الاثنين 1يناير 2024: هيئة التحرير وادارة موقع المجلة تبارك للجميع بحلول عام جديد متمنين لكم عاما مليئا بالخير والمحبة راجين من الله أن يعم السلام كل سورية ودمتم بخير ..  * 

الخيل في الشعر الجاهلي

horses05_1024x768

 

نظر العربي في الجاهلية إلى عالم واقعي لا مناص من معايشته؛ وهذا العالم مركب من المصاعب والمآسي والتنافس والعناء والقلق. 

يصحو العربي على قرع طبول الحرب، وينام وقلبه مـمتلئ بالضغينة، ونفسه مـثخـنة بالجراح متطلعة إلى الثأر؛ لا تـهدأ ولا تستقر؛ إذ كان الثأر قانونهم المقدس، وشرعتهم المنـزهة، ويحرمون على أنفسهم الخمر والملذات والنساء والطيب حتى يثأروا من غرمائهم، يتطايرون إلى الحرب تطايراً، ويتمنونها تمنياً. 

من هنا جـاء اهتمام الشاعـر العربي بالفرس، وكان اختياره الأولي لـه دون حيرة أو تردد؛ لأنه يجد نفسه متمثلة في ذات الفرس، فـ(الفرس –ذلك الإنسان الكامل– صورة لما يتشبث به الشاعر أملاً في المستقبل، ورغبة في قدر أتم من المناعة والحصانة. إن صورة الفرس هي صورة الرجل النبيل الذي ملأته العزة والثقة).

وأول ما يقابلنا من اهتمام العربي في الجاهلية بفرسه هو اهتمامه بنسبه، الأمر الذي يجعل من الخيل شيئاً ثميناً متفرداً نقياً من الاختلاط، صافياً من التمازج والتداخل، أصيلاً بعيداً عن التهجين ورداءة العرق. 

وإذا حرص العربي على أن يكون فرسه بهذا النقاء وهذا الصفاء، ضمن أن يكون قد أعد الجيد الأصيل الذي يكون بجواره عندما تشتد النوائب، وعندما يأتي دور امتحان الهمم والعزائم؛ عند تزاحم الصفوف وزحف الجيوش ومقارعة الأعداء

من أجل ذلك رأينا العرب قد حرصوا على تتبع أنساب الخيل والاهتمام بها من أول فرس انتشر في العرب، وهو (زاد الراكب)، كما ذكر ذلك ابن الكلبي وغيره، ثم تتبعوا نتاج زاد الراكب فقالوا: ونتج منه (الـهجيس) لبني تغلب، وكان أجود من زاد الراكب، ونتج من الـهجيس (الديناري)، وهو لبكر بن وائل وكان أجود من الـهجيس، (ويقال: إن أعوج من نسله) أي من نسل زاد الراكب، وقـال الأصمعي: (سبل اسم فرس منجبة في العراب، وهـي أم أعوج، وكانت لغني، وقيـل: إن أم أعوج اسمها سوادة، وسبل هو أبوه، وفيه قيل: 

إن الـجواد بن الـجواد بن سـبل

إن ديـموا جـاد، وإن جـادوا وبل 

وإذا رأى العربي الأصالة والنجابة والعتق في الفرس رجع بحسبه ونسبه إلى زاد الراكب، كما قال الشاعر: 

فلما رأوا ما قـد أرتـهم شهوده

تـنادوا ألا هـذا الـجواد الـمؤمل 

أبوه ابن زاد الركب، وهو ابن أخته

معم لـعمري فـي الـجياد ومخول 

فذكر الشاعر خمس مراتب من مراتب الصلة والقرابة؛ الأب والابن وابن الأخت، والأعمام والأخوال؛ تأكيداً وتأصيلاً لنسب هذا الفرس، وحرصاً وإمـعاناً في صفائه ونقائه، ثم تتبعوا نسل أعوج فقالوا: (من نسل أعوج الغراب والوجيه ولاحق والـمذهب ومكتوم، وكن لغني بن أعصر، وفيهن يقول طفيل الغنوي: 

بـنات الغراب والوجـيه ولاحـق

وأعوج تـنمى نسـبة الـمتـنسب

وحتى لا أطيل الحديث في هذه الجزئية رأيت أن العرب كانوا حريصين كل الحرص على معرفة أنساب خيولهم وذكر أسمائها، بل وتعدى الأمر إلى أن يهتموا اهتماماً كبيراً بذكر ومعرفة اسم الفرس واسم الفارس كما صنع ابن الأعرابي حين بين لنا ذلك الاهتمام في كتابه (أسماء خيل العرب وفرسانها)، ومن ذلك –على سبيل المثال– ذكره لخيل الأنصار، وخيل بني أسد، وخيل بني ضبة، وخيل عمرو بن تميم، وخيل بني حنظلة، وخيل باهلة، وخيل بني سليم،.. وذكر –مثلاً- (فرس سعد بن زيد الأشهلي اسمه: لاحق)، و(فـرس أبي جهل بن هـشام يقال لـه: مجاح)، و(مالك بن نويرة، أفراسه: ذو الخمار ونصاب والوريعة والعناب والـجون). 

واذا تأكد العربي في الجاهلية من أصالة فرسه وسلامة عرقه وصفاء نسبه وحسبه، وجد لزاماً عليه أن يحافظ على هذا الكنز الثمين الذي ينسجم ويتماهى مع وجوده الإنساني؛ ذلك الوجود الذي هو صنو الكرامة والعزة، وإلا فإنه إذا فقدهما استحال إلى وجود هامشي لا تربطه أية علاقة بحقيقة الوجود من منظور العربي فـي الجاهلية؛ لذلك لعب الفرس دوراً عظيماً فـي حياة الفارس الـعربي، وصار أداته التي يدافع بها غوائل الأخطار.. يبذل من أجله كل غال ونفيس، ويجهد نفسه، ويقضي أوقاته في إعداده الإعداد الجيد وتدريبه التدريب المناسب الذي يعزز مقدرته على الصبر والثبات والجلد وشدة التحمل، وترك التشكي.. فإذا تم له ذلك فرح به واستبشر واطمأن عندما يجد الجد، وعندما تبعث الحرب ذميمة، وعندما يقارع الأعداء مدافعاً أو غازياً، قال ربيعة بن مقروم: 

وثغــر مـخـوف أقمـنـا بـه

يـهـاب بـه غيـرنـا أن يـقيما

جعلنـا السـيوف بــه والـرماح

معاقلـنـا والحـديـد النظـيمـا

وجـرداً يقـربـن دون الـعـيال

خـلال البيـوت يلـكـن الشكيما 

تـعـود فـي الحـرب ألا بـراح 

إذا كلـمت لا تشـكـى الكلومـا 

وفي قول ربيعة: (يقربن دون العيال) ما يدل على أن العربي في الجاهلية قد أحب الخيل حباً شديداً؛ جعله يقدمها حتى على أبنائه وعياله، بل وحتى على نفسه، ولعلي هنا أستأنس بقول عبيد بن ربيعة حين قال: 

مـفـداة مـكـرمة عـليـنـا

يـجاع لـها الـعـيال ولا تـجاع 

إن هذه الروح التي يتمتع بها عبيد بن ربيعة وقبله ربيعة بن مقروم هي الروح التي كان يتمتع بـها كل عربي في الجاهلية؛ فقد عشقوا في الخيل منظرها، واستهوتهم محاسنها، وكانت لا تفارقهم ولا يفارقونها في سلم أو في حرب أو لهو أو جد.. كـان كل عربي يفاخر بخيله ويباهي بـها (وكانوا لا يهـنئون إلا بـغلام يـولد، أو شـاعر ينبغ، أو فرس تنتج)، فتسابقوا على اقتنائها، وحرصوا على تربيتها ورعايتها وبـذل كل غال من أجلها، قال طفيل الغنوي: 

إنـي وإن قـل مالـي لا يفارقني

مـثل النعـامة فـي أوصالها طـول

 ويلفتني –أيضـاً– فـي أبـيات ربيعة بن مـقروم السابقة –قبل أن أتـجاوزها– قـوله: (خـلال البيـوت…) فإن هذا القول يعزز ذلك الحب الذي وهبه العربي في الجاهلية لفرسه؛ فهو يريدها قريبة منه، ولا يرضى أن يجعلها تبتعد عنه، يريد أن تكون تحت نظره –دائماً– يملأ عينيه منها، ويشبع نفسه من تأملها، ويراقبها في أكلها وشربها، ويعد لها ما يكرمها به من الطعام حتى في أوقات الجدب والفاقة وضنك العيش. ولا غرابة في ذلك فما ذكرته –فيما سبق– عن الناقة وما ترمز إليه بالنسبة للعربي في الجاهلية أراه هنا في صورة أكثر وضوحاً عندما ينظر العربي إلى فرسه رمزاً للشجاعة والقوة ودفع الأذى، وحماية الديار والأعراض، وجلب الخير، قال الأسعر الـجعفي: 

إني رأيت الـخـيل عـزاً ظـاهراً

تـنجي من الغمى ويكشفن الدجى

ويبتن بالثـغـر الـمخوف طلائعاً

ويـثـبن للصعلوك جمة ذي الغنى

يخرجن من خلل الغـبار عوابـساً

كأصابـع المقرور أقعى فـاصطلى

ولقد علمت على تجـنـبي الردى

أن الـحصون الخيل لا مدر القرى

لقد أجل الأسعر الجعفي ما تعنيه له الخيل، وهو أنها –في حقيقة الأمر– هي الحصون التي يحتمون بها أمام مقارعة الأعداء وزحف الجيوش، وليست الحصون تلك الـمبنية من الـمدر والحجر والصخر. وفي هذا المعنى قال أمية بن أبي الصلت: 

وأرصـدنا لـريب الـدهر جرداً

تكون مـتونـها حصناً حـصيناً

إن حاجة العربي في الجاهلية إلـى الخيل جعلته ينظر إليها باعتبارها الحصن الحصين، والدرع المتين، والصاحب المؤازر والمعين، وإنما كانت القبائل تقاس من حيث القوة والضعف بأعداد الخيل عندها، وليست الأعداد فحسب، بل بمدى ما يبذل في سبيل هذه الأعداد من عناية ورعاية وإكرام وتدريب وتربية. 

ولقد علم العربي –وقتئذ– أن إكرامه لخيله إنما هو –في الحقيقة– إكرام لنفسه، وأن إهانته وتحقيره لها ما هو إلا تحقير لذاته، وكان هذا هو الميزان الخلقي الذي كانت العرب في الجاهلية تزن به الكريم من الرجال وغير الكريم، قال أحد شعراء بني عامر بن صعصعة:

بني عامر، مالي أرى الخيل أصبحت

بطانـاً, وبـعض الضمر للخيل أفضل

أهينوا لـها مـا تكرمـون وباشـروا

صيـانـتها, والصون للخيل أجـمل

متى تكرموها يكرم الـمرء نـفسه

وكل امرئ من قـومه حـيث ينـزل

بني عامـر، إن الخـيول وقايـة

لأنـفسكم، والوقـت وقـت مؤجل

وقد استشعر عنترة بن شداد هذا المعنى الكريم وهذا السلوك الحسن مع الخيل؛ فكان يكرم فرسه (جروة)، فلا يهملها ولا يعيرها وإنما يقربها من داره ويصونها في كل الأوقات لاسيما إذا أقبل الشتاء واشتد برده، يقول:

ومـن يـك سائلاً عـني فإنـي

وجــروة لا تـرود ولا تـعـار 

مـقربـة الشـتاء ولا تـراهـا

وراء الـحـي؛ يـتبعها الـمهار 

لـها بالـصيف أصبـرة وجـل

ونـيب من كـرائـمـها غـزار

ولم يأنـف العربي قط من خدمته لفرسه، بل كان يجد –فـي ذلك– متعة ولذة لا يعدلهـا شيء؛ فهو لا يبذل خدمته ولا يجهد نفسه إلا في سبيل غال يجدر به أن يخدم، ونفيس حري به أن يكرم، وعلى ذلك كانت خدمة العربي لفرسه معدودة فـي سياق الخمسة التي لا يستحيى من خدمتها: (السلطان والعالم والوالد والضيف والفرس).

وفـوق صهوات الخيول وجـد الفارس العـربي فـي الجاهلية ذاتـه واعـتزازه بنفسه، واستطاع أن يحقق طموحاته أيـاً كانـت تلك الطموحات، بل وكـان يرفع رأسه زهـواً وفخراً وحماسة عندما كان يركب فرساً أصيلة كريمة تحمل صفات العتق، وكـم كان وهـو فـي تلك اللحظات مـن الزهو والنشوة يغـدق على فرسه من أوصاف الكمال وصفات الجمال ما رأيناه مصوراً في قصائد أولئك الشعراء تصويراً يعجز عـن محاكاته أبـرع الرسامين؛ فهذا امرؤ القيس –وهـو الذي حـمل رايـة السبق والتقـدم فـي وصف الخيل– يجـد نفسه متمـثلـة فـي صورة فرسـه، ويصورهـا لنا وهـو فـي جحيم الـغارة الشـعـواء، فيقول: 

قـد أشهد الـغارة الشعـواء تحملني 

جـرداء مـعروقة اللحيين سرحوب 

قبـاء فـيها إذا اسـتقبلـتها تـلع 

للناظرين، وفـي الرجلـين تحنيب 

إذا تـبصـرها الـراؤون، مـقبلـة 

لاحـت لهم غـرة مـنها، وتجبيب 

رقـاقـها ضـرم، وجـريها خـذم، 

ولحمها زيـم، والـبطن مـقبـوب 

والعـين قـادحـة، والـيد سابحة 

والرجل طامـحة، واللون غـربيب 

والـماء مـنهمر، والشـد منحدر، 

والقصب مضطمر، والمتن ملحـوب 

إنه يبدأ حديثه عن (الغارة الشعواء) بـ(قـد) التي هي للتحقيق، ولغتـه هنا لـغة تصويرية؛ حيث صور هيئته معتداً بنفسه مزهواً بـها، وقد حملته فـرسه التي تضاءلت أمام هيبتها وقوتـها وتـماسك أعضائها أهوال المعركة التي وصفها بـ(الشعواء)؛ بمعنى (الـمنتشرة الـمتفرقة الفاشية)، وما فـي هذا الوصف من امتداد لا حدود له، والفعل: (أشهد) من الأفعال الموحية باعتداد امرئ القيس بنفسه، وهو يذكرنا بالفعل المتكرر في المعلقة وفـي غير المعلقة (أغتدي)، عندما يحرص على أن ينسب الأفعال العظيمة إلى نفسه فحسب، وكأنما هذه الأفعال النبيلة الرفيعة من مثل حضور الغارات، والاغتداء للصيد إنما هي له؛ فهو الذي يحتملها وحده، وهو الذي يستطيعها، وهـو الذي يجمع قواه وقدرته لها. 

ثم جاء بجملة: (تحملني)؛ ليعزز ثقته بنفسه؛ إذ هو الفارس الجدير بأن يحمل على صهوة هذه الفرس العريقة الكريمة، ويعزز –في الوقـت نفسه– ثقته بهذه الفرس التي تحمله، ثم ما رسمته لنا هذه الجملة من صورة نفسية معالمها الراحة والطمأنينة، وامتصاص الخوف من القادم الذي يسير نحوه. 

صور لنا امرؤ القيس فرسه فرساً قصيرة الشعر، قليلة لحم الخدين، طويلة مشرفة، متناسبة الأعضاء، محجلة ولها غرة، وهي ضامرة ولا تبالي بأن تسرع فيـما رق من الأرض، عينها غائرة وإذا مدت يدها بدت كأنها تسبح، منهمرة العرق، دهماء اللون،.. وكل ما يريده امرؤ القيس من هذه الصورة هو تأكيد عتق فرسه وكرم أصلها، وما تحمله من رمزية البطولة المنتشرة في فضاء مطلق لا يقيده بزمان ولا مكان. 

التعليقات: 3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *