الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

الاحتضــــــــار

11943380_428359654035735_956433472_n

  فرنٌ متسعٌ كالأفق ، سقفه سماء حارة ذات كرة ملتهبة ، يحيل حضورها اليوم فرناً لاهباً… وكل مايعلمانه إنهما داخله منذ زمن يكاد يكون خرافياً ، تلاقحت فيه حبات

الرمل الملتهبة قبل أن ينتشر نسلها كقبائل النمل في قطـــع ( الهمبرغر ) بين ثنايا ملابسهم الخاكية … بين ذرات التبغ الذي يدخنون … في حضارة انطلقت كحصان فتي في فضاء مقدس ، أنتبه الحصانُ بعدها إلى مأساته ، فصهلَّ بفزع وهو يرى أطرافه ترتجف … تذّوب الأرض تحتها منسحبة نحو أقاصي هوة سحيقة … أنهت المرأةُ نوبتها من زجاجة الخمر في لحظة خلاصتها ذوبان كرة الشمس في بواكير برودة ليلة قادمة ، وقدمتْ الزجاجة إلى (جون ) الذي أرتشف منها جرعة طويلة قطعتها كلماته … – بوادر المغيب تلوح ، وجحيم الفضاء مستمراً … سيفتقدوننا في المعسكر … تأوهت المرأة بمجموع أسباب ونتائج غريبة ومتناقضة ، وبدتْ لها كفُ الأصيل أعظم هدية يمكن أن تُقدم لامرأة ضائعة فخلعت قميصها العسكري … توسدته ، فارتمت بقايا النهار على رفضها المعلن … – أو ( جون ) لقد ضجرت … ليفتقدوننا أو ليفعلوا أي شيء … أليس من الجنون أن نترك في أيام خارج إطار الزمن أضواء ( نيويورك ) وصخبها إلى هذا المكان القاتل ؟… وكل هذا بلا إرادة منك أو مني أو … يالتعاسة الظرف … أشعر بالضياع والوضاعة تمتدان في دمي كغابات من عهود غابرة … لا أسمع فيها سوى صرخات الإحتضار … كانت تشعر أنها الآن تحاكي جسداً وروحاً حالة مريض يهذي ، ويوّد لو يستمر في ذلك إلى النهاية … إلا أن ( جون ) كان قد تمدد قربها مستغلاً ذوبان ظل النخلة في ظلال شبه متصلة ، فلفحت أنفاسه الثملى أذنيها … – صرخة زنجي معذب .. عويل يتامى حربنا الأهلية .. أو لعله لهيب احتراق قرى الهنود الحمر .. لابد إنها تتسق – الآن – في دمنا كسرب طويل … – بلى وبلا تسلسل تأريخي … أنهكنا الجري نحو الشرق ، الرمال الملتهبة ، ورائحة النفط!.. أوشك ( جون ) أن يضحك بجنون على تعليقها إلا إنه واصل كلامه . – سيان ذلك ، إن انتظمت في تسلسل تأريخي أم لا ، فالكتاب أسود الصفحات على الدوام ، والترقيم لن يجدي شيئاً … فأنتِ تعلمين إن سنوات تأريخنا الطويل كانت تتصارع فيما بينها كالوحوش ، وفشلت دائماً في الوصول إلى هدنة مؤقتة … – كان يرمي عينيه بقوة في سماء بعيدة كالمستحيل ، شاعراً بدفء المرأة يلمسُ صدره حين رفعت مراراً زجاجة الخمر إلى فمها .. وضحك بسخرية لا تتلاءم مع حديثه الجاد حين ارتبطت صورته معها – الآن – مع أي حفلة صاخبة من الماضي ، لكنهما الآن مع ضيوف قلائل : الخوف ، والرمل ، واللهب المدمر … ثم ضحكا معاً حين توصلا إلى نفس الفكرة حول هدنة السنوات المتصارعة ، لكنهما مع آخرين كانوا يقضون ” وقتاً ممتعاً ” داخل مشعل تمثال حريتهما الشهير … – ألا يعني لهب التمثال امتداداً لهذا الجحيم الذي نعيشه – الآن – يومياً ؟ أطلقت هي تساؤلها وأوشكت قبله على الإجابة ، إلا أنهما آثرا الصمت حين أيقن كل منهما إنّ الحروف تلتصق باللسان بلزوجة دمٍ فاسدٍ ، تواكبه صرخات احتضار مفزعة … مجموعة الوحوش تمدُ مخالبها القاسية وتفتح أفواهها الجائعة إلى لحم الحصان الذي أمسى قريباً منها ، لكنه لما يزل بعدُ يواصل الكفاح . قوائمه تدكُ الأرض فتحيلها غباراً متطايراً ويواصل الانهيار حفلته الصاخبة التي طغت حتى على صهيل الحصان الخائف … ورغم الصخب كله برقت في ذهن ( جون ) ذكريات وأحلامه معها عن إنجاب طفل يزرعانه متحديين الجفاف والجدب . إلا أنه آثر التلفع برداء الصمت المثقوب من جهات متعددة ، إذ إستمرت أجراس الأحلام بالهديل حتى أيقظت حبيبته التي أوشكت أن تسقط في غفوة هادئة . تناغمت أنفاسهما مع الهديل مولدة سيمفونية حب وأمل ، أستقر فيها رأس المرأة على صدره ، فكوّن الجسدان وحدة شبه كاملة … (( نحن أحوج ما نكون – الآن – إلى طفلنا الحلم …)) واستمرا يداعبان بعضهما مداعبة تناقضتْ – تماماً- مع صراع الحصان والأرض التي لم تتوقف عن الذوبان وصراعه مع نفسه حين أتحدت هواجسه جميعاً في صورة أفواه الوحوش الجائعة وهي تمزق جسده المتعب … عضلاته شاخت … شبابه وهن حد الثمالة … وجماله ذاب تاركاً للعفن فرصة ذهبية لاستيطان طراوتهِ الراحلة … كان ( جون ) يواصل لثمها في أي جزء تطأه شفتاه ، غير آبه بالزجاجة الفارغة تدور بدوران رياح الصحراء الغاضبة في كل الاتجاهات … كانت رائحة الخمر تنتحر … طفلة تذوب قبل نضجها في دفقات نسيم صحراوي معطر بأريج النخل والقهوة المرة . وصدى ملايين الأفواه في همسها : ((الله أكبر )) يقبل قوائم العرش الكوني الوحيد ، فتخضع له كل سكنات الأحياء ، في صمتٍ جليل قتله اللحظة نشيج المرأة على بُعد أمتار وقف فيها (جون ) موليا لها ظهره ، بخجل يشعر به لأول مرة منذ إندلاع رجولته ذات مساء بعيد ، ونظر بضجر إلى الزجاجة الفارغة التي تصور إنها تعيد له بعض من قواه الآفلة . بحرٌ من رمال منحَ هويته لعباءة الليل ، ودَّ ( جون ) كثيراً لو يطلق ساقيه ، بعيداً ، بلا تحديد لأي اتجاه ، لكي يهرب من ذكرى معركته التي أنهزم فيها – الآن – والتي مازالت جثث ضحاياها تصدر رائحة نتنة ونشيجاً نسائياً متقطعاً !… بحر الرمل مفزع الامتدادات ، مجهول الأقاصي إلا في جهة بعيدة لاحت فيها نقطة ضوء تشير إلى وجود معسكرهما المنعزل في أرض غريبة لم تقدم لهم حتى الآن سوى عواصف غبار ومقاومة يبدو إنها لن تهدأ أبداً …وقد ضجر حين أيقن أنَّ الأمواج تنأى ، فينأى معها شراع طفله الوحيد ، بلا نذير أو إشارة للـعودة !. فاستدار إلى المرأة التي أطفأت نشيجها بصمت ، بخطوات وئيدة مدركاً إنه خلّفَ وراءه شراع المستقبل صيداً ثميناً لغضب الأمواج … ثقبت سيكارته عباءة الليل المطرزة من الأعلى بوميض نجوم زرع في نفسيهما الخوف أكثر من أي شيء ، فشعرا مجدداً بحاجة كل منهما إلى الآخر … طريق طويل شقاه معاً في تكوين حلم أو تأسيس مملكة يستدعي قيامها بقاء قوة الحصان ، ثم انتصاره على وحوش الجريمة والمخدرات والإيدز ، والتي ما انفكت تفغر أفواهها بإنتظار سقوط الحصان – وليمتها الشهية … كانت الأفواه تستدر لعابها ، فالحصان لم يعد يملك السيطرة على نفسه فوق أرض تتفتتُ إلى الأبد ، والهوّة البعيدة لم تعد كذلك بعد أن سحقت حتى رغبة الحصان في الصهيل … بل لم تعد الآذان تسمع سوى نداء الرغبة في خوض معركة أخرى كان فيها ( جون ) يتخلص فيها من ملابسه … (( نحن أحوج ما نكون – الآن – إلى طفلنا الحلم …)) تطوف في ذهنهما معاً – في ذات اللحظة – صورة طفلهما الحلم ، باعثة أملاً بانبثاق ميناء أو مرفأ يتحدى امتداد بحر الرمل .. أو عودة الشراع مجدداً في أفق ملون بأحلام لم تعد ثكلى … وكل حركة منفردة أو مشتركة منهما تُثير سحابات من غبار رملي تبدو كالضباب ، إلا إنهما – الآن – أكثر بُعداً عن ملاحظة ذلك بذوبانهما في حركات حيوانية متتابعة ، إستنزفت قواهما طوال ساعات ملغومة بشتى الهواجس والإحتمالات … ساعات شبقة تحت ضفائر الليل المرسلة ، استسلما فيها لشهوة بلا حدود ، افتقدا فيها آخر قطرة من رغبة أو أمل .. ثم اختتمت بصراخ المرأة الملتاع ، وتدحرج ( جون ) على جسد الرمل الذي يماثله في البرودة والجفاف … بينما كانت كل الحواس تتجمد على صورة أنياب الوحوش ، وهي تمزق بنهم جسد الحصان الشيخ ، فيغيب في أحشائها … إلى الأبد !…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *