الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

الأديب الشاعر المترجم الراحل ميخائيل عيد في الوداع الأبدي والدمعة الخفية

o-883

(العيشة صعبة صعبة.. وها الدنيا الكلبة.. صعبة.. ما بتسمع آهات الفقرا)
رحل الأديب الشاعر المترجم ميخائيل عيد عن عمره يناهز الثامنة والستين عاماً مخلفاً وراءه أعمالا جليلة وأكثر من سبعين كتاباً تناول فيها مختلف القضايا الثقافية والسياسية، فمن يتابع ميخائيل عيد الأديب السوري المعروف سيجد في شعره الكثير من الصور الجمالية وبخاصة تلك التي تتناول حياة الدراويش من الناس كما أنه سيجد في مئات القصص التي ترجمها عن البلغارية (لكيرك اوستوف وانجل كارالتيشوف وران بوسيلك وغيرهم) ثم العديد من الكتب ليوفكوف وخايتوف وغازروف وكارانفيلوف مثالاً ساطعاً على معنوياته الرائعة ومثابرته لرفد الثقافة العربية والسورية بالذات بالقيم والإبداع الجمالي في الأدب العالمي ولم يكن هذا العطاء الكبير الا الهاماً جريئاً لمكونات هذا الانسان الزاهد الذي عرف بالسليقة غول الفقر والجهل والظلم والاضطهاد الذي لازم المجتمعات العربية، غول القهر والتسلط في عالم يكاد ينقسم الى ثلاثة اقسام الاول محطة للاغنياء في بروجهم وسلطانهم وتمتعهم بملذات الدنيا وحماية السلطات وأجهزتها الأمنية والثانية للفقراء الكادحين الذين يتغذون من عرق جباههم وتعبهم وشقائهم الطويل في هذه الدنيا الصعبة وهم تحت طائلة الجبرية وإلغاء الأخر والثالثة للموتى الجياع وان كانوا احياء ظاهرياً يتحركون كرابوتات مبرمجة تكاد تسقط بمجرد أي خلل غذائي، فانتمى مخائيل الى القسمين الأخيرين دون مُساءلة ولا خوف ولم يكن ابدأً مهادناً فيما ذهب إليه أو ما سيكون عليه وضعه، ودون أي عقبة فكرية ازدهى فكره نحو التقدم والحرية وحقوق البشر.. أي بشر، بيض او سود بديانات ومذاهب وايديولوجيات مختلفة، فراح يََضْحك من اولئك الذين كانوا يحسبون خطواتهم بتؤدة غريبة ويرتقون عروشاً ( إن كانت عروشاً ) في الثقافة والادب فما غيرته تلك الحالات الوقتية التي بنيت على الدسيسة الايديولوجية المتطرفة لحد اللعنة في ترتيب الامور وتسمية الاسماء في جدل عقيم قوانينه الشك والريبة ووضع فوهة البندقية والسوط وباب الزنزانة على الافواه التي تهمس فكيف تلك التي تصرخ عالياً، فهل منح وساماً او ميدالية او درعاً للجهود الثقافية الكبيرة التي بذلها وللعطاء المتوهج الثر الذي منحه على صعيد التأليف والترجمة؟..
مات الرجل المعطاء بعد مرض ألم به شهوراً وكأن الموت قدراً يذكرنا باولئك الذين يقدمون كل شيء ولا يحصلون على اي شيء في حياتهم وعندما يُلتفت إليهم بعد رحيلهم بعد ذلك يكون الوقت قد مضى دون رجعة، هكذا هو عالمنا الثقافي العربي، أي احساس بالذنب يجب ان يشعر بها الضمير الثقافي والمثقفون في حالة كحالة ميخائيل عيد وغيره من المثقفين المبدعين الذين يجب ان يكرموا لدورهم الريادي والجهادي في سبيل ثقافة وطنية تقدمية ترى أن الإنسان يجب أن يمنح حقه الكامل في الاختيار والتطلع والعيش بأمان دون قيود ولا إرهاب مسلح أو إرهاب مالي أو إرهاب ثقافي، وكيف يمكن الا يعاقب الضمير الثقافي نفسه والمثقفون أنفسهم لفساد فهمهم في التصنيف الذي يضعونه على قيمة ووجود وانتماء أمثال ميخائيل عيد، التصنيف الذي يعلله المصطفون لنيل رضى الأسياد والأقوياء المتنفذين على المؤسسات السياسية والثقافية وهم يُرمّزون الرموز حسب اجتهاداتهم واقترابهم من ظلال الكراسي العالية.
أقول لك يا ابن (مشتى الحلو) أيها السوري الأصيل والجميل الزاهي الذي تشرق وتغرب من أجل الوطن بسبب ملاحقة السلطات الحاكمة حينذاك، حتى في رحيلك الأبدي فأنت تعيش في قلوب من عرفك وقرأ لك، يا ذا الضحكة المعبرة الحلوة، والأريحية المتفتحة، والروح المتفانية المملوءة بنكران الذات وهي تقدم للآخرين كل ما يمكن من أجل المساعدة.. ايها الرجل القيم ستبقى اثراً خالداً في الثقافة السورية والعربية التقدمية الحرة، وسوف يأتي اليوم الذي ستكون في المكان الملائم الطبيعي على الرغم من فوات الأوان.. حيث يكرمك الشعب والوطن على روحك الوطنية وأعمالك المبدعة.
اقول لك لن انسى تلك اللقاءات التي كانت مملوءة بالنقاش المثمر والطويل، بالحديث عن الهموم السياسية والثقافية، بامور عديدة كان البعض منها معقداً يبدو دون حلول قريبة ولا بعيدة ومنها سقوط النظام الصدامي الشمولي لكننا كنا دائماً نتفق ان الشعوب سوف تنتصر وتطرد طغاتها وحكامها القتلة الذين يجثمون على صدورها.. لكن وللأسف الشديد ليس عن طريق العامل الخارجي والاحتلال الاجنبي فقد كان ذلك بعيداً كل البعد عن ذهننا وتفاؤلنا الكبير بشعوبنا وفي مقدمتهم شعبنا العراقي، كنا في كل لقاء نتحاور ونجادل حول مواقف فكرية كثيرة والموقف من الحرب العراقية ـ الايرانية ومن مواقف النظام الشمولي تجاه القضايا الملحة، وفي ذلك الوقت وفي كل وقت كنت مقداما وخير صديق للكورد العراقيين في محنهم وبخاصة مأساة حلبجة وغيرها من المواقف النبيلة..
كم كنا نعتب على الدنيا التي ما انصفت الملايين من الفقراء والكاحين وبقيت الى ذلك الوقت خادمة ذليلة لأصحاب الجاه والقوة الغاشمة.. (دقي صدرك يا أم حسين/ لكن خبي الدمعة الحمرا/ وخبي خبي/ يا أم حسين/ العيشة صعبة صعبة / وها الدنيا الكلبة/ صعبة/ مابتسمع آهات الفقرا)
لم يكتب ميخائيل عيد إلا وهاجس الناس يختلط بكتاباته حتى تلك القصائد الغزلية المرهفة كانت تحمل هموماً من نوعٍ آخر، وبقى إلى آخر رمقة يعيد صورة الحق الضائع في أمنيات الناس وبخاصة الكادحين منهم.. (وقفة الناس أمام الفرن/ دور الناس في السجن/ مواعيد الولادات/ الجنازات، الأغاني، والأماني/ كل شيء صار موزوناً مقفى/ فلماذا تكتب الشعر الحديث.. يا خبيث؟
لقد عاشت مراتع صباه معه ثانية ثانية ودقيقة دقيقة ولكثر ما حدثني وحدث الآخرين عنها.. (ودروب ضيعتنا أغاني حب
شوبيحب
ترديدا
وروحي صبية ضايعة ع دروب
ومنديلها بإيدا)
لقد كانت ايها الرجل الظريف ( مشتى الحلو ) عبارة عن سنفونية لطالما ذكرتها في اشعارك الفصحى والعامية.. (أغصانها من بعيد تهتف مرحبا/ لضيوفها وبتميل مع ريح الصبا/ ومن كثر مامر الليالي عذبا/ اضلاع انحنيت على عشاقها/ يادلبة المشتى العظيمة عرّمي/ شاب الزمان حرام انت تهرمي/ أرواحنا مثل الفراش محوّمي/ حني عليها وخففي أشواقها)
هل هناك أجمل من تكريم مبدع في حضوره أو أثناء حياته لكي يحس بأن الوطن الذي حمله في القلب وقدم له ولشعبه كل ما يستطيع من حب وتضحيات قد كرمه ومنحه المكانة التي يستحق، وإلا ما فائدة التكريم بعد الرحيل، وهو ان دل على شيء فإنما يدل على الشعور بالذنب والخطيئة تجاه هؤلاء المبدعين، شعور بالندم والحسرة والتقصير لكن كما قلنا بعد فوات الأوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *