الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

عارية بين الكتب

باغته رنين جرس الباب الذي انتشله من استغراقه الصامت في لجج أفكاره المضطربة، فجفل كحصان جموح لم ينجح المروض في تثبيت الرسن حول رقبته، فسقطت لفافة التبغ من بين أصابعه الراعشة على ورقة أفقدها بياضها سطور غير مرتبة، ورماد لفافة تبغ فقد حرارته.

خشي أن تحرق لفافة التبغ أوراقه، فنفضها بيده المرتجفة بذعر مبالغ فيه، فهوت إلى أرضية الحجرة المغبرة، فداسها بحذائه العتيق الذي مازال عالقاً به بقايا طين جاف، وهشيم أعشاب يابسة، ونثرات من أوراق مصفرة لأشجار تواجه العواصف بجذور قوية ضاربة في عمق الأرض.
سار بخطوات متعبة صوب الباب الموصد بإحكام، وهو يتساءل بريبة عن الكارثة التي قد تنتظره في صقيع الليل الموحش.
دهش عندما رأى فتاة جميلة تبتسم بلطف وهي تسأل بلهجة وادعة:
– الأستاذ موجود ؟.
تذكر الأمر بسرور لم يتوقعه، فقال بود لا يجيد التعبير عنه:
– أجل.. ادخلي.
وأضاف وهو يتقدمها بقامته النحيلة التي أحنتها الهموم باكراً:
– هل وجدت صعوبة في المجيء؟.
– صديق أوصلني حتى باب البناية.
وأردفت وهي تزيح خصلات شعرها المبتل:
– لماذا تسكن في هذه المنطقة النائية؟.
لم يجب على سؤالها، واكتفى بالإشارة بيده -التي ترتعش فيها لفافة تبغ انطفأت للتو- أن تدخل.
مشت بجانبه راسمة ابتسامتها المعهودة التي سرعان ما تلاشت، إذ فاجأها بأنه دخل غرفة المكتب. وجلس على كرسي خشبي كان فيما مضى بعضاً من شجرة خضراء تحط عليها الطيور المهاجرة لهنيهة قبل أن تواصل رحيلها. ثم تناول الورقة التي أحدثت جمرة لفافة التبغ ثغرة في وسطها محاولا أن يتذكر الكلمة التي أحرقتها لفافة التبغ ليكتبها من جديد.
لم تجد ما تفعله سوى أن تخلع معطفها المبلل بالمطر ذا اللمعة الخافتة، وتجلس على أريكة فقدت لونها منذ زمن بعيد.
بعد انتظار ممل، نطقت سؤالها بضجر، وهي تتأمل رفوف الكتب التي تغطي الجدران الأربعة، مندهشة من عددها الكبير:
– أين الأستاذ الذي جئت لأجله ؟.
لم ينتبه لسؤالها، فقد نطق بالكلمة المفقودة وهو يكتبها:
– موت.
صعقتها الكلمة التي لم تتوقع أن تسمعها أينما ذهبت، فصمتت متأملة في الفراغ، ثم قالت لتبدد وحشة السكوت البغيضة:
– هل أنتَ الأستاذ الذي حدثوني عنه؟.
– أجل.
نطقها بعجلة، وهو يطوي بعض الأوراق ويضعها في مغلف كبير داكن الخضرة.
إجابته زادت من استغرابها، فتساءلت في نفسها بصوت مسموع، وقد تنبهت إلى بياض شعره، وتجاعيد وجهه، ونظارته الطبية السميكة:
– لماذا لم تصطحبني إلى السرير؟!.
– انتظري قليلاً!.
غمغم بارتباك، وهو يكتب على مغلف رسائل.
قالت بصوت مضطرب، وهي تشعل لفافة تبغ من النوع الرخيص:
– ألم أعجبك؟!.
توقف عن الكتابة، وتأملها بجلستها وهي تضع ساقاً على أخرى حيث انحسر الفستان القصير عن ساق عاجية يزيد من إغرائها انعكاسات ضوء الثريا الكهربائية، فخمن في خياله لدونة الجسد الطري، فقال محتفياً بحضورها الذي أضفى على المكان دفئاً يفتقده:
– أنت امرأة جميلة!.
راقها إطراؤه، برغم اعتيادها مثل هذه المداعبات، فرنت إليه بعينيها، محاولة أن تحوي عيناها كل إثارة تستطيع امرأة أن تعبر عنها بنظرات العيون فقط. ثم همست بغنج، وهي تعبث بسلسلة ذهبية ناعمة تطوق عنقها الذي تحوطه خصلات شعرها الرطبة كغمامة ربيعية مرحة:
– لماذا لم تقبلني حتى الآن؟!.
هرب من نظراتها بأن وضع مغلف الرسائل في حقيبة صغيرة سوداء عتيقة. ثم خاطبها:
– تحدثت في الأمر منذ أسبوع على ما أظن.. لم أطلبك أنت شخصياً.
– هل أذهب؟.
قالت بغضب، وقد احمر وجهها معبراً عن براءة غير متوقعة.
برأفة مشفقة قال حالماً بدور أبوة يفتقده:
– لا عليكِ.. سأعطيكِ المال على أية حال.
– أنتَ تهينني.. أنا قادمة لأعمل.. أرفض استجداء الناس!.
فاجأه جوابها الحاد. فقال، وهو ينظر إليها بإعجاب، وقد شعر أنها مرهفة المشاعر لدرجة لم يظنها قط:
– آسف.. لم أقصد الإساءة إليك.
صرخت منتفضة، متشجعة باعتذاره:
– ماذا تقصد إذاً ؟!.
– بصراحة.. أشعر بالوحدة وأريد التحدث مع أي إنسان.
أكد بخيبة، وتناول قلمه ليرسم دوائر مشوهة على ورقة بيضاء.
عادت إلى الجلوس على الأريكة، ثم أخرجت من حقيبة يدها مرآة صغيرة لتتأكد من زينتها وهي تقول بأسف حقيقي:
– لكنني.. لا أجيد الكلام..
ثم ضحكت بصوت عال، وأردفت بيأس وهي تعيد المرآة إلى حقيبة يدها الصغيرة:
– أنتَ تجعلني أشعر بالخجل لدرجة لم أتصورها من قبل!.
جوابها فاجأه، فقال، وهو يتأملها كأنه يكتشف حضورها البهي للمرّة الأولى.
– أعتذر عن كل ما بدر مني تجاهك.
وكي يتخلص من الإحراج، أخذ يشغل نفسه بتعبئة قلمه من دواة الحبر.
قالت بلا تكلف:
– ألا ترغب برؤيتي كامرأة تعيش في غابة دافئة بعيدة.. تجهل أن الإنسان اخترع ثياباً ليستر ما يود إخفاءه.
أعجبه تعبيرها، كما راقه أن تتحدث بأسلوب خيالي بديع. فسألها:
– هل تشعرين بالخجل عندما تتعرين أمام رجل لا تعرفينه من قبل؟.
ابتسمت وهي تشعل لفافة تبغ. ثم قالت وقد أغمضت عينيها ذات الأهداب الطويلة:
– بالطبع لا.. فهذه مهنتي..
وأردفت وقد تجمدت بسمتها على وجه زاد شحوبه:
– أنا أهب المتعة والسعادة للآخرين.. وإن تألمت ونهشني الحزن.
ثم اختلجت دموع محبوسة في عينيها منذ زمن طويل، فأشاح ببصره عنها كيلا يحرجها. ولكن الأفكار فرت منه، فاخذ يرسم خطوطاً قصيرة على الورقة التي كان يكتب عليها من قبل.
قامت عن الأريكة، واقتربت من كرسيه، وأخذت تقرأ بصوت مسموع بعض السطور من الأوراق المبعثرة على مكتبه. ثم استفسرت:
– ماذا تكتب؟.
– أكتب قصصاً؟.
– اقرأ لي القصة التي تكتبها.
أسعده طلبها، فأمسكَ بجدية أوراق قصته الأخيرة، وأخذ يقرأ حكاية إنسان وحيد يشعر بالغربة، فينهي حياته بالانتحار.
بعدما انتهى من قراءة قصته، نفرت من مقلتيها دموع انهمرت على وجنتيها، ثم انحدرت على فمها فتحسست طعمها المالح.
قام من خلف مكتبه، وأخذ يمسح دموعها بمنديله الأبيض الذي لطخ نظافته سواد كحلتها:
– أنتِ أول إنسان تبكيه قصصي!.
– قصصكَ حزينة مثلكَ.. أنا على النقيض منك.. لا أحاول مواجهة الحزن بل الهروب منه.
وأردفت وضحكة مخنوقة تتلجلج في حنجرتها:
– وأيضاً من الناس.. والشرطة.
– أنا مثلك أهرب من الجميع.. لأنني مطارد؟!.
قال وهو ينظر في عينيها. فقالتْ غير مصدقة:
– لكن الكتابة غير ممنوعة.. فالكتب في كل مكان.. حتى على الأرصفة!.
لم يعلق على كلامها، فقد عاودته هواجسه السوداء، فغرق في شروده الملحاح. وما أن أحست بذلك حتى همست وهي تتحسس بأصابعها الطويلة لحيته الشعثاء:
– يكفينا حزناً!.
أشعرته كلماتها التي لمس فيها بعض الصدق، أنه يعرفها منذ سنوات، فقال:
– مثلما تريدين.
رمى قلمه على الطاولة.
فوقفت بلا مبالاة، وبدأت تنزع بأسلوب مثير فستانها الملون، فبانت ثيابها الداخلية المشغولة بالدانتيلا الأحمر الشفاف المفارق لبياض جسمها الغض. فتذكر على الرغم منه الدماء التي تنز بوهن من جراح تنفتح كأبواب لأقفاص تتصالب على الروح الأسيرة. فرمش بعينيه لتصفو رؤية كساها ضباب الأقبية طويلاً.
ثم قام عن مقعده، وسار نحوها بشغف رجل يظن أن امرأة واحدة تستطيع أن تختزل كل نساء العالم. من دون أن يكترث بأن يده قد تعثرت بدواة الحبر فسقطت على الأرض متحطمة، وقد انتشرت بقعة زرقاء قاتمة تلمع فيها شظايا الزجاج المكسور.
ضم المرأة الحارة كشمس صيف، وأخذ يقبلها بجوع الفقير إلى رغيف خبز ساخن.
ما كادت المرأة تتعرى تماماً، حتى رن جرس الهاتف، فهمست بأذنه وهي تعض برفق شحمة أذنه:
– هاتفك مزعج.. فالوقت غير مناسب الآن.
– لدينا الليل بطوله.
أجابها متوجساً، وقد انفلتت من داخله مساحات خوف كان قد نسيها بعض الوقت.
ثم قام عن جانبها، وتناول سماعة الهاتف قائلاً بصوت تغله الخشية:
– من يتكلم؟.
سقط من يده ثوبها الحريري، وزاد شحوب وجهه، وارتجف صوته وهو يتحدث بالهاتف:
– متى حدث ذلك؟!.
وضع السماعة بقوة كادت تحطم جهاز الهاتف، ثم جلس على كرسي المكتب سانداً مرفقيه على الطاولة وهو يحتوي رأسه الكبير بين كفيه المتشنجتين.
لم تشأ مخاطبته حتى يهدأ قليلاً، ثم انتظرت حتى اعتدل في جلسته وتناول لفافة تبغ. فسألته بحيرة تشوبها مشاعر مضطربة:
– ماذا حدث ؟!.
– يجب أن أغادر المكان فوراً.
أكد وهو يحاول إشعال عود الثقاب بلا جدوى.
كانت تنوي أن تقول له إنه ليس في العالم أمر يستحق العناء، ولكن إجابته كانت حاسمة أكثر مما توقعت، ففضلت الصمت وهي تبحث عن ملابسها المبعثرة بفوضى قرب كومة من الصحف العتيقة.
قالت بصوت خافت، وهي تتأهب للمغادرة بأسف لم تألفه:
– عرفت رجالاً كثر.. ولكن هذه أول مرة أبكي أمام أحدهم.. لقد أحببتكَ بالفعل.
وطبعت قبلة لم تعرفها من قبل على شفتيه الجافتين، ثم أدارت له ظهرها الذي غطى بعضه شعرها الطويل الأسود، وخرجت من حجرة المكتب.
هرع صوب باب الشقة يريد إخبارها بأنه سيسافر غداً وقد لا يعود إلى هذه المدينة أبداً، لهذا يريد أن تبقى معه حتى الصباح مهما حدث.
لكنه وجد الدرج خالياً من أي حركة، فهبط الدرجات كثقل يهوي إلى موئله. ثم خرج إلى الشارع المسكون بصفير رياح باردة، متأملاً الظلام الدامس الذي يخيم بإصرار.. فارضاً سواده الحالك بقسوة لا تصدق.

*من مجموعتي القصصية (الساعة الآن) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *