غزال القصيدة، كما يجلوه صقر عليشي

by tone | 29 يوليو, 2014 7:45 م

chirrr_257184162[1]

إذا كان الفن هو غائية بلا غاية ـ كما يقول كانط ـ فإن في ذلك قدراً ليس بالقليل مما ينطبق على قصيدة الغزال، أو غزال القصيدة، كما يجلوه صقر عليشي، وينأى به، في صوغه القريب ومباشرته الآسرة. ولأنّ غزال الشعر لا يرتدُّ إلى غير نفسه بات من الممكن القول، جرياً على هذا الوفاق، إن قصيدة صقر تأخذ من ضروب الفنّ واتجاهاته المختلفة دون أن ترتدّ إلى واحد منها. فهي غزال آخر ينظر في مرآة نفسه فلا يحيل على غير «غزاليّته» الجوهرية، وفرادته التي يكون تعريفها مجرد مقاربة لها بالسلب والإشارة:
(( وكانَ غزالاً‏
كالغزالِ‏
ولم يكنْ‏
ليشبهَ إلاّ نفسَهُ‏
في حكايتِهْ )) .‏
حدود الشكل ومتغيرات التحديد :‏
يبني صقر عليشي قصيدته على نظام البيت ويقيمها،عروضياً على البحر الطويل الذي يعيد توزيعه على نحو يتجاوز نظامه المستقر في تقابل المصراعين، ويبدي في صنيعه هذا مقدرة عالية على تطويع المبنى بكثير من المرونة، التي تتيح له إمكانية التصرّف بالكتلة اللفظية في هندسة القول بحيث يفي بمتطلبات النظام العروضي الموروث وبخاصيات التحديث الموصولة بمفهوم السطر الشعري والعلاقة البصرية ونظام الفضاء الأدبي، بما ينطوي عليه في مغايرته القصدية من مؤثرات شكلية وموجهّات قرائية وحمولات معنوية ومكامن دلالية.‏
هذا ويبدو لي أن تشريد الشكل العروضي عن مداره المألوف ومستقرّه الشائع هو، بنائياً وجه آخر لغزال الشعر في شروده وتأبيّه وفي انطلاقته المتخطية للتحديدات المعنوية العالقة به والمتفلّتة من قيود البلاغة التراثية المؤطرة له في دوائر التوظيف والاستخدام.‏
صحيحٌ أنّ المكوّن البلاغي حاضر يلفت إلى نفسه بقوة الإدهاش والخّلْب لكنّ حضوره هو ذلك الحضور المنفي الذي يجري استثماره بدلالة التبعيد لا التقريب، ومن هنا يغدو إشارة تُسلم إلى التجاوز، وتفتح السياق على أفق يبارح التعيين، ويندُّ عن شَرَك الحصر والاستهلاك. فالمكوّن البلاغي في قصيدة «الغزال» يشتغل، إذاً، بخاصيّته الإشارية، فيواجه جانب الإثبات منه بقوة النفي التي تعطّل الامتلاك، وتصون سياق التشكّل والتنامي والتوالد من الامتلاء والنفاد، فتمنعه من الانغلاق على المشار إليه بدعوى الإحاطة والتقرير بل إنها فوق هذا تغذي فيه نشاط النأي والامتناع فلا يكون -والحالة هذه- تطويقاً للشكل ولا قيداً على المعنى، وإنما يتقدّم من حيث هو شكل لمقاربة تجد نفسها في مواجهة نقصانها الخاصّ الذي لا يردم ولا ينطوي.‏
على هذا النحو يجري القول في الحدود البَيْنية محتفظاً بامتناع مقوله، وعاصماً له بمنطق فنّي يستنفر الجهد ويضاعف التوتّر من خلال الاحتفاظ بفجوات السياق المتأتيّة من مواجهة ثوابت الشكل بمتغيرات القول التي تبدأ بتأثيث فضاء الكتابة ولا تنتهي بضخّ فاعلية الاختلاف ونسب العدول في جوانب النسج والتصوير:‏
(( يسرّحُ لطفاً في الهواءِ‏
إذا مشى،‏
ويتركُ ومضاً خلفَهُ‏
حينَ وثبتِهْ .‏
وعيناهُ في إرناءةٍ منهُ،‏
راحتا‏
تلمّانِ أفقاً ذاهباً‏
في وَسَاعتِهْ .‏
صفاؤهما وشّى به النبعُ‏
ذاتَهُ‏
وقال قليلاً منه‏
أثناءَ رقتِهْ )) .‏
اللغة وشعرية التحويل :‏
بلغة تتجاوز الوصف إلى الخلق وتنخفض فيها درجة النحوية أحياناً إلى حدود اقتلاع العبارة من محدودات المعجم وضوابط السياق بهذه اللغة التي تزكو قيمتها الإشارية يمضي صقر عليشي في إنجاز نصّ «الغزال» وإتقان نسجه، على نحو ما يتحقق في تراصف وحداته وكثافة تأثيراته وتنويع استبدالاته بما يرقى بالأداء الفني إلى مضاعفة تقطير ماء الشعر بلغة تعوّل على ذاتها وتلفت إلى كيانها وتزهو بخصوبة جسدها ومرونة قوامها وتحتفل بتعدّد مستويات «الدال» فيها وبطرائق مخض هذه المستويات معاً في لحمة تركيبية متقنة.‏
ربما كانت الظاهرة التركيبية التي تضع القول في الحدود البَيْنية عموماً، متبدّية هنا على المستوى اللغوي خصوصاً، في المزاوجات التي يقيمها الشاعر بين العناصر والوحدات المتباعدة في طبقات النسيج اللغوي، وفي علاقات التفاعل التي تنتج، بتصادم المستويات اللغوية وانخراط بعضها ببعض، شرارات الشعر وأوهاجه المتعدية لرسوخ المعنى في سبل التدليل المذلّلة وطرائق الربط والإحالة، وهو ما يجعلها تنفتح على مناطق أخرى يحوم عليها نشاط التخييل، وتتدافع على أرضها المعاني الحافّة، بوفرتها الإيحائية الفائضة على ثوابت السياق. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرأ تفاعل مستويات اللغة وطاقاتها التركيبية، من القاموسي إلى اليومي، ومن الجزالة المعجمية إلى ما يشكّل اختراقاً لفظياً وعلائقياً لها، بدمج العادي والقريب من سبل التعبير وتحويلها به. وذلك ما ينعطف، من جديد، على ما سبقت الإشارة إليه من طوابع البَيْنية، وبهوت صور التحديد، وتلاشي درجات القطع، إلى غير ذلك مما يفتح دوائر التدليل، ويعلّق إمكانية استنفاذ المعنى، في هذا الجريان مع أفق القول، وفنيّة الأداء، التي تمنع مقولها من الانحصار والتحديد، بينما هي تأخذنا معها في تموجات اللذة الفنية والاهتزاز الجمالي.‏
قصيدة الغزال: من التعبّد البرناسي إلى الافتتان الصوفي:‏
ثمة إحالة متبادلة يتجدد معها نشاط القراءة والتأمل بين القصيدة والغزال وعلى الرغم من كون الغزال مركزاً لوحدات البناء والتأليف فإنه لا يلبث أن يردّ خاصياته على القصيدة ويتناوب معها، في الوقت الذي تشحذ فيه القصيدة آلة المجاز وتُعمل أدواتها في آفاق الفنّ لتجلوه بها وتردّ محصولها عليه، فالشاعر يرى غزاله بعين الفنّ بينما هو ينظر إلى قصيدته بعين الغزال.‏
وهذا التبادل، أو التجاوب بين الاثنين، واضح بدرجة أعلى في النصف الثاني من النصّ، حيث يتعين كناس الغزال في مجاز الشعر ويسري هو راخياً أعنّته في طيات النشيد.‏
في التتبّع القرائي لهذا المسار، يلاحظ التركيز على إبراز مفاتن الغزال وصور جماله البديع مادياً وروحياً في نزوع الارتقاء به نحو الأسطورة. ويبدو الشاعر منقطعاً ههنا لعبادة الفن وتقديس الجمال، لا غاية له إلا ذات الفعل الذي يقوم به وينقطع إليه. ولهذا تراه منصرفاً إلى إعمال إزميل الفن في نحت غزاله وإلى جعل القصيدة مسرحاً له وأفقاً لانكشاف جماله الجسدي الفائق في دقة التصوير وبراعة النحت:‏
(( يمدُّ فضاءً للخيالِ‏
لينتشي‏
ويسحبُ متنَ القولِ‏
نحو استعارته .‏
يؤلّفهُ شعرٌ على التلّ‏
تارةً‏
وكم شاهدوهُ‏
نازلاً من بلاغتهِْ )) .‏
لا مراء من جهة أخرى في أن غزال صقر عليشي يحمل التسمية ويجوزها أو يخضع لها ويتأبّى عليها في آن معاً فهو يحضر بالمحايثة وينطق بالمفارقة ويجمع بين الجانبين، فيشكل بذاته فضاءً آخر مشحوناً بالتوتر بين الدنوّ والعلوّ يسكن الصور ويتجاوز قيدها نحو خلجات الغيب وأنفاس القداسة وهو،بذلك يضارع فضاء القصيدة من حيث إنها تقطن في الدليل وتعلو عليه أو تسكن اللغة وتتجاوز حدودها المعطاة.‏
من هذا الجانب نقرأ في «غزال» صقر عليشي ما يصل بمستوى الكلام الصوفي وإشاراته الغامضة التي تبعث على الوجد والاصطلام، وتبارح مدار الألفة إلى الافتتان بتجلي الجمال المطلق في الصور المقيّدة وتحمل على شغف الإنصات لكلام الوجود أو لغة الكينونة التي يسرّ بها الغزال أو يشفّ عن عمقها السريّ المحتجب من حيث هو رمز أو علامة. وبهذا يتحد الغزال بالقصيدة مرةً أخرى، في إذكاء طاقة الخيال وفعله الخلاّق في الكشف عمّا يجثم هناك خلف حدود المباشرة وترسبات الصور. وليس بخافٍ أن التوسل بالغزال أو الغزالة رمزاً على تجلي المفارق في برزخ الجمع بين الإطلاق والتقييد قد شكل مَعْلماً بارزاً في نصوص الشعر الصوفي ولعلّ هذا ما يحتاج إلى إفراد مكان خاص له في قراءة ثانية تتفرّغ له، وتصبر عليه.‏
وختاماً فإن هذا المستوى الذي يتوفر عليه نصّ «الغزال» لصقر عليشي، ينضاف إلى المستويات السابقة التي ألمعنا إليها في هذا الإجمال، ويتعاضد معها في نزوع العلو هذا الذي يروم أن يجعل من القصيدة تكثيفاً أعلى للجمال الفني، وأن يجعل من «غزاله» مكاناً فنياً سامقاً يتكثّف فيه تاريخ الجمال.‏
عن جريدة الفداء الحموية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/chirrr_257184162.png

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/7575