الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

حُرُّ الصهيل

images (3)

 

تعثّرتُ في لحظة سهوٍ بدُوريٍّ صغيرٍ يلهو على رصيفٍ حجريٍّ..في شارعٍ دمشقيِّ قديمٍ مفتوحُ على الياسمينِ والذكريات,ودون وعيٍّ أو انتباهٍ كدتُأسقط على ما التقطه الغبارُ الفوضويُّ العائمُ من ارتسامات جسدي, فاستيقظ العقل من لحظات استغراقٍ تأمليَّ هادئ، رفعتُ ذراعي يائسةً علِّي أمسكُ بشيء أُسند به قامتي المتداعية كشالٍ حريريٍّ بنفسجي سقط من السماء.

الشارع يفيض بالمركباتِ والمارَّة,والحياة تقفز من رصيفٍ إلى رصيف توشِّحُ الجدران والأجساد بعبثها الطفولي الطليق, وتنحني أشجار الليمونِ والكينا بحميميةٍ على بَوحِ شعراء يجلسون في ظلالها على المقاعد الخشبية. ثانيتان كدهرٍ عَبَرَتا..وعبَرَتْ ظلالُ أجنحةٍ حَوَّمتْ في الغامض البعيد تحت عينيَّ المفتوحتين على الدهشة والحنين,واسفلتٍ رمادي كدتُ ألامسه فارتعدتُ من شعورين متداخلين في آن..الخوفُ من فكرة السقوط،والخجل..تعلَّقتْ ذراعاي المرتبكتان في فراغٍ مبهمٍ هشٍّ رطب, وندَّت من صدري أَنَّةٌ صغيرةٌ فتَّتها الهواء، فأغلقتُ أصابعي على هسيس الياسمين الحزينِ,وعانقتُ في الصدى.. ظِلِّي “الله يحميكي”..هتفَ ذاك الذي رفع الشمسَ على كتفيه، فأرختْ جدائلها على صدره وذهبت إلى مجدها العُلْوِي, وأسرجَ في صوته عنفوان الخيولِ فنَزَعَني بغتةً من وحشةِ ذاتي,ومن شارعٍ يضُجُّ بصراخ المركباتِ وهديرِ المارَّة، رفعتُ رأسي المثقل، صعدتُ جسده المرمري عتْبَةً..عتْبة، وطال مسيري,بزَّةٌ عسكريَّةٌ وبندقية,ورائحة البحرالطازجة الشهية تشرق من جلده الملوَّحِ بالأصدافِ الفضيَّةِ، والسُّمرةِ الجذابة الفاتنة,فأذوب كنهر عسلٍ ناضجٍ أفلتته نحلاتٌ في لحظات الرحيل, ثم أسيلُ على درب آلامي من جبل كنعان إلى بردى,فيوحدني موجه,يرفعني إلى وجهه الفينيقي الجميل..

نورسان يحدِّقانِ بي..فأصابُ بذاك الأزرق العميق في عينيه,تغزوني رعشةٌ بريئةٌ تتسلق أوردتي,ويخفق لاهثاً ذاك الذي يحتلُّني في شطري الأيسر، مدَّ ذراعه بلهفةٍ كي يسندني..فتراجعتُ إلى الوراء حياءً معاندةً فرضياتِ نيوتن، ثم اتكأتُ على الهواء، ابتسم قليلاً مستدركاً حيائي, فانزاحت روحي، وكطيرٍ حبيسٍ يضرب بجناحيه قضبان كهفي، ثم، وفي لحظةٍ خاطفةٍ يفرُّ مني، ليحُطَّ على عَلَمِ الوطن المشوم على صدره.

وجهاً لوجهٍ واقفَين في محراب دمشقَ، والزمن يدُقُّ نعش اللحظاتِ الهاربة, فأتوسَّل لبحريه أن ينتظرَ,وأن تنتظر الساعاتُ والأشياءُ، كلُّ الأشياء، مرَّتْ شمسُ الغروبِ على مَهْلٍ بين ظلَّينا هاجرةً ذيولها الأرجوانية,وارتدتْ يمامات محلِّقةُ خيوط الأصيلِ، خطَّتْ بأجسادها الرشيقةِ المعلَّقةِ كأيقونات المساء آخر ما تبقى من نهارٍ صيفيٍّ على الأفق الدمشقي “الله يحميكي”قالها ثانيةً هامساً، وفاض اللازورديُّ من عينيه ليغطي تصحُّر الوقت، وجفاء الإسفلت الرمادي..

تصَاعدَ الماءُ، فغمر كل شيء، لا سماء الآن، لا أرض الآن، كل شيء ماء..وكانت السفن تلوِّح لي بأشرعتها مبتعدةً، وتقفز الأسماك الكبيرة لاهيةً بين الأعشاب والطحالب والجزر المرجانية..فرسٌ تستحم بالموج، وشمسٌ تتعرَّى تدخل الماء تاركةً رداءها الأرجواني عائماً فتبدُّده الريح,وحماماتٌ مطوَّقةٌ مادت قليلاً على شفتيه ترتشف قطراتٍ تلو القطرات..فيعلو الموج أكثر، يطرق بجبروته حصونيَ المنيعة أنا الأنثى المُسَوَّرةُ بالحلم والانتظار, فأشهق لاهثةً غرقي واللاجدوى في العثور على خشبة خلاصٍ أو طوق نجاة، “ورد..ورد”. بائع الورد الصغير ينادي محتضناً سلته الصغيرة, عيناه الجائعتان تتوسلان: “الله يخليلكياها عمَّو، اشتري وردة”، يبتسم ذاك الجندي وهومازال يحدُّق بي,فأُطرِق مرتبكةً يضرِّجني الخَفَر، ينحني على الصغير، يستغرق طويلاً في عينيه,وأنا بتُّ أعانقهما معاً بطرف عيني, مازلنا في دمشقَ نبيع الوردَ ونغني.

يشتري وردةً، ثم يقبّل الصغير من جبينه مداعباً شعره “عد إلى البيت”.. يضحك الصغير مبتهجاً ويقفز بين المارَّة وهو يغني عالياً “الله محيي الجيش..الله محيي الجيش”. أشعل سيجارةً,وعَدَلَ الخوذة على رأسه,ورَكَزَ بندقيته على كتفه الأيسر..رفع رأسه إلى السماء مطلقاً ما في صدره من حنينٍ ودُخَان, ثم أومأ برأسه مودِّعاً:”ادعيلي”، ثم استدار بجسده الفينيقي الصلب، ومضى تاركاً لي بحريه الأزرقين، وابتسامة، ووردةً حمراء دمشقيَّة.لحنٌ شجيٌّ عذبٌ ردّده بصوتٍ خافتٍ دافئ فمالت عليه السماء,عانقته وتَبِعَتْهُ الطيورُ والفراشات وكل مافي القلب من حدائق وندى، وخيولُ روحي الهائمة في ظِلِّه, تبِعَهُ المدى..

عشرون عاماً في جسده الفتيِّ تشُقُّ الزَحام فتنبئني عن أمٍّ مازالت تقف في الباب تنتظره..ونوارسُ الذكرياتِ في دمه النبيل تكتبُ تاريخنا القادم..

عشرون عاماً في قلبه تخبرني كيف ودَّع كتبه وغيتاره وأصدقاء الطفولة..

عشرون عاماً تُعَلِّمني كيف غادر فراش الصبا مُبَكَراً,ونام على أشواكٍ وصخورٍ في ساحاتِ الوغى،فصعد الدمع سلَّم روحي,وانحسرت الأرض تحت قدميّ, وعصفت بي رغبةٌ جامحةٌ أن أمضي خلفه كي أمسكَ بكفِّهِ وأقول له:لو أنَّي أرافقك إلى ساحات نسور تتوضَّأُ بالشمس وتصلِّي..

لوأنني أذهب معكَ إلى أقصى الحلم، فإنني أشتهي أن تكتمل ذاتي في ذات الوطن..

خذني هناك أيها الجندي أيَّاً كنتَ,وأيَّاً كان اسمك، فأنتَ أحمدُ وأنتَ حسينُ,وأنتَ حيدرةُ وأنتَ حنَّا وأنتَ حصنُ أحلامنا,وأنتَ حارسها، أنتَ أجملُ ما فينا، أنتَ آياتُ الله في دمنا، أنتَ إنجيل وأنتَ إمامُ أرواحنا، أنتَ حُرُّ الصهيل، فليتني مثلك،ليتني أنت.

هبط أول الليل كقطع الفسيفساء على هواجسي، على جسدي المنتظر كمنحوتةٍ في العراء, فصحوت على وحدتي،وعلى ياسمينٍ يُؤَذِّنُ صلواته النقية على الجدران,يداعبُ المارَّة في الشارع الدمشقي.

بائع الورد الصغيرمازال يغني،وذاك الجندي مازال يشُقُّ بجسده المرمريِّ الأبيّ تعرجات الزَحَام.

ارتعش قلبي ثانيةً في مداراته الفلكية,وتدحرجت عيناي تتبعان خطواته الرَّصينة..

عانقتُ وردتي الحمراءَ,قبَّلتُها،وهمستْ روحي في الهواء:

ـ “يا روحَنا..يا روحَ الوطن..الله يحميك..الله.. يحميك.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *