الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

الكون في نظر شاعر

images (3)

ثمة أسئلة تشغل ذهني منذ زمن….اسمع العلماء يؤكدون , استناداً إلى فرضيات يفترضونها, حقائق تتماشى مع أسس معينة قدموها على الفرضيات ثم أقاموا نظريات عامة وشاملة عليها… لقد خدمت تلك الفرضيات والنظريات وما زال بعضها يخدم التقدم العلمي كما سهلت حياة البشر وما زال بعضها يسهل حياة البشر… وتكاثرت العلوم وتفرعت فاسمينا بعضها علوماً دقيقة واسمينا بعضها علوماً اجتماعية حتى صرنا نسمع من يقول علم الأدب الخ.
كانت حصيلة ذلك فوائد على أكثر من صعيد… فابتكار الصفر صار نقطة تحوّل في علم الحساب, وعلم الحساب في أساس الكثير من العلوم الدقيقة وغير الدقيقة. وهو أيضاً في أساس الكثير من المعاملات التي تساعد على تقدم المجتمعات البشرية و تيسر الكثير من أمورها وعلاقاتها سواء أكانت علاقات دولية أو بين الفئات الاجتماعية أو بين الأفراد. وعلى الرغم من فائدة ذلك لم أجد من يقول لي ما هو الصفر…
أمس كان حفيدي يعد من الواحد إلى المئة, وقد أفرحني ذلك فصفقت له وامتدحت ذكاءه.. وحين خرج من غرفتي وبقيت وحدي سألت نفسي: ما هو الواحد هل الفيل الواحد مثل الفيروس الواحد؟ وهل دلبة المشتى العظيمة شجرة واحدة مثل شجرة الدفلى التي تحت نافذتي؟ ثم من قاس لنا المسافة بين الصفر والواحد؟ يخيل لي أن المسافة بينهما غير متناهية… وتتداعى أفكاري.. أسأل نفسي: ماذا يعني غير متناهي؟ وأفطن إلى أمر آخر: ثمة غير متناهِ في الكبر وثمة غير متناهِ في الصغر.. وما أكبر ورطة الفكر الذي ينشغل بأحدهما.. فكيف إذا انشغل بهما معاً..
أنا زجال أولاً وشاعر ثانياً ومترجم ثالثاً وهاوي حكايات وأساطير وعلم فلك رابعاً وخامساً وهذا يعني أنني غير متخصص بشيء , ولم أتقن شيئاً اتقاناً أرضى عنه في حياتي. وقد صدق أسلافنا حين قالوا (كثير الكارات قليل البارات)ٍٍِِ ِأما كتابتي في مثل هذه الأمور فلها حكاية .. بدأت الحكاية “بدردشة” عادية ثم انتهت بورطة.. وهل ثمة ورطة أكبر من أن تطرح أسئلتك الساذجة على علماء العالم المعاصر الذين طلعوا علينا بنظرية تمدد الكون ونظرية احديداب الكون.. وقد حكوا لنا حكاية ” كون انشتاين الأحدب” وغيرها وغيرها.. وقد أسند انشتاين نظريته إلى العديد من قوانين الفيزياء الحديثة وإلى معادلات رياضية كثيرة.. وقد اقتنعت بما ساقه هذا العالم الفذ خطوة خطوة لكنني حين نظرت إلى الأمر بمنظار آخر غير منظار الجداول الرياضية والحسابية وخارج معادلات العلوم الجزئية الدقيقة فاجأني السؤال التالي: كيف يكون الكون أحدب أو مستطيلاً أو بيضوياً إذا كان غير متناه.. الاحديداب , والشكل عموماً, يعني المحدودية والتناهي فكيف فات ذلك انشتاين ومن درسوا نظريته وطوروها أو شرحوها؟
أنا لا أ<د بديلاً للعلم في دراسة الكون الأكبر والكون الأصغر , لكنني أخشى أن تتحول نظراتنا إلى الكون ووجهات نظرنا إلى نظريات تدعي الكمال والدقة والشمول.
جاء في كتاب ” مقام العقل عند العرب” لقدري حافظ طوقان قول الغزالي على الصفحة (61) ما يلي: ” فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع غير المتناهية” وجاء على الصفحة ( 93) قول الناظم وهو أحد أئمة المعتزل بأن ” الجزء يمكن تجزئته إلى ما لا نهاية, ولا بعض إلا وله بعض. ولا نصف إلا وله نصف, ولا جزء إلا وله جزء الخ” ويقول النظام أيضاً على الصفحة (230) من الكتاب نفسه ” ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك , ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما شك” ويقول أبو هاشم البصري على الصفحة نفسها: ” الشك ضروري لكل معرفة” وكان الكندي يعتقد: ” أن الحق الكامل لم يصل إليه أحد, وأنه يتكامل بالتدريج بفضل تضامن الأجيال من المفكرين” ص (112)
لقد وضع العقل قواعد افترض فيها الدقة وأقام عليها أكثر من فرضية. أجل… صارت لكل علوم فرضياته وقوانينه وقواعده… كما هي الحال في كل لعبة نلعبها والشاطر هو من يتقن قواعد اللعب أما العالم فهو الذي يتقن قواعد العلم الذي يعمل في حقله فيوسعها ويسعى إلى جعلها أدق وامتن وهذا يعني أن يغيرها…
وتأتي المنجزات الكبرى نتيجة تراكمات كبرى في الحقل المعني.. ثم تأتي القفزة النوعية نسبياً.. ويولد الاكتشاف المدهش لتبدأ مرحلة أعلى وأشمل يعاد فيها النظر بالأسس إلى هذا الحد أو ذاك. وتطرح فرضيات جديدة أدق وأشمل لكنها غير كاملة, فالكمال لا ينال أبداً… وكيف تكون الرياضيات دقيقة على أرض الواقع, أي خارج الذهن الذي وضع أساس لعبتها ونحن نجهل حقيقة جوهر الصفر والواحد والنقطة الهندسية والخط المستقيم وهي أساس الكثير من العلوم والمعاملات… وإذا كان الأساس ناقصاً فهل يكون البناء كاملاً كمالاً مطلقاً..
بدأت أتأمل العالم منذ صباي الباكر.. كانت ساقية صغيرة صافية المياه تمر في دارنا متجهة نحو الحواكير الصغيرة لتسقي الأشجار والخضار و البقول كنت أرى النجوم تركض في مياهها إلى البساتين فولدت من هذا الركض صورة شعرية أسميت ديواني الشعري الأول باسمها, أي أسميتها سفر وهاكم هي:
” تسافر النجوم في السواقي
إلى بساتين القرى الحزينة
وتشرب الجذور أنجماً فيكبر الشجر
وتنفخ الريح على براعم الغصون
يضحك الزهر
وتومئ الزهور للقمر
صديقنا !
تحية إليك
من محطة السفر”
ودارت الأيام وكبرت وما زلت في حيرة من أمري: هل أزهار الأشجار نجوم سبحت في الماء وشربتها الجذور وصعدت إلى الأغصان لتجعل منها محطة على طريق عودتها إلى الفضاء نجوماً , أم المسألة هي إحدى ألاعيب الخيال الشعري؟
وأفطن إلى وجه المسألة الآخر وهو : أليس الخيال العلمي والشعري من ألاعيب العقل البشري أو من أهم نتاجه؟ وإذا كنا نثق , علمياً بالخيال الشعري أفلا يعني ذلك أننا نحط من مكانة العقل الذي نتخذه نبراساً وإماماً؟ لقد أكد جدنا الشاعر الفيلسوف العظيم أبو العلاء المعري: “لا إمام سوى العقل..” وقد تآخى الشعر والفكر في عقله واتحد…

ورأيت العقلاء يحارب بعضهم بعضاً باسم العقل وتحت لوائه فاضربت روحي, رأيت مبتكرات العقل تصير أدوات قتل ودمار… وتعرفون أن الأنبياء جاؤوا ليوحدونا ويخرجونا نحن العقلاء , مما نحن فيه فما نفعونا وغصنا أكثر فأكثر في المفاسد. وعلى الرغم من ذلك ما زلت مؤمناً بعدالة الحياة…. وما زلت أتأمل الكون وأسأل…
قيل لي: الذئاب الضارية تأكل الخراف الوديعة فأشفقت على الخراف.. ثم رأيت الخراف تأكل العشب الذي نما عليه بقايا جثث الذئاب فشمت بالذئاب.. أمعنت النظر فوجدت ما في الكون مكوناً مما في الكون كله… ولكل كائن تفرده فزادت دهشتي. أمعن النظر أرى حركة تسكن وأرى سكوناً يتحرك لا أرى الحد الفاصل بين الحركة والسكون ولا أرى تسلل السكون إلى الحركة ولا تسلل الحركة إلى سكون … أرى التراب يطلع زهراً وعيوناً جميلة وقلوباً بشرية ثم أراها تصير تراباً كلها.
يقول العلماء : هذا من باب العلم… ويقول الشعراء هذا من باب الشعر ويقول الفلاسفة هذا من باب الفلسفة.. ويتكاثف الضباب تأتي لحظة التبدل الرهيبة…. أرى كل شيء يسافر في كل شيء أكلّم الأشياء والكائنات بلغتي فلا تفهمني. وتكلمني الكائنات والأشياء بلغتها فلا أفهمها.. أزعم أنني وحدي من يتكلم ووحدي من يفهم … وأسمع حفيف أوراق الشجر والانسام تداعبها فيخيل لي أنها تسخر من جنوني وغروري.. فأهرب .. أسافر في الأشياء ومعها .. ولا أصل:
أبداً في الطريق
جسدي زورقي
والثواني المواني
…..
أبداً في الطريق
والرؤى والأماني
زمن راكض في المكان
واسمعهم يتكلمون على الحقيقة, وعلى ما نراه وما نسمعه فأسأل نفسي: هل الحقيقة هي ما كنت أراه وأسمعه حين كان نظري وسمعي قويين أم هي ما أراه وأسمعه اليوم وقد ضعف بصري وسمعي؟ أم هي في ما هو فوق سمعي وبصري وما هو تحتهما؟ وتكبر الأسئلة ويتكاثف الضباب.
اشارك الإلكترون والبروتون دورانهما فأدوخ ولا يدوخان اسمع الأرقام الفلكية حول رحابة الآماد الكونية, اسمع دفيق أجنحة المجرات وهي تجوب المساحات الهائلة, أسمع دوي تصادمها وتفجرها ثم أنظر إلى رأس الإبرة الذي يقول العلماء إن في وسع أكثر من مليون فيروس أن تعيش على رأسه … أنظر إلى الأعلى الذي قد يكون تحت الآن لأن الأرض تدور, ثم أنظر إلى تحت الذي قد يكون الأعلى.. أغمض عينيّ أسد أذني.. أرى ما لا يرى واسمع ما لا يسمع… أصيح أين أنا؟ وما هي هذه الأرض التي زعم أجدادنا أنها مركز الكون؟ اسمع جرثومة استوطنت إحدى خلايا دمي تهتف محتجة:لا..لا.. بل أرضي هي مركز الكون” ونحن هنا سادة هذا الكوكب الطافح بالخيرات والأسرار.
اسألها دهشاً : وهل في عالمكم الذي هو إحدى خلايا دمي, فيه شموس وأقمار ومجرات وسدم وثقوب سوداء؟ فيخيل لي أنني اسمع نحيب أبنائها وأحفادها لأنها قضت نحبها قبل أن يصل إليها سؤالي…
قد يسألني أحدكم غاضباً أو جاداً وحازماً: لماذا تمزح في هذه المسائل الجادة؟ وأقول له: في كثير من المزاح كثير من الجد وفي كثير من الجد كثير من المزاح.. ألم تسمعوا العلماء والفلاسفة يكثرون الكلام على المنطق وعلى ضرورة انتهاجه سبيلاً للمعرفة , لقد سمعتهم حتى كدت أختنق فسألت نفسي: وهل المنطق وقف على هؤلاء وحدهم؟ وهل للمنطق الكوني منهج واحد؟ أليس لكل شيء منطقه ومنهجه؟ وكثيراً ما خيل لي أن منطق الفن الحق أرقى وأغنى من منطق العلوم الدقيقة والطبيعية… لكنه ليس منافياً لمنطق العلم والفلسفة, فكلاهما من صنع صانع واحد هو العقل البشري الذي يبحث عن الحقيقة..
وأرى نفسي ” أهوي إلى حضيض الانطفاء
تواكبني سدم ومذنبات
تضيء ابتسامتي فوهات الثقوب السوداء
اسمعها تشكو سوء الهضم..
يمتليء الصمت, يخفت الهدير
من هنا الدرب إلى الفناء المطلق
من هنا
عبر الوجود المطلق( راجع يمامة الكلام ص 81)*
وأعرف أنى ” الزمن مسدود بفتحتي الأزل والأبد” وأعرف أننا:
” نمضي في نهر الزمن حاملين في ذاكرتنا
سيان طعم الأماكن والأشياء وألوانها
ثم يأتي ظلام النسيان
ويمحي ما كان ” ( يمامة الكلام 120_121 )
وأعرف . كما تعرفون أن الأنسان يتقدم صاعدا بواسطة العقل درجات سلم المعرفة لكنني على ما يشبه اليقين من أن سلم المعارف الكونية لا نهاية له وسيفتح لنا كل جواب عن مسألة علمية_ معرفية أكثر من باب على أسئلة أعمق وأعقد, وأنا على ما يشبه اليقين من أن الأجيال القادمة ستسخر من سذاجة معارفنا حول أسرار الكون وقوانينه كما نسخر نحن من سذاجة معارف الذين سبقونا. أما كان القدماء أو بعضهم, يعتقدون أن الكون كله محمول على ظهر سلحفاة عملاقة تقف هي الأخرى على ظهر واحدة أكبر وصولاً إلى الأسفل؟ وإذا سألنا : أي أسفل هو ذاك الذي تقف عليه السلحفاة السفلى فلن نسمع الجواب… ولقد سمع جيلنا أقوال من كانوا يرون الأرض مرتكزة على قرن ثور.. وأن الزلازل تحدث حين ينقلها من قرن إلى آخر من قرنيه .. ولم أسمع أن أحداً سأل : وماذا كان يأكل أو يشرب ذلك الثور أو تلك السلاحف.. فهل يعرف أحد منكم ذلك ؟
ثمة مسألة ما هو فوق حدود مقاييسنا ومعاييرنا وما هو دون هذه المقاييس والمعايير… ألا تنقلب المفاهيم إذا انقلبت المقاييس والمعايير؟ ألن تكون حينئذ أمام حقائق غير التي يؤكد لنا صحتها العلماء والمناطقة؟ فكيف أزعم أنني أدرك حقائق الكون وأنا مقيد بما فوق حواسي وبما دونها؟
لقد أثار فضولي تعبير ” حافة الكون” التي اكتشف العلماء قربها كوازارات فائقة السطوع … إذاً … للكون حافة ومن ثم هو محدود وليس غير متناه.. والسؤال : ألا يوجد مكان قط بعد حافة الكون هذه؟ وهل في وسعنا أن نجزم بأننا وصلنا إلى هذه الحافة . انتهى الكون.. نقطة ثم فلنبدأ من أول كون جديد.. هل حقاً اكتملت الرواية؟ ثم اسأل نفسي هل عند حافة الكون جدار سميك أم هاوية كونية؟؟ لا .. لا.. أنا لا أمزح الآن.. يخيل لي أن العلماء الصارمين جداً هم الذين يمزحون.. والحق معهم.. لقد تعبوا بعد أن ساروا مع الضوء مئات الملايين من السنوات الضوئية.. وقد تكون الحافة المزعومة هي آخر ما استطاعت وسائلهم الوصول إليه.. أما إذا كان الكون أحدب, كما يؤكد انشتاين , فقد يجد العلماء الأفاضل أن حافة الكون هي حيث يقفون..
يؤكد لنا العلماء التجريبيون أن البرهان يتحقق بإعادة التجربة كي نحصل على النتائج ذاتها.. وتخيفني. علمياً كلمة ” ذاتها” فأزعم أن في وسعنا القول ” النتائج ذاتها تقريباً أو في خطوطها العريضة, إذ ما من شيء في الكون في وسع الكون أن يعيده ذاته .. والسبب بسيط وواضح جداً وهو أن عناصر التجريب وأدواته وشروطه كلها تتفاعل وتتبدل تبدلاً قد لا نلحظه, وما من شيء في الكون لا يتفاعل ويتبدل, أي ما من شيء يبقى على حاله تماماً .. كل شيء يتحول نتيجة تأثيرات داخلية وخارجية.. أما قواعد اللعبة العقلية المجردة فتبقى ثابة لا تتحول لأنها في الذهن , ولأنها مجردة ذهنياً, أي أنها خارج التفاعل الكوني.. أي لأن قواعد لعبة العقل افترضت خروجها من إطار فعالية الكون وتفاعلاته
هل أزعم أن الكون كائن حيّ , وأن لكل ما فيه حياته الخاصة المكملة لحياتنا والمختلفة عنها؟ أقول قد يكون الكون كائناً حياً وقد لا يكون لكنني اسأل نفسي: هل نريد أن يحيا ما في الكون كما نحيا وننسى أننا لا نحيا كما نريد بل نخضع لقوانين حركة الكون وتفاعلاته أننسى أن نمط حياتنا هو أحد أنماط حياة العناصر الكونية؟ أيحق لنا أن نريد ولا إرادة لنا في شؤون كثيرة؟ أليس لكل جسد طاقته وطريقته في التفاعل مع الأشياء والكائنات الأمر الذي يحدد فرادته؟ قد يكون الأمر كذلك وقد لا يكون.. وبين قد يكون ولا يكون سأحكي لكم هذه الحكاية التي سمعتها قبل أكثر من خمسين سنة وما زلت اذكرها لأنها أثارت ذهني حين سمعتها وما زالت تثيره.
تقول الحكاية : كان قرابة مائة فارس يقتفون أثر جماعة من الفرسان طلباً لثأر قديم.. التقوا رجلاً قادماً من الجهة التي يقصدونها فأوقفه كبيرهم وسأله : كم عدد الرجال الذين مروا بك؟
قال الرجل: هم أربعة عشر رجلاً وبريك.
قال كبير الفرسان : هذا يعني أنهم خمسة عشر رجلاً.
قال الرجل: قلت لك أربعة عشر رجلاً وبريك..
غمز الفارس صبحه غمزة ذات مغزى وأدار يده حول رأسه علامة شكه في سلامة عقل الرجل ثم أعطى علامة إشارة الانطلاق.
نظر الرجل إليهم وهم يندفعون على ظهور الخيل وابتسم ابتسامة ذات مغزى وعاد إلى السير.
لحق الفرسان المئة بالرجال الذين كانوا يقتفون أثرهم ونشبت المعركة بين الطرفين فجرح بريك وقتل وحده ستين فارساً وعرف الذين هربوا من هو بريك.. وقديماً قال أجدادنا ثمة رجل برجل وثمة رجل بألف رجل .. وتبقى المسائل نسبية
أعرف أن العقل نعمة كبيرة نالها الإنسان لكنني سألت: أين هو عقل العالم في أيامنا ؟ قيل لي أنه في حذاء مصالح الأقوياء أو تحت أحذيتهم.
صرخت مستغرباً: ما هذا العقل المجنون ؟
وكنت قد سمعت ما قيل قديماً عن أن من النادر أن يلتقي العقل والعدل والقوة في مكان واحد.. فهل سيعود عقل العالم إلى رأسه أم سيبقى في حذاء مصالح المتوحشين الجدد؟
قد يعود وقد لا يعود .. أما أنا فسوف أعود إلى الموضوع
سألني أحد الأصدقاء أن أعقب على كتاب في علم الفلك ففعلت وكانت هذه الخواطر بعض ما كتبت على هامش التعقيب ولم ينشر معه.
قد يفهم العالم الأعمال الفنية ويتذوقها ويحبها, وقد يكون فهمه لها أغنى وأشمل من فهم بعض هواة الفن لها.لكنه قد لا يطمح إلى أن يصير فناناً أو شاعراً أو ناقداً , وقد يفيده ذلك في فهم العلم الذي كرس حياته له, وقد يفهم الشاعر أو الفنان الحقائق العلمية ويرى فيها ركناً من أركان ثقافته, وأنني أزعم أن الشاعر الحق , الشاعر العظيم , لا يكون كذلك ما لم يطلع على خلا صات العلوم في زمنه. مع أن الشعراء لا يطمحون إلى أن يصيروا علماء أو منشغلين في العلوم. لقد مضت الأزمنة التي كان فيها الشاعر والعالم والفيلسوف والطبيب يلتقون في شخص واحد.
وكلما سئلت أن أكتب في شأن علمي أتذكر مسرحية موليير التي أرغمني مدير الثانوية التي كنت أتعلم فيها على تمثيل دور البطولة فيها وهي ” الطبيب على الرغم منه”
كانت تلك المسرحية هزلية و وكنت فتى .. أما اليوم فأنا شيخ أن المسألة في غاية الجد.
وإذا كان الحطاب الذي صار طبيباً على الرغم منه. قد شفى ابنة الغني لأنها لم تكن مريضة بل عاشقة, فهل سأقدم شيئاً نافعاً في كلامي على بعض النظرات العلمية لأنني غير متخصص ولأنها غير مريضة فعلاً, أم سأزيد شماتة الشامتين بي, وأنا في كلتا الحالتين مخطئ. فما أنا بالطبيب المعالج ولا أنا بالباحث المدقق, وما هي إلا خطرات كتبت على الهامش.
تقول إحدى الحكايات أن إناساً نظروا إلى فيل ضخم في صندوق ضيق عبر ثقوب ضيقة جداً ودون كل منهم خلاصة ما رأى فكانت خلاصة ما دونوه صفات غريبة لا تخطر في بال أحد , ولا تمت إلى الفيل بصلة,
وقد قالت المتصوفة: لا تطبق المعايير على ما لا حدود له, وسمع الناس والعلماء الحكاية وكلام المتصوفة ولم يكف أحداً من الناس أو العلماء عن النظر في الثقوب الضيقة ولا عن تطبيق المعايير المحدودة على غير المحدود.. فمن طبيعة العقل البشري الحركة بحثاً عن الجديد بالوسائل المتاحة, وعدم الاكتفاء بما ينجز , فكل إنجاز يصير قاعدة جديدة لطرح أسئلة جديدة, وللانطلاق بعزم بحثاً عن الأجوبة.
يعرف بعض الجنود الشجعان, أحياناً, أن معركتهم خاسرة لكنهم يخوضونها بشجاعة حتى الموت إيماناً منهم بعدالة قضيتهم, وشعوراً منهم بأن عار الاستسلام أقسى من الموت.. وإننا لنجد بين العلماء من هم في مثل نبل هؤلاء الجنود وشجاعتهم, وإنهم يعرفون أن الحقيقة المطلقة لا تطال, وإن الأبواب الموصدة كثيراً ما تنفتح على أبواب موصدة, ومع ذلك يكرسون أعمارهم لخوض البحث عن الحقيقة وسط متاهات الكون.
ويكون التقدم عسيراً وبطيئاً ويكون أحياناً كالتخبط في مستنقع وسط ظلام دامس, ويحدث أحياناً أن يندفع جيل أو أجيال نحو منارات مضللة تدعو السفن إلى ظلمات تمتد وراءها ظلمات ويصير التقدم من المحال, ويصير الرجوع عسيراً.
وينتصب الإنسان طموحاً متطلعاً إلى غزو الكون. ويصير عقله الذي هو أعظم النعم, يصير أكبر النقم.. لقد جعله إماماَ ورائداً.. والرائد لا يكذب أهله.. والإمام ..لا.. ليس يسيراً أن يصير المرء إماماً.
إن العلم الذي هو منارة العمل يبدأ بالأسئلة… وقد قيل : نصف العلم أسئلة ونصفه أجوبة. وربما كانت أصعب الكلمات التي ابتكرها الإنسان في تاريخه وأمجادها هي : ما هذا؟ ولماذا؟ وكيف؟
وكان أكثر ما أدهش الإنسان أن وجد نفسه في كون لا حد له.. وقد خيل له أن لهذا الكون حدين: غير متناه في الكبر وغير متناه في الصغر, ففهم شيئاً وغابت عنه أشياء.. لأن غير المتناهي يطرح أسئلة غير متناهية . وعمر الأنسان قصير , وهو يحتاج إلى أمور أخرى عبر الأسئلة والركض وراء الأجوبة .. والأشياء الأخرى التي يحتاج إليها لا تقف صامتة بل تطرح, هي الأخرى, أسئلة تكاد لا تنتهي. وقد يكون اسم ” السائل” هو أفضل اسم للإنسان.
وبعض الأسئلة مضحك . وبعضها مربك.. وحين سأل الإنسان: من أنا وما الكون؟ أتاه جواب: أنت مخلوق وتافه.. قال: أفعل, إذن, ما أشاء! قيل له: بل أنت مسؤول.. قال : المسؤولية تنفي التفاهة… فكيف خلقت ولماذا؟ هل كان هذا الكون ضرورياً كي أكون؟ وهل أنا ضروري كي يكون الكون؟ وما معنى الكينونة؟ وما معنى المكان والزمان؟ وهل من زمان خارج المكان, وهل من مكان خارج الأزمنة؟ وهل من خارج أو داخل في مفهومي المكان والزمان, هل من حضيض وذروة في المطلق؟ وماذا يعني المركز والأطراف في غير المتناهي؟ وماذا يعني الاقتراب من الحقيقة المطلقة التي من المحال الوصول إليها؟ وكيف نحسب موجداً ما ليس في الإمكان الوصول إليه أو في المكان معرفته؟ أم أن الحقيقة المطلقة حقائق متعددة تفتح كل واحدة منها الباب إلى حرم غيرها؟
وكلما أتعبت الأسئلة جيلاً أتت بعده أجيال.. وترث الأجيال الجديدة الأسئلة القديمة, وينظر كل جيل إلى الكون الأصغر والكون الأكبر عبر الثقوب التي فتحتها الأجيال السابقة له وعبر ما يتاح له أن يفتح من ثقوب.
الكتاب الذي أكتب أسئلتي على هامشه هو ” طبيعة الكون” وهو كتاب في منتهى الجد.. وحين يكون الأمر كذلك يكون لزاماً ترطيبه بشيء من المزاح.. وقد يكون في المزاح كثير من الجد أو قد يكون منتهى المزاح في منتهى الجد.. ولا غرابة.. فالأمور نسبية, ومعاييرها قاصرة ونحن ننظر إلى الكون غير المحدود من ثقب المجوعة الشمسية الصغير جداً, وبوسائلنا التي أوجدناها لمساعدة حواسنا القاصرة.
كتبت قبل سنوات خاطرة شعرية سألت فيها : إذا كان الكون غير متناه في الكبر فلماذا لا تكون شمسنا العظيمة مفرقعة أطلقها طفل كوني في يوم عيد؟
حين قرأت هذه الخاطرة على بعض أصدقائي ابتسموا واعتبروها طرفة. وكنت حيينها وما زلت أرى الأمر في منتهى الجد بل لقد قادني التداعي إلى طرح أسئلة أخرى , فنا آكل الخيار والبندورة في موسمها كما تفعلون..وقد يكون قرص البندورة الذي أكله من غير ملح كوناً غير متناه في الكبر في القرص.. فهل يرى علماؤنا أن فمي ثقب أسود يلتهم عالمهم؟ وأفكر في جسدي .. أي كون عجيب هو .. وأفكر في هذه الزهرة التي أمامي وفي هذه الذبابة التي حطت على حذائي, ثم أعود إلى الجسد الأعجوبة, فحين يأمر العقل الجسد وهو منه, بأن يطرح الفضلات التي كانت مفيدة ثم صارت ضارة يكون أمره هذا استجابة لضرورة عضوية, وتكون استجابة الجسد تلبية للضرورة ذاتها, أما الكائنات المجهرية التي طردت خارج الجسد فالأمر في نظرها حدث كوني هائل مدمر يستحيل على علمائها _المعذرة من علمائنا- شرحه أو تفسيره… ألسنا قياساً إلى الكون غير المتناهي, أصغر من تلك الكائنات إذا قيست إلى أجسادنا؟
وكم سألت نفسي : هل للجراثيم والفيروسات التي تستوطن ممالك خلايا جسدي ملوكها وفلاسفتها وقادة جيوشها؟ وهل شعراء الغزل أم شعراء السياسة هم الأكثر شعبية بين شعراءها.
وهل يغازل الذكر أنثاه كما يغازل الرجل المرأة؟ وهل دمي سيالة كونية يسيل منها زمانهم ومكانهم؟ هل لهؤلاء دياناتهم وطوائفهم وأحزابهم؟ وهل بينهم محتكرون يكنزون الذهب والفضة على حساب جوع أهلهم؟ أم أنهم لا يتعاملون بالذهب والفضة ولا حتى بالسيد الدولار؟ وإذا كانوا لا يعرفون الدولار فكيف يسمح لهم السيد بوش بالاستيطان في خلايا جسده . ولا تقصفهم طائراته وبوارجه الحربية كما تقصف شعوب العالم الجديد الذي هو سيده!
ويتكلمون على الانفجار الأول الذي تكون بعده الكون ثم بدأ يتمدد فارتبك. وأسأل : هل كان الكون فارغاً قبل الانفجار؟ وما الذي انفجر؟ أهي المادة المكثفة؟ وهل تكثف معها المكان الكوني كله ثم بسطته حين تمددت كالبساط كي تدرج عليه؟ وكيف نوحد مفهومي المكان والفراغ في كون لم يتكون بعد؟ وهل كانت طاقة الكون الوليد الهائلة خارج الكون حين أوجدته؟ وهل ثمة شيء يدعى خارج الكون؟ هل ثمة فرق نوعي بين قلب يشحن بالعواطف ثم يحترق وبين سدم كونية تشحن بطاقات ذرية أو أعظم ثم تتصادم وتنفجر أم أن الفرق بالدرجة؟ وهل النار التي يحترق بها عود ثقاب هي من نوع النار التي تحترق فيها الشمس؟ أم أن شدة الاحتراق تجعل الفرق نوعياً؟ وهل يحترق ما يحترق لأنه ضاق ذرعاً بحاله أم يحرقه الاشتياق إلى حال أخرى؟ أم أن الكون انفجر غيظاً من زوجته ثم راح يتمدد هارباً من مطاردتها له؟
وأسأل لماذا أغضب؟ لماذا أضحك؟ ومن أين جاءني ذلك الحزن العميق حين ماتت أمي؟ ومن يشرح لي الدفء في نظرات عاشق, وطبيعة الصقيع في نظرات الحاسد, وطبيعة النار في نظرات حاقد؟
وأتخيل أن أم عادت إلى الحياة وسمعت بعضاً من هذه الأسئلة التي تعذبني فيخيل لي أنني أسمعها تقول وعيناها تفيضان بالدموع شفقة: ما كان أبوك أحمق فمن أورثك هذه الحماقة كلها؟ لماذا لا تشغل ذهنك بما تعيل به أسرتك حتى أخر الشهر؟
وأنكمش على نفسي , أشعر أنني أصغر وأصغر بوتائر تتناسب طرداً مع وتائر تمدد الكون.. ثم أنفجر قهراً.. ثم أختفي خجلاً من أمي التي كانت تكسر الصخر وتقلع الشوك في أرض كسارتنا الصخرية الشائكة كي تزرع حفنة إضافية من القمح والشعير.
وإذا سألني سائل من أين هذه الشطحات ؟ قلت من قرص البندورة الذي أكلته قبل قليل. ومن الذبابة التي حطت على حذائي, ومن الزهرة التي أمامي.. فأنا أراها تأكلني وأكلها.. تصير في جسدي ويصير جسدي فيها. وولادة أي كائن أو موته هو عندي حدث كوني عظيم لا يقل إدهاشاً عن تصادم المجرات أو تباعد السدم.
وقد يكون سلوك الإنسان أكثر إدهاشاً من سواه .. فهو يبحث عما في الكون من أسرار وينفق في سبيل ذلك المال والجهد ثم لا يكلف نفسه عناء سؤال جاره المحتاج إليه عن حاجته. وهو يقضي حياته باحثاً عن حقائق الكون المطلقة والنسبية وهو يجهل حقيقة أنه لم يفهم جيداً مشاعر زوجته, وأولاده أو أخيه. ويسأل عن أسباب تصادم المجرات ونتائج ذلك التصادم ثم لا يسأل عن سبب دمعة في عين طفل بائس يمر به يومياً.
إن الانتقال من مكان إلى مكان لا يتم إلا عبر مكان, والمكان شيء , وكل شيء في الكون جزء من الكون. فلا فراغ ولا حواجز بين أمكنة الكون وأشيائه إلا تلك الحدود والفراغان التي يقيمها الإنسان بينه وبين إخوانه البشر.
وسواء ظهرت هذه الحدود والفراغان على صورة إشعاعات من الكراهية والبغضاء أو في هيئة حقول طاقية فإنها كانت وتبقى ذات طبيعة مادية حصراً, أما ما نسميه فراغاً في الكون ففيه تتم أعظم التفاعلات والتوازنات الكونية.
ولا تنسوا أنني أنظر إلى الكون عبر الثقب المتاح لي النظر عبره.
ولقد سمعت من يقول : الوجود نعمة
وسمعت من يؤكد : الوجود قيد
ورأيت أن أوفق بين ما قيل وما قيل فقلت:الوجود نعمة مقيدة.. ورأيت نفسي في زمن اللازمان.. كسرت بيضة التكوين فخرج منها الصوص الكون ثم كبر وصار ديكاً.. أيقظني صياحه وأعادني إلى زمني.. حكيت لكم ما رأيت فأشفقتم علي.. فمتى ترون شمسي ( يمامة الكلام ص 198)

Copyright © 2003 • All Rights Reserved • Syrian Cosmological Society •
Designed By TIMELINE Web Design

ــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *