الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

دائرة الوحشة والود

jhhjhfjhjhfjhfjjfjd

لم يكن يفكر بأي شيء، ولم يتوقع حدوث ما يسترعي انتباهه؛ لهذا لم يكن غريبا، أو منتظرا، أن تجلس قربه على المقعد امرأة؛ وأيضا لم يكن مستهجنا، أو محببا، أن المرأة كانت تبكي بصمت وهي تواري وجهها لتستر دموعها،

باذلة جهدها كي يكون نشيجها صامتا، كأن البكاء إثم، لهذا يجب ألا يلحظه الغرباء.
خمن أنها جلست على المقعد بمحاذاته مضطرة، خشية أن تسقط منهارة على الأرض لأنها لم تعد قادرة على المشي، أو الوقوف والاستناد إلى إحدى أشجار الحديقة الهرمة.
لم يحاول أن يكون حياديا، فهو كذلك بالفعل؛ ولكنه لم يستطع العودة لقراءة الجريدة بهدوئه المعتاد، فلقد شعر بالجاذبية الطاغية للمرأة الجميلة، وهذا ما جعله يتساءل عن سبب بكاء امرأة يفترض ألا تشعر بالإحباط قط.
اخذ يتأملها من طرف عينيه، كيلا يزيد من إرباكها. حذاؤها اللماع يعني أنها لم تمش لمسافات طويلة، تنورتها البيضاء النظيفة يعني أنها تحرص على أناقتها، كنزتها الرقيقة التي تكشف عن ذراعيها يعني أنها متحررة. شعرها القصير المصفف جيدا يعني أنها لم تتعرض للعنف.
* * *
بيديها المرتعشتين تناولت حقيبة يدها الصغيرة، ثم فتحت علبة زجاجية غير شفافة؛ ولشدة اضطرابها وقعت العلبة من بين يديها المرتجفتين، فتناثرت على التراب كبسولات صغيرة يتاقسمها اللونان الأسود والأبيض.
انحنت لتلتقط الكبسولات الساقطة، فانحسرت تنورتها عن ساقيها البضتين، ولكنها لم تأبه للأمر، فلقد كانت مشغولة تماما بابتلاع كبسولة دون ماء، لهذا تقلصت ملامح وجهها بطريقة وجدها تدعو للشفقة والتقزز.
قبل أن تلتقط الكبسولة الثانية قفز صوبها، والتقط بقسوة يديها قبل أن تضع الكبسولة في فمها المصبوغ بأحمر الشفاه بإتقان.
حاولت المرأة التملص من الرجل الغريب الذي اقتحم عالمها فجأة، ولكنها سرعان ما همدت بين يديه كجثة عندما صفعها بقسوة على خدها.
بصوت مخنوق واهن تساءلت بذعر:
-ماذا تريد مني؟!
لم يجبها على سؤالها، بل قال بحزم:
-لا أريدك أن تموتي!
فهمت المرأة قصد الرجل الذي لم تلتقه من قبل، فابتسمت لأنها وجدت من يحنو عليها؛ لهذا قالت وقد داهمتها سعادة غير مرجوة:
-كنت أريد أن أتناول حبة لوجع الرأس..
وصمتت كي تخفي ضحكتها، ثم أردفت وهي تحس بأصابعه تفلت معصميها ببطء:
-أتناول أكثر من كبسولة لأن صداعي من النوع المزمن.
ابتسم بخجل، فحرر يديها من قبضتيه، ثم قال معتذرا:
-آسف ..
وأردف، وهو يحني رأسه للأسفل:
-لقد كنت جلفا بالفعل.
قالت وهي تهز كتفيها:
-بل أنا سعيدة لأن هناك من يأبه بي.
لم يجد ما يقوله، ولكنه لم يكن يريد أن يدعها تذهب وكأنه لم يلتق بها من قبل، فقال ببساطة فاجأته أكثر مما فاجأتها:
-أحبك.
أصابعها الناحلة لم تسطع أن تخفي ضحكتها، ولأنها لم ترد أن تجرح مشاعره التي وجدتها مرهفة أكثر مما يجب، قالت بعفوية:
-أنت تستحق أن يحبك الآخرون.
لأنها لم تغضب منه شعر بالراحة، وأيضا باليأس لأنه كان يطمح لسماع شيء مختلف تماما. وكي يشغل نفسه بشيء ما أخذ يجمع الكبسولات المتناثرة وهو ينفخها مزيلا عنها الغبار، ثم وضعها في العلبة الزجاجية بعدما نظفها بمنديله. ثم قال بالأسلوب الذي يتحدث فيه مع أصدقائه القدامى:
-تفضلي.
تناولت علبة الدواء شاكرة، ولكنها لم تضعها في الحقيبة، بل أبقتها في يدها، وعندما حاذت النهر الذي يشطر الحديقة إلى قسمين، قذفتها بعيدا، فجرحت سطح النهر، ثم سرعان ما استقرت علبة الدواء في القاع، والتأم جرح الماء بهدوء.
سألها بلا مبالاة:
-لماذا رميت بالزجاجة؟
قالت بلا اهتمام:
-لم أعد بحاجة إليها.
عندئذ رمى بالجريدة التي في يده، فطارت في الهواء وقد تبعثرت صفحاتها، ثم طفت قليلا على سطح النهر.
كل منهما تكلم عن نفسه.. بل وأسهب في الحديث حتى عن أدق التفاصيل في حياته، وهما يتبادلان السجائر.
أخبرها.. أنه يحب القهوة بلا سكر، و يحب تناول البصل على الغداء، ويتابع فيلم الرعب على التلفزيون مساء كل يوم خميس.
وقالت له.. إنها تحب ارتداء الثياب القطنية، والجلوس قرب المدفأة في الشتاء، وتربية القطط.
* * *
عندما حل الصمت بينهما توادعا دون أن يسال أحدهما الآخر عن ..اسمه، أو أين سيلتقيان، ومتى.
عرجت في طريق العودة على الصيدلية، واشترت علبة دواء جديدة. وأيضا في طريق عودته إلى منزله اشترى الجريدة ذاتها.

*من مجموعتي القصصية (ماء ودماء) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق 2006

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *