حوار مع الشاعر غسان حنا

by tone | 1 مارس, 2015 3:02 م

SAM_0101(1)[1]

عالم نوح ـ شادي نصير

يرسم بالكلمات لوحات شعرية تطبع الخريطة الشعرية العالمية بقصائد متنوعة ومدروسة وتحمل الكثير من الشفافية، له رؤيته العامة والخاصة في طرح القضايا الشعرية ويعتبر أن جميع الكلمات تصلح لان تكون زاداً للقصيدة وقد التقاه عالم نوح وشادي نصير وكان معه ودار حديث ودّي يحمل في طياته عبقاً جميلاً:

*هل ترى فرقاً بين قصيدة النثر والقصيدة التقليدية؟

** حسب الدراسات النقدية الحديثة والتي ربما بدأت في وقت ما من التاريخ الشعري الإبداعي من الطبيعي ألا يقف الفن والشعر والحياة في موقع واحد فانا أرى أن الحياة تسير إلى الأمام، حتى عند الذين يحاولون إيقافها في زاوية محددة، تستهلكهم وتمشي وما الشعراء الذين  ينتحرون وما الشعراء اللذين يسقطون في فخ الوحدة والكآبة ما هم إلا كيْنونات تفقد التواصل مع الحياة ومع الآخرين، فحكمت على نفسها بالإعدام.

لذلك أقول القصيدة إما أن تكون بالشكل أو بالإيقاع، فالنقد الحقيقي قليل والتهويش النقدي و ما أسميه الحذلقة النقدية كثير، فالحذلقة كثيرة فثمة من يتكلمون عن الذهب وهم يعملون أي شيء آخر ليس له علاقة وليست بصنعتهم وليست بمهاراتهم فهناك شعر موزون مقفى، وهناك شعر تفعيلة وهناك قصيدة تسمى الشعر المنثور والشعر الحديث بينما أنا أسميهاالشعر الحر ولقد تكلمت قبل ثلاث سنوات في القاهرة في المؤتمر العام لاتحاد الكتاب العرب وذهبت مع الوفد السوري شاعراً وناقداً فألقيت محاضرة في اتحاد الكتاب المصري في الزمالك، بعنوان الشعر الحر ودافعت عن هذا الشعر لماذا؟ لنقل إن هناك شعر فقط وهناك رؤية نفاذ إلى المجهول وقدرة على تمثل الوجود واختراق الذات الداخلية وإبرازها وهضم الحياة.

مثال على ذلك فالفواخرجي الذي يصنع الفخار يستطيع بنفس المادة أن يصنع مئات الأشكال أما عندما يفتقد المهارة فلا يستطيع أن يصنع إبريقاً واحداً وعندما يمتلك الشاعر الرؤيا والموسيقى أي البعد التطريبي الإيقاعي الداخلي أو الخارجي أو كلاهما معاً لأنني أكتب الآن موزونا مقفى وشعر تفعيلة وأكتب في هذا النسق الحر الذي أطلق نفسه وأعتق نفسه من القيود الوزنية الخارجية فالمهم أن نقول شعرا وأن نهز الأعماق و نقترب من حدود المطلق، فالمسالة ليست وقفاً على شكل محدد وليس على أسلوب تعبيري أو أداة توصيل المهم أن تصل إلى العقول والقلوب وأن تحرك كل المشاعر وهذا هو الشعر الحقيقي.  

*نرى الزمان والمكان في بعض القصائد يتماهيان ويشكلان عالماً واحداً، هل من مبرر شعري لذلك؟

**في معظم ما كتبته لم يكتب لزمن محدد، ولا في مكان محدد، فمسألة الزمن هي مسألة اصطلاحية، هو غير موجود، وهذه افتراضات وتقسيمات بشرية لتسيير الحياة، لا أكثر ولا أقل والمكان ربما هو موجود .. ففي التيار الأوربي المكان له دور مهم، البيئة والطبيعة والجغرافية والمجتمع، هؤلاء لهم مكان إنساني ومكان طبيعي فالإنساني أي وجود الشخص مع مجموعة بشرية بينما الوجود والمكان البيئي أي وجودك مع الطبيعة بشكل مجرد، وأحياناً المكان له تأثير على نفسية وشعور الشاعر إذا كان هناك حدث خارق يخترق الأحاسيس والوجدان وأحياناً أكتب عن مكان يصلح لكل الأمكنة.

*كيف تصف لنا التحول الكبير والفورة الهائلة والاستسهال الذي تعاني منه قصيدة النثر من خلال اقتحامها من قبل الشباب، ولماذا يتجه الشباب نحو النثر، هل لأنها تمثل وقتهم وعالمهم؟

** سأحاول الاهتداء إلى بعض هذه الأسباب ومنها، أنهم غير مطّلعين على الشعر التقليدي، وربما لم يقرءوا من الشعر الذي يعرفه الناس إلا القليل القليل، وأتذكر أن البحتري عندما أراد أن يكون شاعرا ذهب إلى أبي تمام فأوصاه وصية وقال اذهب وأحفظ كل ما تقع عليه من الشعر وعد إلي وعندما نفّذ ما طلبه وعاد إليه فطلب منه إن ينسى كل ما حفظه كي يصبح شاعراً وبمعنى آخر لا ينجّيك أن تصبح شاعرا أن تصاب بعدوى .. فأحياناً المواهب والفنون هي جراثيم تنتقل عبر الهواء ومن قال أن الجراثيم كلها ضار فبضها مضر وبعضها هام فعندما تجاور جار مصاب بالرشح تصاب مثله وطبعاً العدوى الشعرية هي عدوى ايجابية، وهناك من يهتمون بهذا الشيء ويجدون نفسهم وهم الذين عندهم فورة داخلية، ويريدون أن يكتبوا أسماءهم على جدار الزمن كما يكتبون على جدران المقاهي كمقهى قصيدة نثر في اللاذقية فيخربشون بشكل عشوائي ويحطمون الأشكال والقوالب ويعبثون باللغة ولا أخفي أنني أقرأ شيئاً من الناحية النفسية والبوحية الداخلية يعجبني وأحياناً ترى طلقة نفسية تصيبك في الصميم، وأحياناً لوحة تجريدية بمقطع من الشعر، فالفن لا يحدد ولا أنا ولا غيري يستطيع أن يحدد أشكاله وآليات التعبير عن الرؤى الفنية ولكن نستطيع القول أن هناك حدودا معقولة لعمل الشاعر وما يسمى بمحترفه الشعري وبما يطلع على اللغة، فلابد أن يعرف القواعد الأساسية على الأقل، وأن يعرف ما هي البحور. 

*هل ترى أن عمل الشاعر على اللغة الشعرية والكلمة يساهم في إغناء قصيدته؟

**علماء اللغة يضعون القواعد، وينحتون الألفاظ أما من يجربها ويختبر صلاحيتها وجمالها فهُم الشعراء، لذلك نحن من .. وليسوا هم .. فنحن من نتذوق الكلمة ونرى إذا كانت اللفظة مناسبة للنص أم غير مناسبة، وإذا كانت الكلمة غير مناسبة نبحث لها عن مكان فتصبح مناسبة للنص ولا أؤمن بوجود ألفاظ شعرية وأخرى غير شعرية حيث توجد المفردة تكتسب شاعريتها.

*من أين تستقي أدواتك الشعرية؟ وكيف تقطف مفرداتك الغنية سواء الغزلية أو الاجتماعية؟

**هذه شخصيتي، المسألة تبدأ بشخصية الشاعر، لا بل إن لم تشم عطر الشاعر إذا كان له عطر، إن لم تلحظ كيميائه، إن لم يتميز صوته، فهو إذا تابع، وهو مسودة عن مبيضة شعراء، يعيش ويدور في فلكها، وأشكر الطبيعة والتكوين الفطري الذي ناداني منذ البدء لكي أكوّن تجربتي الخاصة. فأنا ربما أرى في المرأة ما لا يراه غيري، و أرى في الطبيعة ما يراه وما لا يراه غيري، فأتعامل مع اللغة باحترام لميلي الفطري للموسيقى، فاللغة التي أحببتها وأعملت بها يد الخبير، واخترت منها المُشرق الجميل الواضح الدّال، والأمر الثاني الأمر المجازي الذي وسّم شخصيتي منذ البدء، فدائماً أرى ما خلف القمر، وما وراء الغيوم وما بين ذرات التراب، إضافة إلى حسي الموسيقي والشعري سواء اعترفنا بالإيقاعات الخارجية، المتمثلة بالبحور أو بالإيقاعات الداخلية التي تصدر عن هذا التناغم الداخلي، أو في استحضار الوجود للذات الشعرية.

الرمزيون يقولون: الموسيقى وحدها مصدر للإيحاء. مصدر كبير للإيحاء وللفسحة الداخلية وللإشراقات الذهنية للسفر الخيالي، فأنا لا أذهب هذا المذهب الجامح ولكنني أعتقد بأن الموسيقى عنصراً داخلياً حتى ولو كان له إيقاع خارجي، إضافة إلى علاقتي الجيدة مع الناس، فظهرت مبكراً وخاطبت الناس بلغتي وأقنعتهم، وبصيغي الشعري فالروح العقلية التنظيمية تؤثر تأثيراً ايجابياً على عقلية المتلقي فقصيدتي ليست فوضى شعرية.

*في شعرك تحمل الهموم، والفرح والأمل، والألم، والمشاعر المختلفة، كيف تستطيع أن تنتقل من حالة إلى أخرى بسلاسة ودون الوقوع في التراجيدية التي يسقط عدد كبير من الشعراء ضمنها؟

**أنا من أنصار القصيدة الكليّة، فقد سبق للشعراء أن كتبوا عنها ومن خلالها، القصيدة الكلية هي التي تتكلم عن الوجود بشكل متناغم، بتأثير متبادل، فلا تغيب عنك المرأة وأنت في قلب الطبيعة، ولا تغيب عنك السياسة وأنت في قلب المجتمع، ولا يمكن أن تحب بعقلك وبوعيك، وطالما هناك وعي و لاوعي يتبادلان المواقع ويقدمان الخدمات في إطار العمل الفني فهذه الرؤيا الشاملة للوجود نقلتها إلى الشعر، فترى في شعري ملمحاً وطنياً أتسرب منه إلى ملمح ذاتي بعد إذن هو يقودني بطواعية إلى موقف تأملي فأنا في شعري قرأت وعرفت، وأبنيه على نظرة فكرية فلسفية تأملية، ومنها أنطلق إلى تفسير الوجود، أو إلى فهم الوجود الجمالي، وما الفن في الحقيقية إلا نظرة جمالية للوجود وإلا فيكون نظرة علمية نظرة ذات طابع نصي محدد مغلق وهذه الرؤية أن نرى الأشياء على حقيقتها والرؤيا نرى ما وراء الأشياء فأنا من خلال ما أراه إلى ما لا أراه إلا بخيالي وتأملاتي أكتب قصيدتي. 

*هل ترى أن الذائقة الفنية الشعرية عند أي مبدع هي رهن للظروف والاستمرارية للتواصل؟

**السؤال هام جداً، هناك من يدّعي بأنه يكتب بمعزل عن الناس ويكتب لذاته، هؤلاء كتبوا لذاتهم حتى قتلوا ذاتهم، وقتلوا شعرهم معهم، ولا احد الآن يكترث بهم ولا يكلّف نفسه أن يتناول أثراً من آثارهم، أنا لا أستطيع أن أتصوّر شاعراً يعزل نفسه عن ما حوله ليكتب شعراً، نعم أنا لا أتصور شاعراً يبيع نفسه للمجتمع يقدم نفسه لقمة سائغة للمستهلك من حوادث الحياة والحوادث العابرة، ولكن علينا أن نحضن هذا المجتمع ولا أخفي بأنني مصاب بلوثة إنسانية لأنني أبكي لأبسط مشهد إنساني ويبكيني الوجع الإنساني ويدميني ويمزقني المعاناة الإنسانية، ومن هنا أقترب من هذا البعد الصوفي التأملي الوجداني الزهدي، ربما ففي شخصيتي الكثير من الصوفية والزهد، وتمثل الإنسانية المطلقة، وهناك دراسات أخذت هذا العامل بعين الاعتبار، والحمد لله أن الشعراء كل واحد منهم  يأخذ غرفة خاصة به كي لا يختنقون جميعاً في غرفة واحدة. 

*كيف ترى حصول الشاعر الكبير أدونيس على جائزة غوته الألمانية؟

**بصرف النظر عن الجائزة، فأدونيس هذا المفكر الكبير المبدع، قد أسهم إسهاماً كبيراً في إغناء الفكر العربي والإبداع العربي والعالمي أيضاً بمؤلفاتٍ ذي شأن.

وقد أكسب ما كتبه صبغة عالمية إنسانية، وهو لا يخجل من هذا، وكلنا يسعى بشكل أو بآخر ويحاول أن يمتطي صهوة الحصان الإنساني أو الفرس الكوني، حتى يصل إلى هذا اللامحدود. أدونيس مسكون بشهوة اللامحدود، ولا يسأل أحد هل حقق أدونيس نبوءاته أو إرهاصاته أو تصورانه أو أحلامه الكبيرة، هل تحققت في شعره مثلاً، فهذه مسألة مختلفة، هي تحققت إلى حد ما وهو ليس استهانة له لأن ما من شاعر يحقق شروط نقد.

النقد يبقى دائماً متقدماً، أنت تكتب عن شيء تستطيع أن تفرد له كل المفردات الإعجازية والواقع المتخطي عندما تأتي إلى القصيد ربما لا تنجح في اختيار المفردات المتميزة، فلا بد أن تقنع فهناك فرق شاسع بين نقد الشعر وكتابته.

أدونيس يرسم أفق قصيدة لا قدرة لغيره أن يكتبها، وكثير من شعره هو ضرب من السريالية وهو كتب كتاب عن السريالية والصوفية ونقاط التقاطع بينهما، فهو يحاول أن يقبع في هذه النقاط وأن يقف في هذه التقاطعات الحادة وأن يخاطب القصيدة المناجاة.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر الشاعر غسان حنّا على أجوبته الصريحة التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها يمكن أن تكون مرجعاً مهما للشعراء الشباب في خطاهم في ميدان الشعر. كما ننوه أنه

صدر للشاعر “توشيح على مقام الليل” و”ما قدرت سميك” و”لأني سأنسى” و”أبجدية التجلي” إضافة إلى مسرحية و”مملكة الغبار” ومجموعته القصصية “حافلة التراب” وغيرها.

سيصدر له “أناشيد لسمو الزنبقة” وهو كتاب كبير، يضم تجربة مركبة متعددة الأصوات.

لقاء شادي نصير ـ عالم نوح

Endnotes:
  1. [Image]: http://kfarbou-magazine.com/wp-content/uploads/SAM_01011.jpg

Source URL: https://kfarbou-magazine.com/issue/8824