذي لا يقهر، والذي ينبغي أن نسير على هذي من منواله في التصدي والتحدي، ونؤمن بأن ما من شيء يمكن أن ينال منا إذا اقتحمنا خصمنا بقوة.

إن مثل هذا الإنسان يؤكد على خصوصية عدم التبعية، والاعتماد على القوة لدحر القوة، ورواية “الشيخ والبحر” تشير إلى هذا المعنى وهي تلخص فكرة أن( الإنسان يمكن أن يُهزم لكن لا يمكن أن يُقهر أبدا..) وكونه المتناهي في حضرة اللامتناهي/ البحر لا ينقص شيئا من صموده وقوته.

أما روائي البحر العربي حنا مينة فلقد تغنى،بأساليب شائقة وشاعرية،بالإنسان البطل الذي يقاوم البحر،في أبهى تجليات هذه المقاومة، بالشكل الذي يجعلنا نتساءل من أي طينة جُبل عليها هذا المخلوق الذي ولد ضعيفا، هلوعا، ومع ذلك هو محافظ دوما على إحدى براعاته في الأرض وهي قدرته على النهوض بعد كل سقوط.

تغنى حنا مينة بشجاعة البحار في صراعه مع البحر، وأوقر في أذهاننا على لسان الطروسي بطل “الشراع والعاصفة” أن “الحياة كفاح في البحر والبر”، وفي صورة جميلة معبرة كعادة مجنون البحر يورد في روايته الرائعة “ الشراع والعاصفة” الحوار التالي بين الملك والملكة حول إنسان الأرض الذي يتحدى مملكتهما المائية..

يرى ملك البحر إلى إنسان الأرض، فوق البحر، وسط اللجة، متحديا الموج والعاصفة، ويبدو سيد مصيره.. فيسأل الملك الملكة:

[” من هو إنسان الأرض هذه؟ إنه مخلوق ضعيف.. دعي الأمواج تداعبه وتصرعه، دعيها تقضي لبانتها في يوم لبانتها”..

ترد ملكة البحر قائلة:

” ضعفه خادع.. فلا تصدقهم، إنهم أقوياء، وأنا أعرفهم، لقد تجولت في مملكتهم كثيرا”..
يصرخ الملك في جيوش الريح:
“…أسرع، أسرع أطلق التيار المجنون، مر الهواء والماء والبرق، مرهم أن يصرعوه، أن يردموه بجبال الموج، مرهم أن يمزقوا شراعه،ويحطموا ساريته، ويكسروا مجاديفه ويبددوا مركبه…ّ” ]

هناك حقيقة يجهلها ملك البحر، وربما يتجاهلها ( الملكة تعرفها وتقر بها ) تلك أن إنسان الأرض، وسط البحر، رجل بكل المعاني المسطورة في الكتب،والمنقوشة على الأحجار،و على جذوع الأشجار… ليس بمعنى الذكورة، لكن بمعنى الأريحية المقترنة بالقوة دوما، والبحر يذكي هذه القوة ولا يضعفها.. يتحداها أيْ نعم، لكنه يباركها كرْمى لإنسان الأرض هذا الذي اعتاد تعريض نفسه للخطر،والذي في نفسه ولاء للأرض، والمحافظة على نظمها التي لا تتغير في البذر والحصاد، أما ولاؤه للبحر فمقترن أبدا بمدى قوته وبطولته التي يتوقف كل شيء فيها على البراعة الفردية، وعلى العزيمة والقدرة على الحركة والذكاء كما يؤكد ذلك الطروسي..

وهي نفس الصفات التي تقف عندها ملكة البحر منبهرة بإنسان الأرض وتقول:

” كم هو قوي، إنه يقف وراء الدفة مبللا، ممزق الثياب، مشعث الشعر مفتول العضل…يا لك من عنيد أيها الواقف على الدفة، يا لك من شجاع، يا لك من بحار”..
..وهكذا نقول مع اٍرنست فيشر بأن الأدب والفن قد كانا منذ الأزل” سلاحا إضافيا عظيما في الكفاح ضد قوى الطبيعة الغامضة”.

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/3w181007.jpg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/7133